إلى أي مدى نجحت الوساطة المصرية بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية؟

لم يكن الاتفاق الفني الذي أُعلن في القاهرة يوم التاسع من سبتمبر 2025 مجرد تسوية تقنية بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والوكالة الدولية للطاقة الذرية، بل كان ثمرة مسار دبلوماسي معقّد تداخلت فيه الحسابات السياسية الإقليمية والدولية. فقد عبّر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، في تغريدة على منصة “إكس”، عن شكر بلاده العميق لمصر، قائلاً إن التعاون مع الوكالة الدولية ما كان ليتحقق إلا بفضل “مساعي معالي وزير الخارجية المصري، ودعم فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي”، مؤكداً أن الشعب الإيراني صديق لجميع الدول التي تفضّل طريق السلام على دروب الصراع والتوتر. هذه الرسالة المفعمة بالإشادة لم تأتِ من فراغ، بل تعكس حجم الدور المصري الذي استطاع أن يفتح نافذة للحوار في وقت انسدت فيه معظم القنوات.
دلالات استضافة القاهرة:
اختيار العاصمة المصرية لاستضافة لقاء جمع وزير الخارجية الإيراني بمدير الوكالة الدولية رافاييل غروسي لم يكن حدثاً بروتوكولياً عادياً. فالقاهرة قدمت نفسها كمنصة تفاوض محايدة، قادرة على استيعاب طرفين يختلفان في الرؤى السياسية والأمنية، وتملك من الشرعية التاريخية والرصيد العربي والإسلامي ما يسمح لها بتقديم إطار تفاوضي مقبول من طهران، وفي الوقت نفسه يتيح للوكالة الدولية الدفاع عن متطلباتها الفنية في بيئة آمنة وموضوعية.
هذا الاختيار يكشف إدراكاً إيرانياً أن التفاوض في القاهرة أفضل من الدخول في مسار تفاوضي مباشر مع عواصم غربية، حيث تُثقل الأجواء بشروط سياسية وضغوط إعلامية. وفي المقابل، فإن الوكالة الدولية رأت في القاهرة مكاناً ملائماً لإدارة نقاش فني بعيد عن الاصطفافات الحادة، وهو ما يوضح أن الوساطة المصرية نجحت منذ البداية في توفير “أرضية حياد” تعطي زخماً للعملية الدبلوماسية.
محورية الدور المصري:
الإشادات الإقليمية والدولية بالدور المصري في هذه الوساطة تعكس وعياً متزايداً بأهمية عودة القاهرة إلى لعب أدوار دبلوماسية في الملفات الشائكة. فمصر لم تكتفِ بعرض قاعة للاجتماع، بل أدارت وساطة معقّدة شملت تنسيقاً غير معلن مع عواصم أوروبية وواشنطن، وضغطاً ناعماً على الطرفين للوصول إلى جدول أعمال عملي. لقد عملت القاهرة على تقليل نقاط الاحتكاك الصعبة، وصاغت تفاهمات تقنية قابلة للتنفيذ، بدلاً من الاكتفاء ببيانات عامة تُضاف إلى أرشيف طويل من الوثائق غير المفعّلة.
وهنا تبرز أهمية هذا التحرك: فنجاح الوساطة لم يكن فقط في التوصل إلى اتفاق، بل في إنتاج “معادلة توازن” تسمح لكل طرف بالحفاظ على ماء وجهه. فإيران حصلت على فرصة لعرض التزامها المشروط، فيما ضمنت الوكالة الدولية عودة جزئية للتفتيش والرقابة. وبينهما، ظهرت القاهرة بوصفها الطرف الذي يملك القدرة على تحويل السجال السياسي إلى مسار فني يركّز على الآليات الواقعية.
من زاوية المصالح المصرية، فإن هذا الاتفاق يعزز مكانة القاهرة كوسيط إقليمي ودولي قادر على التعامل مع ملفات حساسة متعددة الأبعاد. ففي لحظة يتزايد فيها الاستقطاب الدولي حول الملف النووي الإيراني، نجحت مصر في أن تطرح نفسها كقوة دبلوماسية وسطية تملك رصيداً تاريخياً وتستند إلى شبكة علاقات متوازنة مع القوى الكبرى. هذا الرصيد يمكن أن يُترجم لاحقاً إلى قنوات تأثير في ملفات أخرى، سواء على صعيد أمن الخليج أو في أزمات شرق المتوسط أو حتى في القضية الفلسطينية.
كما أن نجاح هذه الوساطة يمنح القاهرة “ورقة اعتماد” إضافية لدى الأطراف الغربية، التي تدرك أن التعامل مع إيران يحتاج إلى وسطاء موثوقين. ومن جانب آخر، فإن طهران بدورها ترى في القاهرة منصة يمكن الاعتماد عليها في كسر العزلة الدبلوماسية وتخفيف الضغوط الغربية، وهو ما قد يمهّد لمزيد من الانفتاح المتبادل مستقبلاً.
نجاح مشروط:
لكن السؤال الأهم يبقى: إلى أي مدى يمكن لهذا الاتفاق أن يصمد أمام التحديات؟
صحيح أن الوساطة المصرية نجحت في انتزاع تفاهم تقني، إلا أن هذا التفاهم يظل مشروط بعدة عوامل سياسية وأمنية. فإيران أعلنت بوضوح أنها لن تلتزم إذا تعرضت لعمل عدائي جديد أو إذا أُعيد فرض عقوبات أممية وغربية صارمة مثل آلية “سناب باك” التي بدأت بعض الدول الأوروبية في تفعيلها. يضاف إلى ذلك أن البرلمان الإيراني منح المجلس الأعلى للأمن القومي حق الموافقة النهائية على أي عمليات تفتيش، ما يعني أن أي اتفاق خارجي يظل رهناً بالحسابات الداخلية الإيرانية.
هذا التعقيد يضع القاهرة أمام اختبار مزدوج: الأول ضمان استمرارية التواصل بين طهران والوكالة، والثاني إدارة ردود فعل القوى الغربية التي تطالب بالتزام إيراني كامل وفوري. فالغرب لن يقبل بسهولة بتفاهمات مؤقتة أو جزئية، فيما تخشى إيران من أن يتحول التعاون إلى أداة ضغط إضافية. وبالتالي فإن الوساطة المصرية ستظل مطالبة بجهد مستمر للحفاظ على خيوط التفاهم ومنع انهياره.
ينبغي أيضاً قراءة هذا الاتفاق في سياق أوسع يتعلق بخريطة التوازنات الإقليمية. فعودة الوكالة الدولية إلى طهران ـ ولو بشكل محدود ـ تخفف من احتمالات التصعيد العسكري، سواء عبر ضربات إسرائيلية أو عبر تصعيد أميركي. ومن هنا، فإن نجاح الوساطة المصرية يسهم في تقليل مخاطر اندلاع مواجهة إقليمية مفتوحة، ويمنح الأطراف فرصة لإعادة ترتيب حساباتها.
كما أن هذا الدور المصري ينسجم مع مساعٍ إقليمية أوسع لإعادة ضبط التوازن بين إيران وجوارها العربي، خصوصاً أن القاهرة تحرص على عدم الدخول في اصطفافات حادة بين طهران من جهة والرياض أو أبوظبي أو العواصم الغربية من جهة أخرى. ومن ثم، فإن الوساطة الحالية قد تكون مدخلاً لتوسيع دور مصر في ملفات إقليمية أخرى تتعلق بالأمن الجماعي العربي.
وعليه، يمكن القول إن الوساطة المصرية بين إيران والوكالة الدولية حققت نجاحاً ملموساً على المستوى الدبلوماسي والفني، لكنها تظل نجاحاً مشروطاً بعوامل كثيرة. فإذا تُرجمت التفاهمات إلى زيارات تفتيش فعلية وإجراءات شفافة، فسيُسجَّل للقاهرة أنها فتحت مساراً جديداً في الملف النووي الإيراني. أما إذا عادت التوترات سريعاً بفعل العقوبات أو التصعيد العسكري، فإن الاتفاق لن يتجاوز كونه محطة عابرة في مسار طويل من الأزمات.
في كل الأحوال، ما تحقق في القاهرة يُظهر أن مصر لا تزال قادرة على لعب دور الوسيط النشط في القضايا الدولية، وأنها تملك من الرصيد السياسي ما يؤهلها لفتح قنوات جديدة بين أطراف متخاصمة. وهذا بحد ذاته مكسب استراتيجي يُحسب للدبلوماسية المصرية، حتى وإن ظل النجاح النهائي رهناً بتطورات الأسابيع والأشهر المقبلة.