حدود التعافي: مخاطر التحوّلات الديمُغرافية لدى سكان غزة

جاء اتفاق وقف إطلاق النار علي قطاع غزة كخطوة للتهدئة بعد حرباً إسرائيلية دامت لـ 15 شهراً خلفت وراءها معاناة ومأساة حقيقية لسكان القطاع وإلحاق الدمار بكل أوجه الحياة والبنية الأساسية هناك ، فقد أثرت الحرب بصورة مًدمرة علي كافة النواحي الاقتصادية والاجتماعية والنفسية للمواطنين الفلسطينيين، فمنذ الـ7 من أكتوبر2023 تعرض القطاع لدمار هائل نتج عنه انعدام الظروف المعيشية اللازمة لسكان القطاع وانعدمت الخدمات الصحية والغذائية هناك فانقسم المشهد بقطاع غزة ما بين موجات من النزوح والتهجير القسري، وموجات أخري من الشهداء والمصابين لاسيما من الأطفال والنساء وكبار السن ما أثر بصورة واضحة علي أوضاع السكان ومستقبلهم بقطاع غزة، وتأسيساً علي ما سبق يمكن طرح تساؤل حول مآلات الحرب الإسرائيلية علي الوضع الديموغرافي لسكان قطاع غزة؟
خصائص ما قبل الحرب:
تشير الأرقام إلى أنه كان يقيم بقطاع غزة ما قبل الـ7 من أكتوبر 2023 نحو 2.3 مليون فلسطيني علي مساحة قدرها 365 كم2، أي ما يمثل نحو 40 % من سكان الأراضي الفلسطينية كانوا يقطنون القطاع، وكانت تشير المُعطيات إلي أن عدد الأُسر الفلسطينية التي تقيم بالقطاع، قد بلغت حينها حوالي 400 ألف أسرة، كما أن التركيب العمري لسكان القطاع كان يشير إلي ارتفاع نسبة الشباب والأطفال، فقد بلغت نسبة الأفراد دون سن الـ17 عاماً ” الأطفال وفق تعريف منظمة اليونسيف ” نحو 47% من السكان، وأن نسبة الأفراد دون سن الـ 30 عاماً نحو 70%، بينما تًشكل نسبة كبار السن فوق الـ65 عاماً نحو 3% فقط، كما أن معدل المواليد في القطاع سنوياً كان يُقدر بنحو 60 ألف حالة ولادة بينما تُقدر حالات الوفيات المسجلة سنوياً في الأوضاع العادية بنحو 9 آلاف حالة وفاة .
مآلات الحرب:
دفع الشعب الفلسطيني تكلفة اجتماعية كبيرة بسبب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، حيث خلفت واقع إنساني كارثي ومأساوي سيستمر أثره لسنوات عدة، فقد شهد القطاع دماراً واسعاً في أعقاب العمليات البرية والجوية من قبل الاحتلال الإسرائيلي منذ الـ 7 أكتوبر 2023، فتبعاً لتحقيق نشرته ” فاينانشال تايمز” في وقت سابق، أنه قد أُجبر أكثر من 85 % من سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون فلسطيني علي ترك منازلهم منذ بدء الحرب، وتم الضغط عليهم للنزوح من الشمال إلي مناطق أضيق من أي وقت مضي في الجنوب، فقبل الحرب كان معظم سكان غزة يعيشون في مدنها ” رفح وخان يونس ” في الجنوب و” دير البلح ” في الوسط و”مدينة غزة” في الشمال، التي كان يسكنها نحو 775 ألف فلسطيني، لكن أصبح كلهم جميعاً تقريباً نازحين، فغزة التي يبلغ طولها 41 كم2، وعرضها 10 كم 2 أصبحت غير صالحة للسكن في أجزاء كبيرة منها نتيجة الحرب، وقد نزحت العائلات عدة مرات في بداية الحرب، وذلك عندما غيرت إسرائيل تركيز عملياتها، إذ طلبت في البداية من سكان الشمال الانتقال إلي الجنوب من ” نهر وادي غزة ” الذي يقسم القطاع إلي نصفين تقريباً، ثم أعلنت في وقت لاحق سلسلة من مناطق الإخلاء في الجنوب. وعليه، فقد لجأ النازحون هناك إلي المباني السكنية المكتظة والمدارس والمستشفيات والمباني التي تستخدمها “الأونروا” ، فضلاً عن استخدام الخيام والتي أظهرت صور الأقمار الصناعية انتشارا واسعاً لها والتي نصبها النازحون في “المواصي” التي صنفتها إسرائيل حينها ” منطقة إنسانية “، حيث قدرت الأمم المتحدة حينها أن أكثر من 1.2 مليون شخص كانوا يحتمون في ” المواصي “، ثم وسع الاحتلال الإسرائيلي في مايو 2024 المنطقة العازلة لتشمل أجزاء من ” خان يونس ودير البلح ” بعد أن شن هجوم بري علي رفح الفلسطينية التي لجأ أكثر من مليون فلسطيني إليها، وباتت حينها مكتظة بالسكان، وتجاوزت قدرتها الإستعابية بكثير.
وفي ضوء ما سبق، تشير تقديرات حالية للأمم المتحدة إلي أن أكثر من 170 ألف منزل دمرت من جراء القصف، بينما دُمر ما يزيد عن 40 ألف وحدة سكنية بالكامل، وهذا ترك ما يزيد عن 1.8 مليون شخص يحتاجون حالياً إلي مأوي في غزة ” وفقاً لمكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية “، فهؤلاء مشردون في الخيام حتي الخيام قد داهمتها مياه الأمطار وأصبحت تشبه ” ثلاجات الموتي” في ظل الأجواء الشتوية الحالية. وتشير تقديرات للأمم المتحدة إلي أن 1.9 مليون شخص علي الأقل في أنحاء قطاع غزة نازحون ” تهجير قسري” من الشمال إلي جنوب القطاع، أي أن نحو 90 % من سكان القطاع، قد نزح كثيرون منهم مراراً وتكراراً بعضهم 10 مرات أو أكثر ما بين 7 أكتوبر 2023 حتي 14 يناير 2025، وأغلبهم لن يعودوا إلي منازلهم أو شوارعهم، ولا يعرف الكثيرون ما إذا كانت منازلهم لا تزال قائمة.
إن ما يزيد الوضع سوءاً بالنسبة لعودة السكان، هو تقسيم الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة علي 3 محاور عسكرية و5 معابر إسرائيلية، والعمل علي توسيعها خلال فترة الحرب، فقد تم ذلك بفعل عمليات التهجير القسري لسكان القطاع، ونسف المربعات السكنية هناك وتسويتها بالأرض. فقد ذكرت صحيفة ” يديعوت أحرنوت ” أن محور” نتساريم ” الذي يفصل بين شمال وجنوب القطاع، دأب الجيش الإسرائيلي علي توسيع مساحته لتتجاوز ما مساحته 56 كم2 من أصل المساحة الأصلية لقطاع غزة التي تبلغ 365 كم2، وبحساب مجموع الأراضي التي تمتد عليها تلك المحاور والمعابر نجد أن تضم حوالي ثلث مساحة الأراضي الفلسطينية في قطاع غزة . أما عن تقديرات عدد الشهداء بالقطاع منذ بدء الحرب، فقد اقترب العدد الرسمي من 50 ألف شهيد أغلبهم من الأطفال والنساء، ومن المرجح أن يكون هذا الرقم أقل بكثير من العدد الحقيقي فهناك الآلاف من الجثث لا تزال مدفونة تحت الأنقاض بالإضافة إلي 110 آلف شخص مصاب .
اتجاه محتمل:
ما سبق، يجعل من المرحلة القادمة، مُعقدة وقد تستغرق عدة سنوات، وذلك لإزالة الأنقاض وإعادة الإعمار للقطاع، فقد أظهرت تقارير للأمم المتحدة أن إعادة بناء المنازل المُدمرة في القطاع، قد يستمر حتي عام 2040 علي الأقل وقد يطول الأمر لعدة عقود، بالإضافة إلي علاج الآثار النفسية للحرب علي سكان القطاع نتيجة تعرضهم لظروف الحرب من رعب وقصف وخسارة بشرية، فهناك بعض التقديرات تشير إلى أن ما يقرب من نصف مليون شخص يحتاجون إلي علاج نفسي، هذا إلي جانب الآثار الاجتماعية للحرب، التي أدت إلي تأثيرات كارثية علي الأطفال والأسر بقطاع غزة، فهناك أكثر من 17 ألف طفل يتيم فقدوا عوائلهم من الأب والأم. بجانب الأطفال، فإن هناك آباء في سن العمل فقدوا حياتهم، فضلاً عن زيادة أعداد حالات الانفصال وتعرض النساء إلي ظروف صعبة غير ملائمة لطبيعتهم البشرية ، كما أن هناك حوالي 50 ألف امرأة حامل في غزة يواجهن معاناة شديدة بسبب الظروف الصحية الصعبة. أما بالنسبة للأطفال فستخلد الحرب آثاراً وضغوط نفسية عليهم نتيجة ما شهدوه من عدوان علي القطاع، فيوجد الآلاف من الأطفال يعانون من صدمة عميقة ويعيشون تحت الأنقاض ومازالوا محرومين من التعليم، فتبعاً لبعض التقديرات فهناك أطفال خارج التعليم الرسمي بنحو ما يُقدر بنحو 660 ألف جميعهم في سن المدرسة، ما يُنذر بمستقبل مؤلم لهؤلاء الأطفال في غزة.
حدود التعافي:
التغيرات السلبية التي أضرت بالتوزيع الجغرافي للسكان في غزة، بالإضافة إلى الهجرة الداخلية، والتغير في الواقع الاقتصادي في جميع مناطق القطاع، تصعب من التعافي السريع لما حدث من مخاطر ديمغرافية على الواقع الاجتماعي لفترة ما قبل حرب غزة، وعلية يمكن التأكيد على صعوبة التعافي السريع للبيئة الديمغرافية في القطاع وذلك للأسباب الأتية، هي:
(*) التحولات الجيوسياسية التي تسبب فيها جيش الاحتلال وانعكاساتها السلبية على الواقع الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والديموغرافي في قطاع غزة بالكامل.
(*) ارتفاع تكلفة إعادة الاعمار وعدم وضع تصور متفق عليه من كافة الأطراف الدولية، سيطيل من مدة عودة المناطق السكنية التي تعرضت للسقوط إلى واقعها القديم أو ما يقترب منه، وعليه تستمر الهجرة الداخلية في القطاع، التي يترتب عليها استمرار التوزيع الجغرافي غير المتوازن للسكان بين مناطق القطاع حتى استكمال إعادة الإعمار.
(*) المشهد العسكري الذي أظهرته عناصر حماس أثناء تسليم الأسري الإسرائيليين الثلاثة بعد وقف إطلاق الناس، وحالة القلق الإسرائيلي التي ترتبت على هذا المشهد، تشير إلى احتمالات تجدد الاشتباكات بين الطرفين، وهو ما يؤدي إلى ابتعاد السكان العائدون عن المناطق المحتمل تجدد النزاع فيها، وهو يؤدي إلى تغير في مستوى الكثافة السكانية لفترة طويلة.
وختاماً، فإن الحرب الإسرائيلية علي قطاع غزة، خلفت واقعاً ديموغرافياً جديدًا نتج عنه أوضاع إنسانية كارثية، يُعاني منها سكان القطاع لفترات زمنية طويلة. فإنهاء الحرب والوصول إلي اتفاق للتهدئة لن يكن الحل الفوري لعلاج مآلات الحرب والحد من تأثيراتها التي لم تقتصر علي كونها آثار سياسية واقتصادية، فحسب بل امتدت لتًحدث آثار إنسانية ونفسية طالت كافة فئات سكان القطاع والتي سيكون لها من المآلات علي مستقبل القطاع خلال الأعوام القادمة.