ماذا يحمل سد النهضة تجاه أطراف أزمته؟

مع إعلان إثيوبيا في أكتوبر 2024 انتهاء الملء الخامس للسد الإثيوبي الكبير التي وصلت سعته التخزينية إلى أكثر من 62 مليار متر مكعب من المياه، وتزامنًا مع حدوث الزلازل المتكررة في إثيوبيا خلال الأسابيع القليلة الماضية، أثيرت عدة تساؤلات حول السد الإثيوبي، وهي: ما هي التحديات التي تواجها إثيوبيا بعد ملء السد؟، وماهي الانعكاسات السلبية على دول حوض النيل جراء هذا الملء؟، وما التحركات المحُتمل أن تتخذها دول المصب؟، وما المخاطر التي قد يتعرض لها السد في ظل السعة التخزينية الكبيرة؟.
وتجدر الإشارة إلي أن إثيوبيا بدأت في بناء سد النهضة الإثيوبي الكبير في عام 2011 على النيل الأزرق، ويُعد الهدف الرئيسي منه هو إنتاج الطاقة الكهرومائية، ويقع السد على بعد 30 كم من الحدود مع السودان، ويبلغ طوله 1.8 كم وارتفاعه 145م، وقد بدأت أديس أبابا المرحلة الأولي من ملء سد النهضة في منتصف عام 2020.
تحديات رئيسية:
بعد إعلان إثيوبيا عن اكتمال الملء الخامس لسد النهضة الإثيوبي الكبير، لا تزال هناك عدة تحديات رئيسية، يتم توضيح أبرزها فيما يلي:
(*) التوترات مع دول المصب: تتمسك مصر والسودان بحقهما في مياه النيل وفقًا لاتفاقيتي 1929 و1959، فضلاً عن إعلان المبادئ الثلاثي المُوقع في الخرطوم عام 2015 والذي ينص على موافقة مصر والسودان على أي مشاريع على نهر النيل قبل القيام بها، في حين تتسمك دول المنبع بتنفيذ اتفاقية عنتيبي المُوقعة عام 2010 من قبل بعض دول النيل، والتي تسمح لهم بإنشاء مشروعات ري وسدود لإنتاج الكهرباء دون التوافق مع دولتي المصب. وبعد إعلان إثيوبيا اكتمال الملء الخامس للسد، تتخوف البلدين من أن يؤثر انخفاض تدفق مياه النيل على الري وتوليد الطاقة الكهرومائية وتوافر المياه بشكل عام، خاصة وأنه لا يوجد حتي الآن اتفاق قانوني ملزم بشأن ملء وتشغيل السد، الأمر الذي قد يفاقم من التوترات بين أديس أبابا ودولتي المصب.
وتجدر الإشارة إلى أن مصر تُعاني من نقصًا في المياه يقدر بنحو 55%، من احتياجاتها في حين تعتمد على مورد مائي واحد وهو نهر النيل بنسبة 97% أي 55.5 مليار متر مكعب سنويًا، ونظرًا للتعنت الإثيوبي في الاستمرار في ملء السد، تقع مصر تحت خط السفر المائي العالمي في الوقت الراهن بحوالي 500 متر مكعب للفرد سنويًا، حسب بيانات الري المصري.
(*) مدي سلامة السد: نظرًا للزلزال المتكررة خلال الفترة الحالية، تتزايد المخاوف بشأن سلامة بنية سد النهضة، فضلاً عن المخاطر المحتملة المرتبطة ببنائه وتشغيله، لذلك لابد من إجراء دراسات جيولوجية وبيئية حديثة للمنطقة المحيطة بالسد، للحفاظ على سلامة السد، خاصة وأن المنطقة نشطة زلزاليًا، وكان قد أجري مكتب الاستصلاح الأمريكي دراسات بين عامي 1958 و1964 بطلب من أديس أبابا، والتي تم من خلالها تحديد حجم التخزين على أن لا يتجاوز 11.1 مليار متر مكعب، وهو ما لم تنفذه إثيوبيا إذا استمرت في ملء السد إلى أن وصل إلى أكثر من 62 مليار متر مكعب من المياه.
(*) البنية التحتية: توفير البنية التحتية الملائمة، مثل الطرق والمواصلات والمرافق، يُعد ضروريًا لنجاح مشروع سد النهضة بشكل كامل؛ ولكن كثرة الزلازل قد تؤثر على هذه البنية بشكل كبير، ووفقًا للخبراء فإن مثل هذه الزلازل إذا استمرت فقد تُعرض البنية الأساسية الحيوية للخطر مثل الطرق والسدود ومرافق الطاقة توليد الطاقة التي تُعد الهدف الأساسي من بناء السد.
(*) عدم القدرة على تشغيل التوربينات: على الرغم من أن سعة تخزين المياه كافية لتشغيل التوربينات، إلا أنها تواجه مشاكل في التشغيل، وفي أغسطس توقفت التوربينات عن التشغيل وعادت إلى العمل في منتصف ديسمبر 2024، ومع وصول تدفق مياه النيل نحو 50 مليون متر مكعب يوميًا، لا يتم تشغيل التوربينات سوي 12 ساعة فقط يوميًا، ففي حال استمرت التوربينات في التشغيل بعدد ساعات أكبر فقد تسحب من المياه المخزنة في السد. وعليه، فإن الغرض الأساسي من السد هو توليد الكهرباء، وهو ما لم تنجح به إثيوبيا حتي الآن. كما لم تتمكن إثيوبيا من تركيب العدد المخطط له من التوربينات، وقد يرجع الخبراء السبب في عدم تشغيل التوربينات بشكل منتظم إلى وجود عدة أسباب، منها أعطال فنية، أو أسباب مالية، أو عدم وجود شبكة كهرباء لتوزيع الطاقة التي يولدها السد.
(*) التوترات العرقية والسياسية الداخلية: قد تؤثر التوترات العرقية والتعددية الإثنية على الاستقرار الداخلي للبلاد الذي قد يؤثر على إدارة وتنفيذ المشروع الإثيوبي الضخم، فعلى المستوي الداخلي، تشهد إثيوبيا تنوع عرقي يتسبب من وقت لآخر في حدوث صراعات داخلية تصل أحيانًا إلى حروب أهلية، وهو ما تستغله قوي إقليمية ودولية للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد من أجل تعزيز مصالحهم، وتنحصر المجموعات العرقية في إثيوبيا في الأورومو والأمهرة والتيجراي والصوماليون وأعراق أخري متعددة، فضلاً عن أن أديس أبابا يوجد بها تنوع لغوي وديني فكل مجموعة عرقية لها لغة ودين خاص بها.
انعكاسات سلبية:
قد ينتج عن ملء السد الإثيوبي انعكاسات سلبية على دول المصب، قد تتفاوت شدتها وفقًا لحجم الملء وطريقة التشغيل، وأبرز تلك الانعكاسات ما يلى:
(&) نقص حاد في مياه النيل: من المُرجح أن يؤدي ملء السد بشكل متكرر وبسعة تخزينية كبيرة إلى تقليل تدفق المياه بكمية كبيرة إلى دول المصب، مما قد يؤثر سلبًا على إنتاج المحاصيل الزراعية التي قد تؤثر على الأمن الغذائي، فضلاً عن التأثير على إنتاج الطاقة الكهرومائية، والإمدادات المائية للشرب والصناعة، خاصة وأن مصر والسودان تعتمد بشكل كبير على مياه النيل، لذلك فإن نقص المياه قد يتسبب في أضرار اقتصادية واجتماعية لدولتي المصب.
(&) تزايد التوترات بين إثيوبيا ودولتي المصب: قد يؤدي عدم التوصل إلى اتفاق مُرضي لجميع الأطراف بشأن ملء وتشغيل السد إلى تصعيد التوترات وزيادة الخلافات بين إثيوبيا ودولتي المصب، مما يهدد الاستقرار الإقليمي.
(&) حدوث مخاطر لدولتي المصب: قد تحدث عواقب مُحتملة على مجري النيل في حالة حدوث فيضانات قد تنشأ عن فشل بنية السد، مما قد يحدث مخاطر كبري على السودان التي تبعد حدودها 30 كم فقط عن السد، فضلاً عن تؤثر السد العالي لمصر من تدفق المياه.
تحركات مُحتملة:
قد لا يكون أمام مصر والسودان سوء حلين إحداهما التعامل مع الواقع، والأخر البحث عن البدائل، ويتم توضيح ذلك بشكل أكثر تفصيلاً فيما يلي:
1-التعامل مع الواقع: قد تلجأ دولتي المصب للتعامل مع الأدوات المتاحة من خلال الآتي:
(-) استكمال المفاوضات: قد تلجأ دولتي المصب لاستكمال المفاوضات التي توقفت في ديسمبر 2023 في محاولة للتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن عملية ملء وتشغيل السد، ومن المُرجح مع عودة ترامب للبيت الأبيض أن تلعب الولايات المتحدة دور كبير في استكمال محادثات الوساطة التي تولتها واشنطن سابقًا بشأن قضية سد النهضة في 2019-2020، والتي نتج عنها التوصل لاتفاق وقعته مصر، بينما امتنعت إثيوبيا عن التوقيع على الاتفاق النهائي. كما قد يعتمد استئناف المفاوضات على أولويات السياسة الخارجية لترامب، فضلاً على ضرورة موافقة جميع الأطراف المعنية واستعدادها للتفاوض للتوصل إلى تسوية.
(-) التحكيم الدولي: قد تضطر مصر إلى اتخاذ خطوات قانونية بشأن سد النهضة إذا استمرت التوترات بشأن تشغيله، وذلك من خلال عرض القضة أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بموجب الفصل السابع الذي يتضمن تحديد الإجراءات اللازمة لمواجهة أي تهديدات، فضلاً عن المادة 51 الخاصة بحق الدفاع عن النفس أو اللجوء إلى محكمة العدل الدولية لحماية حقوقها المائية.
(-) الضغط الدولي: قد تسعي دولتي المصب للحصول على دعم من المجتمع الدولي، وخاصة الامم المتحدة والاتحاد الأفريقي والشركاء الدوليين والإقليميين المؤثرين مثل الولايات المتحدة وروسيا وتركيا والإمارات، لممارسة الضغط على إثيوبيا من خلال التوسط لإيجاد حلول تضمن حق مصر والسودان في مياه النيل.
(-) الاستعداد للطوارئ: احتمالية لجوء دولتي المصب لتعزيز خطط الطوارئ المائية في حال حدوث أي نقص محتمل في المياه، بما في ذلك تحسين كفاءه استخدام المياه والاستثمار في تقنيان الري الحديثة وتحلية المياه.
2-البحث عن البدائل: قد تسعي دول المصب للبحث عن بدائل من خلال ما يلي:
(-) التعاون الإقليمي: قد تسعي دولتي المصب وخاصة مصر إلى التعاون مع دول حوض النيل الأخري لتحقيق توازن واستدامة في استخدام مياه النيل، فضلاً عن تعزير التعاون مع دول الجوار الإثيوبي لا سيما الصومال وإريتريا من خلال توقيع اتفاقيات للتعاون الثلاثي في مختلف المجالات، في إطار سعي مصر للحفاظ على حصتها من مياه نهر النيل، وفي ظل التأثيرات المُحتملة من تدفق مياه السد، لذلك ترغب مصر أيضًا في بناء تحالفات قوية مع دول المنبع من خلال تعزيز التعاون في مجالات مثل التنمية المستدامة وإدارة المياه، وكانت البداية مع رواندا حيث قامت مصر بتوقيع “مذكرة تفاهم” معها في 13 يناير الجاري في مجال المياه لسد احتياجات كيجالي من المياه، وفي المقابل تسعي القاهرة لتأمين حصتها من مياه النيل المشترك.
(-) شراء الكهرباء من إثيوبيا: قد تتوسع إثيوبيا في استراتيجية بيع الكهرباء، خاصة وأنها تصدرها إلى السودان وكينيا وجيبوتي بموجب اتفاقيات تصدير مشترك، فضلاً عن استعداد أديس أبابا لتصدير الكهرباء إلى تنزانيا قريبًا، ولكن مثل هذه القرارات سيؤثر على أي مفاوضات سياسية بشأن حقوق المياه في نهر النيل.
(-) التفكير في مشاريع جديدة: قد تتجه دولتي المصب إلى التفكير في مشاريع بديلة أو تطوير وسائل تكنولوجية لتحسين إدارة المياه والمشاريع الزراعية لمواجهة نقص المياه، سواء من خلال استخراج المياه الجوفية، أو إعادة استخدام مياه الصرف ومعالجتها، خاصة وأن مصر قامت بفتح محطة من أكبر المحطات في العالم لمعالجة مياه الصرف الصحي في بحر البقر في سيناء منذ عامين، كما قد تسعي مصر لبناء سلسلة من محطات التحلية.
مخاطر وارده:
قد يكون هناك مخاطر نتيجة للاستمرار الإثيوبي في ملء السد بسعة تخزينية كبيرة، فضلاً عن الظواهر الطبيعة التي قد تؤثر على سلامة السد، ويتم توضيح ذلك على النحو التالي:
(#) احتمالية تسرب مياه السد: مع استمرار إثيوبيا في ملء السد إلى أن وصل إلى أكثر من 62 مليار متر مكعب، وهي سعة تخزينية كبيرة قد تفوق قدرة السد، فضلاً عن احتمالية حدوث فيضانات، زادت المخاوف من امكانية أن يتسبب مخزون المياه أو الفيضانات في حدوث تسرب في خزائن مياه السد بشكل كبير، خاصة وأن هناك خبراء تؤكد على تسرب كميات كبيرة من مياه السد وأنه في سبتمبر 2023 وصلت سعة السد من المياه 39.8 مليار متر مكعب وارتفاعه 620 م، بينما في يونيو 2024 انخفضت كمية المياه إلى 30.2 مليار متر مكعب وارتفاعه وصل إلى 614 مترًا، مما يعني تسرب 9.6 مليارات متر مكعب. ومع ذلك، لا توجد تقارير دولية أو محلية تثبت صحة تسرب نسبة كبيرة من مياه السد، ومن الضروري أن تقوم أديس أبابا بإجراء دراسات جيولوجية حديثة تثبت صحة ما يشاع من عدمه، خاصة وأنه في حالة حدوث تراكم في الرواسب قد يحدث تشققات وانزلاقات أرضية.
(-) مخاطر الزلازل: نظرًا لكثرة الزلازل التي شهدتها إثيوبيا على مدار الأسابيع القليلة الماضية، التي قد تتسبب في إنشاء حفرة طبيعية للمياه الساخنة قد تتسع مع الوقت، زادت المخاوف من أن تؤثر تلك الزلازل على بنية السد الإثيوبي الكبير أو أن تتسبب في توسع الصفائح التكتونية تحت الاخدود الافريقي العظيم في شرق إفريقيا والتي قد تؤثر على سلامة السد كونه مقام في منطقة فوالق أرضيه، فعلي الرغم من أن الزلازل تبعد 560 كم من موقع السد فلا يستبعد أن تحدث زلازل قوية تؤثر على بنية السد في السنوات المقُبلة، خاصة وأنه في مايو 2023 وقع زلزال على بعد 100 كم فقط من سد النهضة الإثيوبي.
وختامًا، يمكن القول إنه على الرغم من السعة التخزينية الكبيرة لسد النهضة الإثيوبي، إلا أن إثيوبيا تواجه تحديات عدة قد تؤثر على إدارة وتشغيل السد، وأهمها التوترات مع دولتي المصب التي تتمسك بحقهما في مياه النيل، لذلك يتوجب على أديس أبابا أن تواجه تلك التحديات أولاً، فضلاً عن المخاطر المُحتملة التي قد يواجها السد سواء نتيجة للفيضانات أو الزلازل، مما يتطلب من أديس أبابا اتخاذ تدابير مناسبة لضمان سلامة السد. وعليه، يُعد الحل الأمثل لحل قضية سد النهضة هو تقاسم المياه للتمكن من إدارة وتشغيل السد وفق اتفاق قانوني مُلزم لدول المنبع ودولتي المصب؛ للمساعدة في تقليل العجز المائي لمصر والسودان، فضلاّ عن تخفيف السعة التخزينية للسد، وذلك يتطلب استراتيجيات مدروسة وجهود دبلوماسية دولية وإقليمية مكثفة للضغط على إثيوبيا؛ لتجنب الصراعات والتوصل إلى اتفاق بين إثيوبيا ومصر والسودان يضمن الحقوق المائية لدولتي المصب.