كيف تقيّم موسكو تموضعها في الشرق الأوسط؟

جاءت أحداث سوريا الأخيرة والتطورات المتلاحقة في المشهد السوري من سقوط نظام “بشار الأسد” ونجاح الفصائل المسلحة في التحكم بزمام السلطة والحكم في سوريا لتعصف بالمشهد الجيوسياسي بالمنطقة خاصة فيما يتعلق بالنفوذ الروسي داخل الأراضي السورية حيث تعد القاعدتان العسكريتان الجوية والبحرية من أهم دعائمه، إذ توجهت الأنظار إلى تلك القواعد لاسيما مع سحب الجيش الروسي بعض التجهيزات والعناصر من هذه القواعد عقب تلك التطورات الأخيرة، الأمر الذي اعتبره محللون أنه إشارة إلى تخوف روسي من التهديدات المحتملة التي قد تتعرض لها تلك القواعد الروسية بسوريا في المرحلة المقبلة.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يمكننا طرح تساؤل حول طبيعة الاستراتيجية الروسية الجديدة بسوريا ما بعد نظام الأسد ومستقبل قواعدها العسكرية هناك، وهل من الممكن أن تفضي تلك التطورات إلى إجبار روسيا على سرعة إيجاد البديل الاستراتيجي بالمنطقة حتى تستطيع تأمين وتعزيز نفوذها ضد أي تهديدات قد تتعرض لها؟
تهديدات وفرص
إن التطورات الأخيرة المتسارعة التي لحقت بالمشهد السوري بداية من تمكن فصائل المعارضة المسلحة بقيادة “هيئة تحرير الشام” من إسقاط نظام “بشار الأسد” مُستغلة بذلك انشغال الحلفاء الدوليين للنظام (روسيا بحربها مع أوكرانيا وإيران حيث حالة الضعف التي تعاني منها بعد الضربات المتتالية التي تلقتها أذرعها بالمنطقة من الجانب الإسرائيلي) وصولًا إلى سيطرة الفصائل المسلحة وتولي أحمد الشرع “أبو محمد الجولاني” قائد “هيئة تحرير الشام ” قيادة إدارة العمليات العسكرية في سوريا وسيطرته على السلطة بالبلاد، كل هذا المشهد قد يأتي في غير صالح روسيا الداعمة للنظام السابق ويهدد مصالحها داخل الأراضي السورية وبالتحديد الإبقاء على قواعدها العسكرية بها، فقد رأى محللون أنه من الممكن أن تفضي الأوضاع بسوريا إلى ضرورة الانسحاب الروسي، فالتواجد العسكري الروسي في سوريا يُعد جزءًا من استراتيجية روسية لتعزيز نفوذها الإقليمي والدولي ولحماية مصالحها في الشرق الأوسط بالإضافة إلى مواجهة الهيمنة الغربية في المنطقة ومراقبة أنشطة حلف الناتو بها.
وقد يأتي المشهد مغايرًا لذلك فالمصالح قد تكون هي المتحكم الأول في مسار العلاقات الروسية – السورية بحكومتها الجديدة، فكل من روسيا والنظام الجديد بسوريا تجمعهما مصالح عديدة وتوجه براجماتي قد تجعل من الممكن أن تستمر العلاقات بين البلدين في صورة جديدة على عكس ما مضي في عهد نظام الأسد، حيث توحي التصريحات التي أدلي بها كل من الرئيس الروسي “بوتين” و”أحمد الشرع” عقب التطورات الأخيرة بذلك، فالشرع أكد على أن “سوريا لن تستطيع الانفكاك السريع عن روسيا” وأنه “لا يوجد استعجال في خروج روسيا من سوريا بالطريقة التي يتصورها البعض”، وكذلك تأكيده على أن روسيا وسوريا “تتمتعان بعلاقات استراتيجية قديمة وأن هناك قنوات تواصل مع الروس”.
وفي المقابل أبدى “بوتين” في تصريحاته الأخيرة في مؤتمره الصحفي السنوي مرونة في التعامل مع السلطة الجديدة بسوريا معبرًا عن ذلك بقوله “علينا أن نقرر بأنفسنا كيف ستتطور العلاقات مع تلك القوى السياسية التي تسيطر الآن وتتحكم بالوضع في هذه الدولة في المستقبل”، كما أكد على ضرورة أن تكون مصالح موسكو ودمشق متوافقة كقاعدة أساسية في تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين في المرحلة المقبلة.
وعليه يمكن القول إن العلاقات السورية الروسية في المرحلة المقبلة من الممكن أن تكون علاقة قائمة على أساس المنافع والمصالح المتبادلة بين الطرفين، حيث رأى محللون أنه من الممكن أن تظهر روسيا بمظهر جديد بعد سقوط نظام بشار الأسد، فقد تغيّر استراتيجيتها في سوريا من التركيز على التدخل العسكري المباشر إلى حماية مصالحها الاقتصادية والعسكرية، فيمكن لروسيا أن تصبح شريكًا أساسيًا في إعادة الإعمار مع الحكومة السورية الجديدة والعمل على تعزيز العلاقات الاقتصادية والعسكرية لضمان استمرار نفوذها بما في ذلك بناء قواعد عسكرية جديدة أو تطوير القواعد الموجودة بالفعل، وبالتالي لن يكون هناك تهديد فعلي ومباشر للقواعد الروسية بسوريا. كما أن النظام السوري الجديد قد يسعي لكسب الجانب الروسي حتى يحوذ على قدر من الشرعية الدولية يثبت به دعائمه بالنظام الدولي بشكل أكبر.
ومن جهة أخرى نجد أنه قد يكون لتركيا دور في إمكانية احتفاظ روسيا بقواعدها العسكرية بسوريا وبالتبعية احتفاظها بنفوذها هناك، فقد تحدث مواءمات بين الجانبين التركي والروسي لخدمة مصالح البلدين، فتركيا وروسيا شريكين اقتصاديين فضلًا عن رغبة تركيا في الانضمام لمجموعة البريكس وغيرها من المصالح المشتركة بين البلدين التي قد تدفع بالجانب التركي في المرحلة المقبلة إلى القبول بالنفوذ الروسي وإقناع الحكومة السورية الجديدة بضرورة التعاون مع الجانب الروسي، وفي المقابل قد توافق روسيا على تقاسم النفوذ في سوريا مع تركيا لضمان استقرار محدود يخدم مصالح الجميع وذلك كبديل عن الانسحاب الكامل وضمان استمرار تأثيرها ونفوذها بالمنطقة.
بديل استراتيجي
أشار محللون إلى دلالات إزالة المعدات العسكرية القيمة من سوريا لوجود تخوف روسي تجاه مستقبل قواعدها العسكرية هناك، وحتى إن بقي الروس في سوريا فلابد من تغيير كيفية العمل هناك، فلن يبقى الروس على نفس مستوى الراحة والأمن والطمأنينة كما كان الأمر بالنسبة لهم من قبل في عهد الأسد، وأنه في حالة تزايد خطورة البقاء في القواعد السورية في المقابل تزداد أهمية ليبيا بالنسبة لروسيا، ومن ثم فلابد أن تدفع روسيا نحو إيجاد بديل استراتيجي لها عن سوريا وبطبيعة الحال ستكون ليبيا هي الوجهة الأفضل لروسيا لتحقيق ذلك الهدف نظرًا لموقعها الاستراتيجي على سواحل البحر المتوسط ما يمكنها من مراقبة أي عمليات لحلف الناتو هناك، وكذلك الاحتفاظ بتواجدها الاستراتيجي بالمنطقة.
ولكن هذا سيواجهه جملة من التحديات لعل أبرزها أن سقوط نظام الأسد قد يؤثر على التوازن الهش بالداخل الليبي على اعتبار أن الصراع الليبي قد يسير في نفس الطريق الذي سلكه الصراع السوري ويندلع فجأة من جديد ومن ثم حدوث تدهور للأوضاع وعدم تهيئة الظروف المناسبة لإنشاء تلك القاعدة بليبيا، فضلًا عن احتمالية التدخل الأمريكي لمنع إتمام تلك الصفقة بين الجانبين الليبي المتمثل في “الجيش الوطني” بقيادة “خليفة حفتر” والجانب الروسي، فيرى محللون أن موافقة الجانب الليبي على ذلك تشكل تحديًا كبيرًا للولايات المتحدة والغرب ما قد يؤدي إلى رد فعل أمريكي – غربي ضد الجانب الليبي.
وختامًا؛ نجد أن المشهد السوري لا يزال معقدًا وضبابيًا، فالجميع يترقب ما ستؤول إليه الاحداث خلال الفترة المقبلة، ولكن قد تأتي الأحداث والتطورات على عكس المتوقع، فالمواءمات والمصالح دائمًا ما يكون لها الأولوية والكلمة الفصل في التحكم بالمشهد الجيوسياسي بالمنطقة.