ماذا يترتب على دخول “الدعم السريع” مدينة ود مدني؟
هاجمت ميليشيا “الدعم السريع” في 15 ديسمبر 2023، ولاية الجزيرة بوسط السودان، واتسع نطاق القتال وصلًا لمنطقة “أم عليلة” التي تبعد 15 كيلو متر شرق مدينة “ود مدني” عاصمة ولاية الجزيرة، قبل أن تتمكن الميليشيا في 18 ديسمبر 2023 من دخول المدينة والسيطرة على مواقع فيها من بينها “بلدة رفاعة” التي تبعد 40 كيلومترًا شمال المدينة، وذلك بعد اشتباكات عنيفة مع الجيش، الأمر الذي أدى إلى نزوح مئات الآلاف من المنطقة إلى ولايتي سنار والقضارف.
تأسيسًا على ما سبق؛ يحاول هذا التحليل تحديد أهمية ولاية الجزيرة على خريطة الأزمة السودانية، والإجابة على تساؤل رئيسي، وهو: إلى أي مدى تؤثر سيطرة ميليشيا “الدعم” على ولاية الجزيرة وحاضرتها “ود مدني” على مسار الأزمة السودانية؟
أهمية ولاية الجزيرة:
تحظى ولاية الجزيرة جنوبي الخرطوم بأهمية استراتيجية واقتصادية وعسكرية وصحية كبيرة، الأمر الذي أدى لشروع ميليشيا “الدعم” في السيطرة عليها، وذلك قد يؤثر بشكل كبير على مسار الحرب في الفترة القادمة، ويمكن توضيح أهمية الولاية كالتالي:
(*) من الناحية الاستراتيجية: تعتبر ولاية الجزيرة هي الرابط بين عدة أقاليم سودانية، حيث تعد الخاصرة الجنوبية للخرطوم، وهي الوسيط بين ولايات الخرطوم وسنار والقضارف من جهة الشرق. كما تعد الولاية نقطة اتصال رئيسية تربط شرق البلاد بغربها، حيث تعد حلقة الوصل من دارفور وكردفان عبر طريق كوستي غربًا في ولاية النيل الأبيض، ويتفرع عنها طريق رئيسي يفضي إلى القضارف وكسلا وموانئ شرق السودان على البحر الأحمر.
(*) من الناحية العسكرية: يتمركز الجيش السوداني ممثلًا في “الفرقة الأولى مشاة” في مدينة “ود مدني” ثاني أكبر مدن البلاد، بالقرب من جسر حنتوب الذي عبرته ميليشيا “الدعم” لاجتياح المدينة في 18 ديسمبر، والسيطرة على مواقع فيها من بينها “بلدة رفاعة” التي تبعد 40 كيلومترًا شمال المدينة، إضافة إلى سيطرتها على مقر “الفرقة الأولى”، ومقر حكومة الولاية في 19 ديسمبر الجاري.
(*) من الناحية الاقتصادية: تتمتع ولاية الجزيرة بأهمية اقتصادية كبرى، حيث يتمركز فيها أكبر مشروع ري انسيابي في القارة الإفريقية، يبلغ 2.2 مليون فدان، ويعد المشروع مخزونًا استراتيجيًا للمحاصيل الأساسية من القمح والذرة، وباستمرار الحرب في الولاية، قد يتأثر الموسم الزراعي فيها، وبالتالي تتزايد أزمة الغذاء في البلاد.
وترجع سيطرة “الدعم” على مدينة “ود مدني” إلى أهميتها الاقتصادية، حيث تضم أكبر مستودعات للوقود بعد الخرطوم، وتعمل على تغذية وسط وغرب البلاد بعد خروج مستودعات ولاية الخرطوم عن الخدمة نتيجة للحرب القائمة.
كما عرفت المدينة بصناعة الأحذية ودباغة الجلود ومصانع النسيج، وتضم المدينة مصانع البسكويت والصابون ومحاصيل القطن، إضافة إلى أنها تضم 5 أسواق وهي السوق الكبير والسوق الصغير والسوق الشعبي والسوق المركزي وسوق “أم سويقو” وهو من الأسواق المشهورة ببيع الأسماك.
(*) من الناحية الصحية: تحتوي الولاية على مستوطنات طبية وصحية، حيث تضم مستشفيات مركزية متخصصة، إضافة إلى عدد كبير من المستوصفات والعيادات الخاصة والصيدليات، ونظرًا لكثرة أعداد النازحين، بما فيهم الكوارد الطبية، فقد تحولت الولاية إلى منبع للعلاج والشفاء، ولكن بعد دخول ميليشيا “الدعم” إلى الولاية قد يتغير الأمر، حيث نزح مئات الآلاف من المنطقة بعد أن كانت أكبر تجمع للنازحين، وذلك عقب الاشتباكات بين الجيش وعناصر “الدعم” في شرق وشمال المدينة، التي انتهت بسيطرة الدعم على مواقع حيوية في المدينة.
توسع مقلق:
بدأت ميليشيا “الدعم السريع” بتوسيع نفوذها في ولاية الجزيرة، حيث قامت بشن هجمات شرسة ضد الجيش السوداني في شرق ولاية الجزيرة يوم 15 ديسمبر 2023، وسيطرت على عدد من البلدات والقري في منطقة “البطانة” وعلى الطرق البرية الرابطة بين الولاية والعاصمة الخرطوم الموازية للضفة الشرقية للنيل الأزرق، وقد أعلنت الميليشيا يوم 18 ديسمبر دخولها إلى بلدة “رفاعة” ذات الأهمية بعد “ود مدني”، واستطاعت السيطرة عليها وعلى الجسر الرابط بين رفاعة وود مدني، وقد وصل القتال إلى منطقة “أم عليلة” شرق مدينة ” ود مدني” عاصمة ولاية الجزيزة، ومن ثم تمكنت ميليشيا “الدعم” من دخول المدينة والسيطرة على مواقع فيها، و ذلك على النحو التالي:
(&) تعويض الموارد البترولية: يعد استهداف منطقة “أم عليلة” شرق مدينة “ود مدني” ذات أهمية كبرى بالنسبة لميليشيا “الدعم”، حيث تحتوي المنطقة على مستودعات الوقود الرئسية لولاية الجزيرة عبر الخط الناقل للبترول، الأمر الذي أدى إلى سيطرة الدعم علي مصفاة “الجيلي” للبترول بالخرطوم بحري منذ بدء الحرب، إلى أن تم قصفها في 6 ديسمبر 2023 للمرة الرابعة مع تبادل الاتهامات بين الجيش والدعم حول مسؤولية قصفها، مما جعلها تخرج عن الخدمة.
وجدير بالذكر، خروج مصفاة “الأُبيّض” عن الخدمة أيضًا في يوليو 2023، وبذلك تظل المصفاة الثالثة والوحيدة قيد التشغيل ببورتسودان، وكانت قد سيطرت ميليشيا “الدعم” على عدد من حقول إنتاج النفط بإقليمي كردفان ودارفور، ولكن خرجت جميعها من الخدمة، لذلك سيطرت على محطة “العيلفون” التي ترتبط بالخط الناقل والتي تعمل على تنشيط الخط، وذلك لأن البترول السوداني يحتوي على مادة شمعية لضمان الضخ.
وعليه، بخروج الحقول من الخدمة وتوقف محطة “العليفون” ومصفاتي الجيلي والأبيض، بدأت الدعم بدخول ولاية الجزيزة بمنطقة أم عليلة، ومن ثم مستودعات ولاية الجزيرة، وقد يترتب على ذلك الحاجة إلى استيراد البترول لتغطية الاحتياجات، الأمر الذي يؤدي إلى خسائر اقتصادية كبرى نتيجة الصرف على الحرب، إضافة إلى أن الضرر الأكبر قد يرتكز على ميليشيا “الدعم السريع” التي قد تضطر للبحث عن موارد بترولية عبر الحدود لخريطة مناطق سيطرته، وهو ما تقوم به الآن. بينما يمتلك الجيش البدائل ولكن بتكلفة النقل لكي يتم إيصالها إلى مناطق سيطرته.
خريطة النزوح من ولاية الجزيرة إلي الولايات المحيطة بها-“أوتشا”
(&) نقطة تحول: امتدت الاشتباكات بين الجيش وميلشيا “الدعم” في شرق ولاية الجزيرة “ود مدني” التي تقع على بعد 170 كيلومترًا تقريبًا إلى الجنوب الشرقي من العاصمة الخرطوم، حيث يدور الصراع منذ 15 ديسمبر الجاري، وقد تسبب في توغل قوة ضخمة تابعة لميليشيا “الدعم السريع” في مناطق شرق مدينة “ود مدني”، إثر اشتباكات عنيفة مع الجيش السوداني بمناطق (العليلة وأبو حراز وحنتوب)، الأمر الذي تسبب في نزوح أعداد كبيرة من المدنيين، حيث فر نحو 300 ألف شخص منذ اندلاع القتال في الولاية، وفقًا للمنظمة الدولية للهجرة.
ومن ثم تمكنت عناصر “الدعم” من دخول مدينة “ود مدني” يوم 18 ديسمبر وسيطرت على مواقع فيها، بعد أن تمكنت من عبور جسر حنتوب من الضفة الشرقية للنيل الأزرق إلى الغرب، وقد انتشرت الميليشيا في أحياء القسم الأول المؤدية إلى ولاية سنار المجاورة للجزيرة بجنوب شرق البلاد، واستطاعت ميليشيا “الدعم” يوم 19 ديسمبر من السيطرة على مقر رئاسة حكومة ولاية الجزيرة، ومقر الفرقة الأولى مشاة ورئاسة قيادة الجيش بالولاية، وذلك بعد انسحاب وتراجع قوات الجيش إلى ولاية سنار وإلي مدينة المنافل غرب ولاية الجزيرة نتيجة للاشتباكات العنيفة، وأعلن الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة في 19 ديسمبر فتح تحقيق لمعرفة أسباب الانسحاب من ود مدني.
وعليه، قد تكون السيطرة على مدينة “ود مدني” نقطة تحول في تقدم قوات الدعم السريع عبر المناطق الغربية والوسطى في السودان. كما يعد وقوع المدينة بمثابة بسط سيطرة “الدعم” على كامل ولاية الجزيرة، ومن يحكمها أيضًا يتحكم في السودان، كما أن السيطرة على “جسر حنتوب” الواقع بين النيل الأزرق يعني إحكام السيطرة على ولايات شرق البلاد خصوصًا مدينة بورتسودان التي تعد مقرًا مؤقتًا للحكومة السودانية، لذلك يعد استهداف ميليشيا “الدعم” لها تغيرًا ملحوظًا في القتال مع الجيش السوداني، وذلك لأهمية المدينة وموقعها الجغرافي المشرف على وسط وجنوب وشمال وشرق البلاد.
انعكاسات محتملة:
بقراءة الوضع المتدهور في السودان، يعد توسع ميليشيا “الدعم السريع” خطوة تجاه التحول في مسار الأزمة، من خلال ممارسة الضغوط على المؤسسة العسكرية لضمان مستقبل عسكري وسياسي لميليشيا “الدعم”، وهو ما يمكن توضيحه كالتالي:
(-) ممارسة الضغط: قد تتمكن ميليشيا “الدعم” من خلال سيطرتها على مدينة “ود مدني” من فرض سيطرتها على التجارة، حيث نقل التجار الذين كانت لديهم مخزونًا سلعيًا في الخرطوم كل البضائع والسلع إلى هذه المدينة ومارسوا فيها أعمالهم التجارية وكل ذلك انهار بمجرد دخول “الدعم”، حيث قامت عناصر الميليشيا بتفتيش المدينة، ونهبت المنازل والسيارات، الأمر الذي قد يتسبب في عرقلة إمدادات الجيش، ومن ثم يمكنهم من البدء بالتوجه شرقًا، وكذلك احتجاز المدنيين كرهائن للضغط على المجتمعات المحلية، وكذلك المجتمع الدولي.
(-) توسيع جغرافيا الدعم: تعد مدينة “ود مدني” منطقة وسط بين 6 ولايات أخرى، حيث تعتبر المدينة مفتاحًا للتحرك نحو تلك الولايات، وتعد المدينة حاكمة لمنطقة شرق ووسط السودان بصورة كاملة، كما تفتح الطريق للسيطرة على مدينة سنار جنوبًا، والتمدد شرقًا باتجاه سهل “البطانة”، وصولًا إلى ولاية القضارف، مما يسهل الأمر على عناصر “الدعم” من استخدام المدينة كأسلوب للهجوم المتعدد على كل هذه المناطق، وسوف تضع ولايتي كسلا وبورتسودان ضمن أهدافها، الأمر الذي قد يمكن “الدعم” من سيطرتها على امتداد خط أنابيب البترول والوصول للبحر.
وعليه، فإن القوات المسلحة السودانية أمام تحديات كبيرة، على الرغم من أن الجيش لا يزال يمتلك الكثير من الحاميات، بعيدًا عن مسارح القتال، مما يؤكد عدم استخدام الجيش لكامل قوته حتى الآن. كما أن لدى الجيش خيارات كثيرة قد تمكنه من الاستعانة بالكثير من الآليات التي تساعده في تعزيز جهوده الحربية.
وختامًا، يمكن القول إن السودان بصدد الدخول في مرحلة أكثر صعوبة، نظرًا لاستمرار الحرب في التدمير الممنهج للبُني التحتية، إضافة إلى استمرار التعنت في الوصول إلى اتفاق يفضي إلى حل الأزمة، الأمر الذي سيزيد من معاناة السودان، نتيجة لتأثير الحرب على المساحات الآمنة الباقية التي لجأ إليها المدنيين، مما قد يحدث تحولًا جذريًا أكثر خطورة على مسار الحرب، وتحديدًا في ظل محاولة ميليشيا “الدعم” تخفيف الضغط على قواتها في العاصمة الخرطوم بعد مواجهتها ضغوطًا عسكرية من قبل قوات الجيش التي تمكنت من إلحاق خسائر فادحة في عملياتها الأخيرة، حيث يرجح المراقبوان أن الجيش قد حصل على أسلحة نوعية جديدة مع استخدامه المُسيرات بكثافة، الأمر الذي قد يجعله يتحول من الدفاع عن مواقعة الحيوية إلى الهجوم، لذلك يأتي هجوم ميليشيا “الدعم” على ولاية الجزيرة وتحديدًا “ود مدني” بهدف تحقيق أهداف سياسية وعسكرية وإعلامية، إضافة إلى تقوية موقفها في حال تم عقد أي جولات مفاوضات مقبلة، لكي تضمن لنفسها مركزًا عسكريًا وسياسيًا في مرحلة ما بعد الحرب، ويضمن لها أيضًا فرض المزيد من الضغوط على الجيش لصالحها.