كيف تزايد دور المجموعات العسكرية الخاصة؟

أعادت حادثة تمرد فاجنر في أواخر يونيو الماضي تسليط الضوء على الشركات العسكرية والأمنية الخاصة، والمهام التي تؤديها في البؤر الساخنة من العالم، وتحديدا في ظل صراعات إقليمية وداخلية حاضرة بقوة على الساحة السياسية، تعتبر بمثابة فرصة لتنشيط دور مثل هذه الشركات.
ولكن اللافت، أن الاستعانة بالمرتزقة أو الجنود المتعاقدين ليست ظاهرة حديثة، ولم يرتبط ظهورها بظهور الدولة القومية كما يزعم البعض، حيث تعود جذورها إلىآلاف السنين. وعليه يناقش هذا التحليل الأصول التاريخية لفكرة المرتزقة، والأسباب التي تدفع الدول إلى الاستعانة بها، والتحديات التي تواجهها بعد حادثة تمرد فاجنر.
بدايات قديمة:
المرتزقة هو وصف يطلق على الجندي الذي يقاتل لصالح بلد أجنبي مقابل المال. وقد ورد مفهوم المرتزقة لأول مرة في اتفاقيات جنيف في ١٩٤٩م، بأنه ” أي شخص يجري تجنيده خصيصا _ محليا أو في الخارج _ ليقاتل في نزاع مسلح أو يشارك فعلا ومباشرة في الأعمال العدائية “.
وهناك اعتقاد خاطئ بأن ظاهرة استخدام الجنود المرتزقة هي ظاهرة حديثة، فقدعرف التاريخ ظهور المرتزقة بشكل موثق ورسمي بعد اكتشاف رسائل العمارنة عام 2500 ق.م في مقر إقامة الملك المصري أمنحوتب الرابع في تل العمارنة في مصر، حينها وجد اسم المرتزقة ” هابيرو ” باللغة الأكادية، وتعتبر هذه الكلمة قريبة لفظيا من كلمة ” هابتو ” وتعني السرقة والنهب، وتم توصيفه من خلال الرسائل الموجودة في ذلك الوقت بأنهم جماعات متجولة بحثا عن الرزق والعمل في بلاد الشام، أي مرتزقة محليين، حتى أن هذا النص تكرر في نصوص قديمة أخرى في الأناضول.
وشهد التاريخ المصري القديمعلى استخدام المرتزقة منذ آلاف السنين مرة أخرى، وكان الملك رمسيس الثانيمن أوائل الذين لجأوا للمرتزقة في حروبه ضد الحيثيين عام ١٢٨٨ ق.م.
واستخدمتها بعد ذلك الحضارة الفارسية والرومانية، وفي اليونان أيضا، كذلك القرطاجيون الذين كان جيشهم يجمع جنود من جنسيات مختلفة، مثل الأسبان والفينيقيين وغيرهم من المرتزقة، والأمر نفسه بالنسبة للمماليك والدولة العثمانية.
كما شاع استخدام المرتزقة خلال فترة ما بين القرنين الثاني عشر والثامن عشر الميلاديين، فقد سبق واستعانت بريطانيا في القرن الثامن عشر إبان فترة الثورة الأمريكية بمرتزقة ألمان، لقبوا بجنود هسن ” مقاطعة في ألمانيا “، وبلغ عددهم نحو ٣٠ ألف جندي.كما لجأت لجنود هسن في نزاعاتها مع إيرلندا أيضا، حتى أن استعانة بريطانيا بمرتزقة أجانب آنذاك جذب مؤيدين كُثر _ من الطبقة العاملة تحديدا _ لثورة الاستقلال الأمريكي.
وازداد اللجوء إلى المرتزقة في مثل هذه الفترات بسبب وجود العديد من الإمبراطوريات والحضارات المتنافسة والمتصارعة لأغراض التوسع والتنافس على الموارد، وعليه كانت تخاض العديد من الحروب، وهذا ما اضطر الحكام في ذلك الوقت للاستعانة بمرتزقة أجانب لسد النقص والفجوات في الجيوش الوطنية بسبب الحروب المتلاحقة.
كما جرى استخدامها أيضا في حرب الثلاثين عاما من 1618 وحتى ١648، بعدما انتهت بعقد صلح وستفاليا، المعروفة تاريخيا باسم الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتوستانت. وأيضا حرب المائة عام بين فرنسا وبريطانيا، فخلال هذه المعارك المتقطعة التي استمرت لأكثر من مائة عام من ١٣٣٧ حتى ١٤٥٣، لجأ الطرفان الفرنسي والإنجليزي لأول مرة على نطاق واسع للاعتماد على جيوش خاصة.
ومن أبرز الأمثلة التاريخية في هذا الشأن؛ الجيش الأسود، الذي أسسه الملك المجري ماتياس كورفينوس في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، وضم نحو 30 ألف جندي. كذلك الجنود السويسريون الذين كانوا يشتهرون بالاشتراك في معارك أجنبية، خاصة جيوش فرنسا خلال العصور الوسطي وحتى عصر التنوير، وبلغت شهرتهم مداها في عصر النهضة. والسرية البيضاء الإيطالية التي اثبتت نجاحها في حرب المائة عام ضد فرنسا.
ويتنوع الجنود المتعاقدين وفقا لعدة اعتبارات؛فوفقا لقدراتهم، منهم من يتمتع بقدرات تقنية وقتالية وفنية عالية مثل بلاك ووتر الأمريكية وفاجنر الروسية، وهؤلاء يكون سعرهم أعلى، وهناك مجموعات أخرى عشوائية واقل احترافية من الأولى، وهؤلاء يتم جمعهم من المناطق التي شهدت صراعات داخلية أو حروب أهلية، وبالتالي يعتاد على أساليب القتال العشوائية.وأيضا وفقا لأهدافهم؛ فمنها من يهدف لمساعدة أحد طرفي الصراع، أو لحماية مصالح دولة ثالثة في المناطق الساخنة، أو لحماية استثماراتها ومواردها هي شخصيا أو الدولة التابعة لها.
يذكر أن الأمم المتحدة أقرت في عام 2001 الاتفاقية الدولية التي تقضي بحظر استخدام وتمويل المرتزقة، وصادقت عليها حتى الآن 35 دولة، ولم تصدق عليها أيا من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن حتى لا تضع قيودا على تجاوزاتها في الساحة الدولية.
تطور متواصل:
واستمر العمل بفكرة الجنود المتعاقدين حتي في العصور الحديثة، إما للقتال إلى جانب الجيوش الوطنية، أو لحماية مصالح وموارد دول بعينها، كآبار النفط، وإما لحماية أشخاص ومؤسسات بعينها.
مثل فترة الحرب الباردة، التي ازداد فيها استخدام المرتزقة بشكل كبير، حيث استعانت بهم الولايات المتحدة في حرب فيتنام، وذلك نتيجة لوجود بؤر صراع عديدة بين القوتين المتصارعتين قد تفوق قدرات الجيوش الوطنية في ذلك الوقت، حتى أن الولايات المتحدة كانت في فترة حرب فيتنام تنشر إعلانات لضم جنود مرتزقة، كما استخدمتها أيضا لمقاومة حركات التحرر في الدول العربية والإفريقية من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
حتى تطور جيل جديد من المرتزقة، يتمثل في الشركات العسكرية والأمنية الخاصة مثل وينجر جروب الروسية، وجي فور إس البريطانية، والأهم فاجنر الروسية، وبلاك ووتر الأمريكية التي تم تطويرها فيما بعد تحت مسمى أكاديمي.
ولم يقتصر اللجوء إلى الجنود المتعاقدين على الدول الكبرى بحكم مصالحها المترامية الأطراف، فقد انتقل الأمر لدول عدة في الشرق الأوسط وأفريقيا، كما هو الحال بالنسبة لتركيا وإيران والسودان وجنوب أفريقيا وغيرها.
تحديات واقعية:
وخلال العقدين الماضيين، شهد سوق المجموعات العسكرية الخاصة انتعاشا كبيرا، نتيجة للصراعات والتجاذبات التي شهدتها دول أفريقية وعربية، فباتت شركات المرتزقة موجودة في معظم الدول، وكان أبرزها بلاك ووتر. الأمر الذي يؤشر إلى اتجاه معظم الدول إلي الاعتماد على الشركات العسكرية الخاصة، ويقتصر دول الدول والقوات الرسمية على توفير الدعم الكامل لها، باعتبارها لم تصل إلى مرحلة امتلاك أسلحة جوية وبحرية خاصة بها.
وهذا يعنى إعطاء صلاحيات أكثر للشركات الخاصة، من شأنها أن تحولها إلى جيوش صغيرة وغير مقيدة التحركات الميدانية باعتبارها غير رسمية، مما قد يمكنها من تحدي الجيوش الوطنية، حتى في الدولة التابعة لها، خاصة إذا تعارضت مصالحها مع مصالح الدولة، وهو ما يتضح من حادثة تمرد فاجنر الأخيرة.
ولكن من ناحية أخرى، أظهرت تجربة روسيا مع فاجنر أيضا الحدود الواجب تأطيرها لهذه العلاقة بين الدولة ومثل هذه المجموعات الخاصة، ومع التمرد الذي قامت به قوات فاجنر في أواخر يونيو الماضي والذي سبقه خلافات علنية بين بروجين ووزارة الداخلية الدفاع الروسية مع تصريحات مثيرة للجدل من كلا الجانبين، أثبت أن القوات العسكرية الخاصة هي أداة هامة جدا في بعض الأحيان وفي عمليات محدودة النطاق، ولكنها حتما ليست بديل عن الجيش الوطني القوي، ولا يمكن أن تخوض حروبا على جبهات واسعة، كما أنه ليس من الصحيح إعطائها صلاحيات واسعة تدفعها إلى تحدي السلطات الرسمية في الدولة، وبالتالي فإن حادثة تمرد فاجنر الأخيرة قد تكون درسا للعديد من الحكومات حتى تتوخى الحذر وتحكم رقابتها على المجموعات العسكرية الخاصة.
وعليه، توقع محللون تراجع الثقة في الشركات العسكرية الخاصة من قبل الحكومات الرسمية، وبالتالي تراجع الطلب عليها ودعمها من الأساس، حتى أن هذا التخوف قد ينتقل للعديد من الدول سواء المؤسسة لهذه الشركات أو الدول التي تستعين بخدماتها. ولكن من ناحية أخرى، تبدو هذه الرؤية غير واقعية إلى حد كبير، في ظل استمرار الصراعات الإقليمية، وعلى رأسها الحرب الأوكرانية. والداخلية أيضا، كما هو الحال في السودان واليمن وغيرها، حتى في إطار التنافس الدولي بمختلف أشكاله قد تحتاج الحكومات إلى خدمات الجنود المتعاقدين.
وبالتالي، لا يعنى اهتزاز العلاقة بين الكرملين وفاجنر نهاية للثقة في المجموعات العسكرية الخاصة، ولا حتى نهاية فاجنر نفسها، كما يمكن لروسيا إعادة تشكيل مجموعة أخرى شبيهة بفاجنر على أنقاض الأخيرة وبسرعة قياسية أيضا تماما، مثلما نشأت مجموعة أكاديمي على أنقاض مجموعة البلاك وتر الأمريكية حتى وسعت أعمالها أكثر ونطاق انتشارها.
مبررات هامة:
يرجع لجوء الدولة إلى الشركات العسكرية الخاصة أو الجنود المتعاقدين إلى عدة أسباب، أهمها:
ضرورات اقتصادية: والتي تتمثل في اقتصاد الموارد المالية المخصصة للجيوش الرسمية، فهناك حقيقة اقتصادية ثابتة في هذا الشأن مفادها أن إنشاء وتسليح وتمويل جيوش كبيرة هو أعلى تكلفة من استخدام قوات خاصة لمهام محددة خلال فترات الصراعات العسكرية عند الضرورة. وتتضاعف أهمية العامل الاقتصادي لا سيما بالنسبة للمجموعات التي تصبح مصدرا للأموال والذهب والمعادن.
ففي ذروة الحرب الباردة مثلا، وصل عدد الجيش الأمريكي إلى ٣,٥ مليون جنديا، في حين تراوح عدد الجيش السوفيتي ما بين ٤ و ٥ مليون جنديا آنذاك، ومع انتهاء الحرب الباردة تراجع حجم الجيش الأمريكي حتى وصل إلى ١,٥ مليون جنديا، و الطرفين عند الحاجة يلجؤون إلى التعاقد مع قوات خاصة.
دفع المسؤولية الدولية عنها: فرغم أهمية العامل الاقتصادي، إلا أن القدرة على الإنكار عنصر قوة في العمليات العسكرية، باعتبارها الورقة الأهم والأقوى التي تستخدمها الدول عند اللجوء إلى مجموعات عسكرية خاصة. فوجود عناصر مرتزقةتقوم بمهمة لصالح حكومة معينة، يتيح لهذه الحكومة نفسها إنكار تورطها بأي عملية تقوم بها هذه المجموعات، ومن ثم دفع المسؤولية السياسية والقانونية عنها.
جدير بالذكر أن يافجيني بريجوجين ظل ينكر أي علاقة له بالمجموعة حتى عام 2014، رغم جميع الأدوار التي قامت بها مجموعة فاجنر في دول أفريقية و بسوريا وغيرها، حتى أنه رفع دعاوى قضائية ضد صحف ومواقع أشارت إلى أنه هو مؤسس فاجنر. والأمر ذاته بالنسبة للكرملين، الذي كان ينكر مسؤوليته أو ارتباطه بقوات فاجنر، حتى دخول قوات فاجنر العلني على خط الحرب الأوكرانية، حينها أصبح لا مجال لإنكار أو نفي علاقة روسيا بهذه القوات.
وما يوضح أهمية عنصر القدرة على الإنكار، في فبراير 2018، وقعت مواجهة روسية أمريكية في شمال شرق سوريا، كادت أن تشعل حرب بين روسيا وأمريكا، حيث قامت مجموعة من الدبابات والجنود الروس بمهاجمة مواقع أمريكية، وقاموا بمحاصرة 30 جندي أمريكي، حينها تركت هذه الحادثة صدى واسعا في البنتاجون، حتى أن الكرملين سارعبنفي أي علاقة له بالعملية، حينها وردت القوات الأمريكية بهجمات جوية أوقعت عشرات الضحايا في صفوف القوات المهاجمة، وبعدها تبين أن القوات المهاجمة تابعة لفاجنر.
التأثيرات السياسية بالداخل: فالمجموعة العسكرية الخاصة تقدم للحكومة ورقة مهمة جدا تتعلق بالتأثيرات السياسية للصراعات الخارجية على الداخل، فعلى سبيل المثال قد تنجح الدولة في أن تقنع الرأي العام الداخلي بضرورة القيام بحرب، ولكن التأييد الشعبي سيتراجع حتما مع تزايد عددالقتلى والجرحى في صفوف الجيش. وهناتأتي أهمية المجموعات الخاصة، فبما أن المقاتلين ليسوا جنودا في الجيش الوطني فإن عدد الضحايا لن يكون له نفس الوقع السلبي على الرأي العام الداخلي، بالإضافة إلى أنه لن يتم تسجيله من الأساس في السجلات الرسمية. وبالتالي فإن العامل النفسي المرتبط بخفض عدد الضحايا من الجنود بالسجلات الرسمية وتأثيره على الرأي العام الداخلي من أهم الضرورات التي تقتضي لجوء الدولة إلى المجموعات العسكرية الخاصة.
فقدان الثقة: ففقدان الثقة بين الحكام وشعوبهم، قد يدفع الحكام لاستخدام المرتزقة المأجورين في إخضاع الشعوب، أو توظيفهم في عمليات ميدانية خارجية أيضا. ومن ناحية أخرى، يعتبر استخدام الجنود المتعاقدين زيادة في عدد من يقاتلون مع الدولة أيضا.
ولكن خلال السنوات الأخيرة، وبعيدا عن تجربة فاجنر، فإن سوق المجموعات العسكرية الخاصة حول العالم والخدمات الأمنية الخاصة يشهد نموا غير مسبوق، أكدت الدراسات الصادرة بمراكز أبحاث عديدة، وكلها تشير إلى نمو الطلب على جيوش للإيجار من قبل شركات دولية تبحث عن تأمين استثماراتها أو مصالحها في دول ومناطق مضطربة في تزايد عام بعد عام.
وختاما، يمكن القول إن التقارير الدولية المعنية تشير إلى أن المرتزقة والجنود المتعاقدين موجودون دوما في مناطق الأزمات، وبأشكال مختلفة، إما للقتال إلى جانب الجيوش الوطنية، أو لحماية مصالح وموارد دول بعينها، كآبار النفط، وإما لحماية أشخاص ومؤسسات بعينها.
ومع ذلك، ما زال ينظر إلى الشركات الأمنية بنوع من الريبة، رغم أنها توسعت في الأعوام الأخيرة حتى فاق عددها ٣٠٠ ألف شركة على مستوى العالم، ومع اختلاف قدراتها وأهدافها، إلا أن ما يجمعها هو أنها تقدم خدمات مالية وعسكرية لدول معينة مقابل الأموال، كأي شركة تجارية ربحية.