كيف سيغير مشروع “حياة كريمة” الواقع القديم لسكان الريف المصري؟

وضعت الحكومة المصرية منذ عام 2014 تقريباً المشاكل العالقة للمواطنين المصريين على رأس أولوياتها، بهدف تحقيق مجتمع مستدام، قادر على المنافسة وسط اقتصادات العالم. فقد أعلن رئيس الوزراء الدكتور “مصطفى مدبولى” في الثالث والعشرين من يناير 2021، عن إطلاق المشروع القومي العملاق لتطوير وتنمية القرى ضمن مبادرة “حياة كريمة”، تحت رعاية الرئيس “عبد الفتاح السيسى”، ليحدث المشروع نقلة نوعية في جميع قرى مصر، وتحقيق تنمية غير مسبوقة بمحافظات الصعيد.
وإذا كان هذا المشروع يستهدف إحداث تطوير شامل لكافة قرى الريف المصري التي يعيش فيها ما يقرب من 58 مليون مواطن خلال ثلاث سنوات فقط، تبدأ من العام الحالي، بحجم استثمارات تصل إلى 515 مليار جنيها- فما هي أهم ملامحه؟، وما هي دوافع إطلاقه في هذا التوقيت؟، ثم ما هو مستوى انعكاساته الاقتصادية والاجتماعية على المجتمع والناس في تلك المناطق، خاصة وأنه محدد الانجاز بمدى زمني غير قابل للتأجيل والتأخير؟.
تفكير متعدد المستويات:
يعتبر المشروع القومي لتطوير وتنمية قرى مصر هو المشروع الأضخم من نوعه إعادة ترميم وتطوير البنى التحتية في محافظات مصر وتحسين حياة المواطنين، لاسيما محافظات الصعيد، والتي عانت لسنوات عديدة من الإهمال وسوء الخدمات الأساسية في بعض القرى والنجوع، بل وغيابها في مناطق أخرى كخدمات الصرف الصحي والمياه، ولهذا كان القرار الرئاسي بإطلاق المشروع القومي لتطوير وتنمي القرى صمن مبادرة “حياة كريمة”، بمثابة الدفعة القوية نحو إنهاء هذه المعاناة، حيث وجه الرئيس “السيسى” بتنفيذ مشروع تطوير قرى الريف المصري في إطار شامل ومتكامل التفاصيل وبالتناغم بين كل الأجهزة الحكومية المعنية، وذلك لتحقيق جدارة الأداء وسرعة الإنجاز وحوكمة جميع أركان المشروع، وبهدف التغيير الجذري لحال وواقع قرى الريف وتوابعها من عزب وكفور ونجوع من كل جوانب البنية الأساسية والخدمات، والنواحي المعيشية والاجتماعية والصحية.
ويستهدف هذا المشروع، والذي تصل تكلفته إلى 515 مليار جنيه، رفع كفاءة وتطوير 4741 قرية وتوابعها 30888عزبة وكفرا ونجعا، في إطار التغيير الجذري لحال وواقع قرى الريف وتوابعها من عزب وكفور ونجوع من كافة جوانب البنية الأساسية والخدمات، والنواحي المعيشية والاجتماعية والصحية.
ويستغرق تنفيذ مشروع تطوير وتنمية القرى ثلاث سنوات، على ثلاث مراحل: تشمل المرحلة الأولى منه القرى ذات نسب الفقر من 70% فيما أكثر، وتشمل الثانية القرى ذات نسب الفقر من 50% إلى 70%، والثالثة تضم القرى ذات نسب الفقر أقل من 50%، حيث يتم تحديد القرى الأكثر احتياجًا وفقًا لعدد من المعايير، والتي تتضمن: ضعف الخدمات الأساسية من شبكات الصرف الصحي وشبكات المياه، وانخفاض نسبة التعليم، وارتفاع كثافة فصول المدارس، والاحتياج إلى خدمات صحية مكثفة لسد احتياجات الرعاية الصحية، وسوء أحوال شبكات الطرق، وارتفاع نسبة فقر الأسر القاطنة في تلك القرى.
وتستهدف المرحلة الأولى للمشروع تطوير 1500 قرية في 51 مركزًا على مستوى الجمهورية خلال العام الحالي، حيث سيتم رفع كفاءة هذه القرى من خلال النهوض بجميع مكونات البنية الأساسية من مياه وكهرباء وغاز وصرف صحي وتبطين الترع ورصف الطرق وغيرها، إلى جانب المحور الخدمي الذي سيشمل الصحة والتعليم والبرامج الاجتماعية.
استهداف مدروس:
وضعت الحكومة المصرية تنمية ودعم المحافظات لاسيما محافظات الصعيد على أجندة أولوياتها منذ عام 2014؛ بهدف محاربة الفقر والبطالة وخلق فرص استثمارية لاستغلال الموارد المتاحة لتنمية ما تملكه كل محافظة من مقومات وموارد وفرص في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة.
فقد حال ضعف مستويات التنمية لسنوات عديدة في الريف المصرى من الارتقاء بالمستويات المعيشية والتنمية البشرية للمواطنين بهذه القرى، وهو المؤشر الذى كان يشكل خطرًا، خاصة وأن أكثر من نصف سكان مصر يعيشون في الريف، والذين تبلغ نسبتهم 57.8% من إجمالي السكان، مقابل 42.2% يعيشون في الحضر، وتزيد نسبة السكان في الريف عن نسبة سكان الحضر في جميع محافظات مصر فيما عدا القاهرة (لا يوجد بها ريف)، والاسكندرية، والجيزة، والبحر الأحمر، ومرسى مطروح، وجنوب سيناء.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على نتائج تعداد السكان 2017
وإذا نظرنا إلى نتائج الدخل والإنفاق عام 2017/2018، نجد أن هناك فجوة بين متوسط الدخل السنوي للأسرة في الريف عنه في الحضر، تُقدر بنحو 14.7 ألف جنيه.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على نتائج الدخل والإنفاق عام 2017/2018
وقد أدى هذا التفاوت في الدخل بين الحضر والريف، وتردى جودة المرافق العامة وغيابها في بعض المناطق، وهو ما كان يحول دون توجه المستثمرين إلى هذا المناطق، إلى ارتفاع نسبة الفقراء بمناطق الريف في الوجه القبلي مقارنة بالحضر والوجه البحرى، حيث تبلغ نسبة السكان الفقراء في ريف الوجه القبلى نحو 51.9% من إجمالي السكان، وهو ما يعنى أن 51.9% من سكان ريف الوجه القبلى لا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية من الغذاء وغير الغذاء، فى المقابل يعانى 30% فى حضر الوجه القبلى من الفقر، وكذلك الحال في الوجه البحري ولكنه أقل حدة، حيث يعانى 27.3% من سكان الريف من الفقر، وفى الحضر تبلغ نسبة السكان الفقراء 14.3%.
انعكاسات اقتصادية واجتماعية سريعة:
تتعدد الأثار الاقتصادية والاجتماعية التي يخلقها مشروع تنمية وتطوير القرى، ليس فقط خلق طفرة غير مسبوقة بالريف المصرى تحقق التنمية المستدامة به، وإنما رفع رأس المال البشرى، وتحسين المستويات المعيشية للمواطنين، بما سيرفع من الوضع التنافسى لمصر بين دول العالم، وهو ما يساعد على تحقيق مستهدفات رؤية مصر 2030، بالإضافة إلى ما يمثله هذا المشروع من إنعاش قوى لقطاع المقاولات وتوفير المزيد من فرص العمل في أنشطة التشييد والبناء والإمداد المائى والصرف الصحى وإمداد الكهرباء.
(*) تحقيق التنمية المستدامة في محافظات مصر:
يمثل رفع كفاءة وتطوير القرى خطوة إيجابية وقوية نحو تحقيق التنمية المستدامة في مصر، وذلك من خلال بناء بنية أساسية قوية، تستفيد منها الأجيال الحالية والقادمة، بالإضافة إلى النهوض بمستويات التعليم والصحة، حيث يعتبر القضاء على الفقر في كل مكان وضمان تمتع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاهية في جميع الأعمار، وضمان التعليم الجيد الشامل وإقامة بنى تحتية قادرة على الصمود والحد من التباين داخل الدولة، ضمن الأهداف العالمية لمؤشرات التنمية المستدامة SDGs 2030.
(*) رفع الوضع التنافسي لمصر بين الدول وتحقيق رؤية مصر 2030:
حيث يقوم المنتدى الاقتصادي العالمي كل عام بنشر تقرير عن مؤشر التنافسية العالمي، والذى يقيم فيه الوضع التنافسي للدول بقياس مستوى الإنتاجية ومحركات النمو الاقتصادي ، ويعتمد هذا المؤشر على أربعة محاور من ضمنها: محور البيئة المواتية والذى يشمل: المؤسسات، البنية التحتية، تبنى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، استقرار الاقتصاد الكلى، ومحور رأس المال البشرى ويتضمن ركيزتين: الصحة، التعليم والمهارات.
وبالتالي تكون مصر قادرة بحلول عام 2030، على تحقيق مستهدفات رؤية مصر 2030، بأن تصبح ذات اقتصاد تنافسي ومتوازن ومتنوع يعتمد على الابتكار والمعرفة قائمة على العدالة والاندماج الاجتماعي والمشاركة، ذات نظام إيكولوجي متزن ومتنوع تستثمر عبقرية المكان والإنسان لتحقيق التنمية المستدامة وترتقى بجودة حياة المصريين.
وقد شهد ترتيب مصر فى مؤشر التنافسية العالمى خلال الفترة (2009-2019) تطورا بشكل ملحوظ، فبعد التراجع الكبير الذى شهده هذا الترتيب منذ عام 2011 ليصل إلى قمة تراجعه عام 2014 باحتلال مصر الترتيب 119 عالمياً مقارنة بالترتيب 70 للعام 2009، أخذ هذا الترتيب فى التحسن المستمر منذ عام 2015 وتقدمت مصر من المركز 116 عالميا للعام 2015 إلى المركز 93 عالميا للعام 2019، لتتقدم بذلك 26 مركز مقارنة بعام 2014 أى تحسن بنحو 21.8%.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على تقارير لسنوات متفرقة لمؤشر التنافسية العالمي.
(*) تحسين المستويات المعيشية للمواطنين:
تطوير وتحسين خدمات البني الأساسية والتعليم والصحة بالريف المصرى والقضاء على الفجوة بين الريف والحضر، بما يفتح شهية المستثمرين على فتح مشاريع بهذه المناطق، وبالتالي توفير فرص عمل جديدة لمواطنى هذه القرى، كل هذا سيكون له مردود إيجابى على المستويات المعيشية للمواطنين بهذه القرى، والذين يبلغ عددهم نحو 58 مليون مواطن.
فإذا نظرنا الى الشكل التالى، نجد أن هناك علاقة بين نسب الفقراء في المحافظة وعدم الاتصال بالصرف الصحى كمثال لإحدى الخدمات العامة، وبين نسبة سكان الريف إلى الحضر، فعلى سبيل المثال تتجاوز نسبة الأسر غير المتصلين بالصرف الصحى في محافظات أسيوط وسوهاج والاقصر والمنيا ومحافظات الحدود نسبة 75%، وفى ذات الوقت تتجاوز نسبة الفقراء في هذه المحافظات 50% من إجمالي السكان، وكذلك تزيد نسبة سكان الريف بهم عن 50%.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على نتائج تعداد السكان 2017 وبحث الدخل والإنفاق 2017/2018
(*) النهوض برأس المال البشرى:
“يُعد بناء رأس المال البشرى مشروعاً للعالم بأسره” هذا ما وصف به البنك الدولى أهمية رأس المال البشرى فى تقريره بعنوان “مشروع رأس المال البشرى” الصادر فى 11 أكتوبر 2018، ويساعد مشروع رفع كفاءة وتطوير القرى على النهوض برأس المال البشرى في مصر، حيث لا يقتصر المشروع على تقديم خدمات البنية الأساسية والعامة من مياه الشرب والكهرباء والبيئة وتبطين الترع والإسكان والخدمات البيطرية، بل يتضمن الخدمات العامة من التعليم والصحة والتوعية للشباب والمرأة، وبالتالي يهتم المشروع بتحسين الأبعاد الأساسية الثلاثة للتنمية البشرية، وفقا لمؤشر دليل التنمية البشرية الذى يصدر بواسطة البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (UNDP) سنويًا منذ عام 1990، وتتمثل هذه الأبعاد الثلاثة فى: القدرة على عيش حياة مديدة وصحية، والقدرة على اكتساب المعرفة، وتقاس بمتوسط سنوات الدراسة والعدد المتوقع لسنوات الدراسة، والقدرة على تحقيق مستوى معيشي لائق.
وبالتالي سينعكس رفع كفاءة وتطوير القرى على ترتيب مصر العالمي في مؤشر التنمية البشرية، لاسيما وان مصر أصبحت ضمن مجموعة البلدان ذات التنمية البشرية المرتفعة منذ العام 2018 حيث تتجاوز قيمة المؤشر 0.700 درجة، وذلك على الرغم من تراجع الترتيب العالمى للمؤشر منذ عام 2017، حيث احتلت مصر الترتيب الـ 115 في عام 2017 مقارنة بالترتيب 113 عام 2016، واستمر هذا التراجع حتى احتلت الترتيب 116 عام 2018، وهو الترتيب نفسه المتحقق عام 2019 من بين 189 دولة.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على قاعدة البيانات الخاصة بمؤشر دليل التنمية البشرية.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على قاعدة البيانات الخاصة بمؤشر دليل التنمية البشرية.
(*) تحقيق التنمية الشاملة والقضاء على الفجوة بين الريف والحضر:
حيث استحوذت المحافظات الحضرية والرئيسية لعقود طويلة على الاهتمام الاكبر من حيث إنشاء وجودة المرافق العامة، وهو ما كان سببا في وجود فجوة التنمية بين الريف والحضر، وغيرها مقابل تفشي وتفاقم المشاكل في المحافظات الاخرى ولاسيما الحدودية ومحافظات الصعيد، فعلى سبيل المثال، تبلغ نسبة الاسر المتصلة بالشبكة العامة للصرف الصحي بمحافظة القاهرة 98.85% في حين بلغت النسبة في محافظة قنا 15.47% وفي مطروح بلغت النسبة 20.05%. وكذلك الحال، بالنظر إلى نسبة الاسر المتصلة بالشبكة العامة المياه في الاسكندرية 99.8% . بينما كانت النسبة في محافظة جنوب سيناء 63.05%.
وبالتالي فإن إعادة بناء البنية الأساسية وتنمية رأس المال البشرى بقرى مصر، سيحقق من التنمية الشاملة ويُنهى لفجوة الموجودة بين الريف والحضر.
(*) توفير فرص عمل معددة الأوجه:
تساعد مشروعات الإنشاء والتطوير للبنى الأساسية في زيادة نشاط عمل شركات المقاولات في أية دولة، وبالتالي فإن المشروع الضخم لتنمية وتطوير القرى له مروده الإيجابي في هذا الشأن على شركات المقاولات والتى ستقوم بعمليات التطوير ورفع الكفاءة، ويفتح آفاقًا لهذه الشركات لتوسيع أنشطتها وزيادة عدد العاملين لديها، وبالتالي توفير فرص عمل أكبر للشباب، لاسيما وأن نشاط التشييد والبناء هو ثالث أعلى الأنشطة في أعداد المشتغلين بمصر، حيث يعمل به 13.6 من إجمالي المشتغلين، ويستحوذ نشاطى الإمداد المائى والصرف الصحى وإمدادات الكهرباء والغاز على 1.7% من إجمالى المشتغلين.
المصدر: إعداد الباحثة، بالاعتماد على احصائيات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والاحصاء
إجمالا، جاء المشروع القومي لتنمية وتطوير القرى ليسجل إنجازًا جديدًا للقيادة السياسية الحالية، وقدرتها على تحدى الزمن، وإحداث طفرة شاملة بجميع المحافظات على كافة المستويات، والاستعداد للمنافسة القوية على مستوى العالم، ويتطلب الحفاظ على هذا الإنجاز بعد الثلاث السنوات التي سيستغرقها إنشاء المشروع، ومواصلة جهود التنمية، المتابعة المستمرة والصيانة للمشاريع التي سيتم إنشاؤها والبنى التحتية المتطورة، وإنشاء خريطة للفرص الاستثمارية بريف مصر، للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في رأس المال البشرى وتطوير القرى، وتفعيل دور المجتمع المدني في الوصول إلى المناطق النائية، وإنشاء حوافز ضريبية لتشجيع الجهات الفاعلة الخاصة على الاستثمار في الاقتصاد الاجتماعي والتشاركي، بالإضافة إلى تبنى استراتيجية وطنية مدتها خمس سنوات هدفها الصعود بالأبعاد المكونة لمؤشر دليل التنمية البشرية وتنميتها، بخلاف رؤية مصر 2020، لتركز هذه الاستراتيجية على كيفية النهوض بالتعليم والصحة والدخل القومي على المستويين الأفقي والرأسي.