استراتيجية البنك المركزى المصرى في التعامل مع حروب أسعار الفائدة

منذ فترة لم تتجاوز أيام قرر الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي ( رفع سعر الفائدة فى 21 سبتمبر 2022، بنسبة 0.75%، وذلك للمرة الخامسة على التوالي منذ بداية العام الجاري، ليصل مستوى سعر الفائدة في الاحتياطي الفيدرالي بعد هذا الرفع إلى بين 3 و3.25%. ، وذلك بعد سلسلة وموجة من الارتفاعات المتتالية بدأت فى مارس 2022، لتصل أسعار الفائدة الى أكبر زيادة منذ 28 عاماً بمقدار 75 نقطة أساس ليصل إلى 1.75 %، سعيا نحو الحد من التضخم الذى يسود البلاد.

لم تشهد الولايات المتحدة هذا الرفع منذ أربعين عام تقريباً، حيث سجلت معدلات التضخم في الولايات المتحدة فى شهر يونيو 2022 نحو 9.1%، وهو أعلى مستوى منذ نوفمبر 1981. واستكملاً، يمكن القول إنه برفع أسعار الفائدة في البنوك، سترتفع تكلفة الاقتراض على المستثمرين والأفراد والشركات؛ وبالتالي يقل الإنفاق، حيث أن سيكولوجية المجتمع الأمريكي تقوم على فكرة المستهلك الرشيد. ولكن ما زالت قرارات أكبر الاقتصادات فى العالم تؤثر بشكل كبير فى توجهات باقى الدول وسياساتهم الاقتصادية.

تأسيساً على ما تقدم، يستعرض هذا التحليل انعكاسات رفع الفيدرالى الأمريكى لأسعار الفائدة، وموقف البنك المركزى المصرى من تلك الموجة المرتفعة لأسعار الفائدة، والبدائل النقدية الأخرى التى طرحتها لمواجهة التحديات الاقتصادية القائمة.

انعكاسات تحركات الفيدرالى الأمريكي:

 يقوم البنك الفيدرالى برفع الفائدة لمواجهة التضخم،حيث تساعد أسعار الفائدة المرتفعة على مكافحة التضخم عن طريق رفع تكلفة الاقتراض، وتشجيع الأفراد والشركات على الاقتراض وإنفاق أقل. كما يقوم الفيدرالى الامريكى بهذا الرفع ليس فقط لمواجهة التضخم القائم، بل لصالح تعزيزة قوة الدولار الأميركي مقابل العملات الأخرى، وهو الأمر الذى يخلق بعض المشكلات لدى الأسواق الناشئة، وأهمها سحب السيولة منها إلى الولايات المتحدة، ما يؤثر على اقتصادات تلك الدول بالسلب. وسيكون لها تبعات على قطاع الأعمال والمستهلكين في جميع أنحاء العالم. حيث أن الأموال ستتجه إلى البنوك للاستثمار كودائع للحصول على فوائد مرتفعة نسبياً، وأقل مخاطرة مقارنة بأسواق الأسهم، مما يقلص التدفقات الداخلة لأسواق الأوراق المالية، وعلى العكس تتزايد التدفقات الخارجة، مما يؤثر على السيولة ومجمل تحركات الأسواق.

وعلى الرغم من تلك الآثار المتوقعة لرفع سعر الفائدة عالميا، تظل المشكلة الأساسية قائمة، وهي التضخم والارتفاع المستمر فى الأسعار، الذى لم تحد منه فقط السياسات النقدية الانكماشية، لأنه فى الأساس يعود لأسباب خلقتها الحرب الروسية الاوكرانية ومن قبلها جائحة كورونا، وأهمها تعطل سلاسل التوريد العالمية التي تسببت في نقص المعروض وارتفاع أسعار السلع الأولية ومصادر الطاقة والحبوب.  كما أن بلوغ أسعار الوقود لمستويات قياسية مستمرة منذ اندلاع الحرب الروسية، أدى إلى تفاقم الارتفاع، حيث أصبح كل شيء من الغذاء والطاقة إلى المعادن أكثر تكلفة، وقد يستغرق الأمر بعض الوقت حتى تبدأ أسعار الفائدة المرتفعة من قبل البنك الاحتياطي الفيدرالي في تقليص التضخم. وحتى ذلك الحين، سيظل التضخم خاضعًا للتطورات في الحرب في أوكرانيا، وفوضى سلسلة التوريد، وبالطبع  الانعكاسات السابقة لوباء كورونا .ولهذا يتعين على الاحتياطي الفيدرالي الانخراط في عملية توازن دقيقة لإبطاء التضخم دون أن يثقل كاهل النمو الاقتصادي.

شكل رقم (1) يوضح تطور أسعار الفائدة للبنك الفيدرالى الأمريكى خلال الفترة (2018 وحتى أكتوبر 2022)

الموقف المصرى من رفع أسعار الفائدة:

قرار الفيدرالي الأمريكي، برفع أسعار الفائدة يمثل ” تأثير الدومينو”،- أي أن غالبية البنوك المركزي ستتجه نحو رفع أسعار الفائدة امتثالا لقرارات البنك الفيدرالى، فمنذ مارس 2022 وحتى الوقت الراهن رفع نحو 90 بنكاً مركزياً أسعار الفائدة، نصفها بمقدار 75 نقطة أساس على الأقل في مرة واحدة، وسار على هذا النهج العديد من البنوك المركزية، خاصة الدول العربية والخليجية، فيما وصفه البعض بأنها (حرب أسعار الفائدة)، أو كما قال كبير الاقتصاديين في “بنك أوف أميركا” إيثان هاريس بـ  “مسابقة على من يستطيع زيادة الفائدة أسرع من الآخرين”.

وقد خالف البنك المركزي المصرى توقعات السوق التي كانت تشير إلى رفع أسعار الفائدة، لكنه أبقاها للمرة الثالثة دون تغيير، خلال اجتماعه السادس فى 22 سبتمبر 2022، وأعلن البنك المركزي المصري، وللمرة الثالثة على التوالي تثبيت أسعار الفائدة على الإيداع والإقراض، ولم يحذ حذو البنك المركزي الأميركي. حيث تم الابقاء للفائدة على الودائع لليلة واحدة، وعلى الإقراض لليلة واحدة، وسعر العملية الرئيسية، عند 11.25% ، و12.25 % ، و11.75% على التوالي .هذا فى الوقت الذى قرر فيه البنك المركزي زيادة نسبة الاحتياطي النقدي التي تلتزم البنوك بالاحتفاظ بها لديه، لتصبح 18 % بدلا من 14 %، بما يساعد في تقييد السياسة النقدية التي يتبعها.

وكانت المرة الأولى التي ثبت فيها المركزي المصري الفائدة للمرة الأولى في 23 يونيو الماضي، والذي تقرر فيه تثبيت أسعار الفائدة عند 11.25% للإيداع و12.25 % للإقراض. وتعد المرة الثانية، حينما قرر أيضاً يوم 18 أغسطس الماضي تثبيت الفائدة عند 11.25 % للإيداع، و12.25 % للإقراض، وكان البنك المركزي المصري قد قرر في 21 مارس 2022 رفع أسعار الفائدة بنسبة 1 % لتصل إلى 9.25 بالمئة للإيداع و10.25 % للإقراض، ثم في 19 مايو 2022 رفعها بنسبة 2 % لتصبح 11.25 % للإيداع و 12.25 % للإقراض، وذلك لمواجهة التضخم والتخوف من تآكل الأموال وإمكانية العودة إلى ظاهرة الدولرة والاحتفاظ بالعملة الأميركية كمخزون قيمة، هذا فى الوقت الذى لم تكن فيه أسعار الفائدة تشهد هذا الارتفاع من قبل، خصة فى عام 2021 ، وبداية تطبيق سياسات التعافى من الانعكاسات الاقتصادية السلبية لوباء كورونا.

شكل رقم (2) تطور أسعار الفائدة على الايداع والاقراض فى مصر خلال الفترة ( 2014 وحتى 2021)

أسباب التثبيت:

يرجع قيام البنك المركزى المصرى بتثبيت أسعار الفائدة، واستخدام أداة أخرى للتشديد النقدى غير أسعار الفائدة، وهى ( الاحتيطى النقدى الالزامى ) فى اجتماعه الأخير، لعدة أسباب كما يلى :-(*)- توجه الدولة نحو تعويم الجنيه، وتراجع قيمته أم الدولار، ومن ثم لا يمكنه رفع الفائدة في هذه الفترة؛ لاحتمال ضعف تأثير تلك الخطوة على التضخم، بل على العكس يزيد من استمرار خفض قيمة الجنيه الذى يشهد انخفاضًا تدريجيا مقابل الدولار على مدار الأسابيع الماضية حتى وصل إلى مستوي 19.53جنيه للدولار لأول مرة في تاريخه وفقا لبيانات البنك المركزي المصري.

(*)- تركيز سياسات الدولة المصرية والبنك المركزي على الحفاظ على حجم الناتج المحلي وحالة النشاط الاقتصادى وحركة الإنتاج؛ وبالتالي كان لابد من البعد عن أداة سعر الفائدة لمواجهة التحديات القائمة، فى محاولة جذب الاستثمار المباشر ودفع عجلة التنمية والإنتاج خلال الفترة المقبلة. حيث اتخذ المركزي المصري بالمشاركة مع وزارة المالية ووزارة التجارة والصناعة عدة إجراءات بهدف خلق استقرار للمصانع وإعادة عجلة الانتاج من خلال تخفيف إجراءات استيرات المواد الخام ومستلزمات الإنتاج، وكل ذلك يؤدي إلى تقليل التضخم وخفض الأسعار.

(*)- لقد انتهت نسبياً مرحلة الأسوأ فى التضخم، وأسعار السلع والمنتجات الغذائية عالميا بدأت في الاستقرار الى حد ما، مع هدوء وتيرة الارتفاع في أسعار أغلب السلع. كما أن السبب الرئيسى للتضخم مستورد وناتج عن ارتفاع تكاليف الإنتاج والأزمات العالمية وليس عن زيادة السيولة السوق في مصر، خاصة أن البنوك قامت بسحب السيولة من السوق خلال الفترات الماضية عبر عدد من أدوات الادخار ورفع العائد على شهادات الادخار والتى وصلت في بعض البنوك إلى 15% و18% سنويا.

(*)- التخفيف نسبيا من أعباء خدمة الدين، حيث أن كل رفع سعر الفائدة بمعدل 1% يضيف أعباء جديدة على الموازنة العامة للدولة، حيث ترتفع فوائد خدمة الدين بما يتراوح بين 25 إلى 30 مليار دولار ، ويزداد هذا العبء فى ظل ارتفاع مخصصات فوائد الديون بمشروع الموازنة العامة للدولة خلال العام المالي المقبل 2022\2023 بنسبة 19% مقارنة بما كان متوقع لها خلال العام المالي الجاري2021\ 2022. وبحسب البيان المالي لوزارة المالية ، تمثل الفوائد المطلوب سدادها عن القروض المحلية والأجنبية في مشروع الموازنة نحو 7.6% من الناتج المحلي الإجمالي. كما تمثل مخصصات الفوائد 45.5% من إجمالي الإيرادات المقدرة بمشروع الموازنة.

(*)- اتجاه المركزي المصري إلى استخدام سياسة نقدية انكماشية أخرى، وهي تعني زيادة الاحتياطي الإلزامي الذي تلتزم البنوك بوضعه تحت تصرف البنك المركزي من دون فوائد للتعامل مع الأزمات ؛ وبالتالي سوف تنخفض السيولة النقدية لدى البنوك ويحقق هدف تقليل الأموال المتاحة لنشاط الإقراض والائتمان والمساهمة فى الحد نسبيا من التضخم، ومن المتوقع أن تسهم تلك الزيادة المقررة فى نسبة الاحتياط الإلزامي إلى سيولة وأموال جارية لدى البنك المركزى مقدارهافى حدود 650-700 مليار جنيه مقارنة بنحو 500 مليار فى ظل نسبة ال14ـ% .كما أن الأداة الجديدة التي استخدمها المركزي هذه المرة وهي زيادة الاحتياطي الإلزامي من البنوك تحقق نفس هدف رفع الفائدة وبتأثيرات سلبية أقل، أو لا تذكر ومن ثم يتم تقليل التضخم دون إحداث حالة من الركود الذي يحدث عند رفع أسعار الفائدة.

في النهاية، لابد من تسليط الضوء على أن  التضخم حاليا يعود لأسباب خارجية في الأساس أو ما يسمي بالتضخم المستورد؛ وبالتالي مع تراجع الأسعار العالمية خاصة النفط والقمح سيعزز ذلك فرص تراجع معدلات التضخم محلياً. وهو الأمر المرتبط بالأحداث العالمية ومدى انتهاء الحرب الروسة الأوكرانية من عدمها، وفى ظل الركود التضخمى الذى تشهده معظم دول العالم، فان استمرار رفع سعر الفائدة سيزيد من عوائق الاستثمار ويقف حائلاً أمام التوسع في الأنشطة الاقتصادية ومعدلات النمو . كما أن قرار البنك المركزي المصري بتثبيث سعر الفائدة هدفه عدم الانسياق وراء الزيادات المتتالية من جانب الفيدرالي الأميركي، خاصة أن زيادة أسعار الفائدة يؤثر بالسلب على البورصة وعلى خدمة الدين وعلى تكلفة الاستثمار. وما زالت لجنة السياسة النقدية المصرية تتابع عن كثب جميع التطورات الاقتصادية العالمية والمحلية، حتى تتمكن من استخدام الأدوات النقدية المناسبة فى الوقت المناسب لتحقيق هدف استقرار الأسعار على المدى المتوسط.

د.جيهان عبد السلام

رئيس وحدة دراسات مصر -أستاذ مساعد الاقتصاد بجامعة القاهرة. -حاصلة على دكتوراه الاقتصاد بكلية الدراسات الأفريقية العليا. -عضو هيئة تحكيم البحوث الاقتصادية لدى المركز الجامعي لترامنست. -عضو هيئة تحكيم لدى كلية الاقتصاد والإدارة وعلوم التيسير. -عضو هيئة تحكيم لدى جامعة الشهيد لخضر. -خبير اقتصادي وكاتبة في العديد من المجلات العلمية ومراكز الدراسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى