تراجع ملحوظ: أين تتموقع فرنسا في القارة الأفريقية؟

استطاعت فرنسا منذ بداية الحقبة الاستعمارية وخاصة بعد مؤتمر برلين 1884 – 1885 والذي تم تقسيم القارة الأفريقية خلاله على القوى الاستعمارية الكبرى أن تحكم قبضتها على أكثر من 20 دولة أفريقية فى شمال ووسط وغرب القارة الإفريقية واستمر حكمها منذ ذلك الحين وحتى حقبة الستينيات من القرن الماضى والذى يسمى عقد التحرر الأفريقي.

وعلى الرغم من الاستقلال الرسمى وتمتع كافة دول القارة الأفريقية بسيادتها التامة على أراضيها إلا أن الاحتلال الفرنسى والذى كان يتبع نمط الاحتلال المباشر داخل القارة الإفريقية نجح فى فرض سيطرته وثقافته وهيمنتها على أغلب شعوب تلك الدول التى احتلها. بخلاف الاحتلال الانجليزى الذى كان يتبع نمطاً غير مباشر يسع  من خلاله السيطرة على الموارد الاقتصادية وفقط عبر نظام للإدارة اتبع فيه تعيين زعماء القبائل وأبنائهم فى الوظائف الإدارية وجمع الضرائب لصالح بريطانيا مقابل منافع يحصل عليها هؤلاء الزعماء سواء مادية او مناصب إدارية.

وظلت الهيمنة الفرنسية على أغلب الدول التى احتلتها عبر إيجاد  وخلق نخبة متشبعة بالثقافة الفرنسية ودعمها  للوصول إلى سدة الحكم عن طريق الانتخابات أو الانقلابات العسكرية مع توفير الحماية الكافية لها لضمان استمرار النفوذ الفرنسى فى تلك البلدان وربما كان لمنظمة الدول الفرانكفونية دور هام فى توحيد الدول التى تتحدث باللغة الفرنسية تحت غطاء تنظيم دولى وهو ما يعبر بشكل أكثر وضوحًا عن الهيمنة الثقافية الفرنسية.

كذلك فقد سعت فرنسا منذ بداية استقلال الدول الأفريقية إلى ربط اقتصادات مستعمراتها  بواسطة الفرنك الأفريقي أو ما يعرف باسم اCFA وهى اختصار لاسم( فرنك المستعمرات الإفريقية الفرنسية)، وقد طلبت فرنسا بحجة ضمان العملة إيداع نصف الاحتياطيات النقدية لتلك الدول، ومن ثم أصبح التعامل فى منطقة الفرنك الأفريقي يسمح بتحويل رؤوس الأموال فى منطقة الفرنك الفرنسى إلى فرنسا فقط وليس العكس .

وقد قامت فرنسا بخفض قيمة الفرنك الإفريقي بشكل حاد أمام الفرنك الفرنسى ثم ربطه باليورو فاحتفظت بالسيطرة النقدية لهذه الدول ومواردها وهو ماكرس التبعية الاقتصادية للاستعمار الفرنسى وسيادته على تلك الدول.[1]

وقد شهدت الشهور القليلة الماضية مظاهرات حاشدة ضد  التواجد الفرنسى فى كل من مالى وتشاد وبوركينا فاسو والتى تشير إلى ما يمكن تسميته بالموجه الثانية للتخلص من الاستعمار الفرنسى فى أفريقيا، حيث أدركت شعوب تلك الدول أن هذا الاستعمار ليس عسكرياً فقط ولكن اقتصادي وثفافى ومالى، لذا قامت تلك المظاهرات لوقف نهب الثروات وتجريف ثقافتهم الوطنية والسيطرة عل إرادتهم السياسية عبر سياسيين،أو انقلابيين موالين لها.

ففى الوقت الذى وقفت فيه فرنسا مع الانقلاب فى تشاد لأنه موال لها ويقمع احتجاجات الشعب ضدها، ، بينما اتخذت موقفًا مغايرًا فى مالي لأنهم وقفوا مع المطالب الشعبية ضد الاستعمار الفرنسى. [2]

لذا فقد فخرجت المظاهرات الشعبية  فى تشاد منددة بالموقف الفرنسى الداعم للمجلس العسكرى الانتقالي الذى تقلد السلطة عقب اغتيال الرئيس إدريس ديبى فى ابريل 2021، وقام المنظاهرون بمهاجمة قاعدة عسكرية للقوات الفرنسية فى أبشى وحطموا نصبًا تذكاريًا كان بداخلها.[3]

كما شهدت الأشهر الماضية تدهور العلاقات بين مالى وفرنسا بشكل متسارع ففى مطلع شهر فبراير الماضى أعلن المجلس العسكرى الحاكم فى مالى طرد السفير الفرنسى فى باماكو جويل ميير والذى تم استدعاؤه من قبل وزير الخارجية وإبلاغه بضرورة مغادرة البلاد عقب تصريحاته بأن المجلس العسكرى الحاكم فى مالى لا يتمتع بالشرعية، وكذلك التصريحات المعادية من قبل المسئولين الفرنسيين بشأن تدهور الأوضاع فى مالى عقب الانقلاب العسكرى الأخير وصعوبة استمرار تواجد القوات الفرنسية فى مالى.

وقد تصاعدت حدة التوتر بشكل ملحوظ بين الدولتين منذ وصول العقيد عاصمى جويتا إلى السلطة فى مايو 2021 ، وتواجد العديد من الخبراء الروس لدعم جهود الحكومة فى مكافحة الإرهاب وحفظ الأمن فضلًا عن مطالبتها باريس بمراجعة الاتفاقيات الدفاعية الثنائية بينهما، بالإضافة إلى تصاعد حدة الرفض الشعبى للوجود الفرنسى فى دول الساحل، والذى عكسته التظاهرات المتكررة المناهضة لباريس وقيامهم بقطع الطريق على القوافل الفرنسية العسكرية.

وذلك بالتزامن مع تصاعد الدور الصينى فى منطقة ساحل أفريقيا الغربى لتأمين كافة الموانى اللازمة لنجاح مبادرة الحزام والطريق وذلك عبر قيام الصين باستخدام استراتيجية مختلفة عن القوى القديمة فى أفريقيا وهى تقديم الدعم دون التدخل فى الشئون الداخلية وللتدليل على ذلك فقد قدمت الصين قرضًا لأنجولا بقيمة 2 مليار دولار بفائدة بسيطة 1.5% لمدة 17 عام بعد الضغوط التى تعرضت لها الحكومة الأنجولية وفشلها فى الحصول على القرض من صندوق النقد الدولى، وفى مقابل ذلك نجحت الصين فى توقيع عقد للحصول على عشرة ألاف برميل نفط يوميًا من أنجولا كما استحوذت على 70 % من عقود مشاريع البناء والخدمات بها.

كذلك أنقذ تعليق سداد الديون لمدة ثلاث سنوات كل من أنجولا وتشاد والكونغو وموريتانيا والتى تعرضت لضغوط مالية شديدة بسبب انهيار أسعار السلع الأساسية نتيجة أزمة كوفيد 19، وبالتالى فقد وجدت تلك الدول بديلًا اقتصاديًا عن السياسة الغربية التى تزيد من الضغوط عليها.[4]

وكذلك الصعود والتواجد العسكرى لقوات فاجنر الروسية فى المنطقة والتى رأى فيه قادة المنطقة وشعوبها خلاصًا من تهديد الجماعات الإرهابية، حيث بدأت حل قوات شركة فاجنر الروسية محل القوات الفرنسية كان أخرها تسلمها قاعدة ميناكا فى شمال شرق مالى عقب تسلم الجيش المالى للقاعدة من الفرنسيين بيومين أثنين، وتعد قاعدة ميناكا، هى المرحلة قبل الأخيرة من رحيل قوة برحان نهائيً من الأراضي المالية.[5]

وختامًا، تبرز العديد من الدروس المستفادة من أفول النفوذ الفرنسى فى أفريقيا التى يمكن استخلاصها من الفشل الفرنسى فى مالى ومنطقة الساحل الأفريقي، منها عدم وجود استراتيجية واضحة المعالم لفرنسا فى التعامل مع التغيرات الجديدة لدى شعوب وحكومات الدول الأفريقية، والتى ظلت تتعامل معها بنفس الرؤية والأساليب التى كانت خلالها فرنسا هى المسيطر الرئيسي على المنطقة، كذلك عدم وجود تأييد داخلى فى فرنسا للوجود الفرنسي والبث عن جدوى ذلك الوجود فى ظل تعرض القوات الفرنسية لهجمات متتالية راح ضحيتها العشرات من القوات الفرنسية، بالإضافة إلى الخسائر المالية فى ظل الأزمة المالية التى تعانى منها اغلب الدول الأوروبية بالتزامن مع عدم توضيح الاستراتيجية الفرنسية داخليًا مما مثل ضغوطًا متزايدة على حكومة ماركون، وأخيرا أن التعاون خارج الشرعية القانونية مع الأنظمة التى تصل إلى السلطة مخالفة للشرعية والدستور لا يمكن ضمان ولائهم خاصة وأن أهم ما يهم تلك الأنظمة، هو استمرارها على كرسى الحكم.

___________________________________________________________________

[1]https://www.alestiklal.net/ar/view/12003/dep-news-1643031540

[2]https://www.alestiklal.net/ar/view/13587/dep-news-1653125395

[3]https://2u.pw/ui5Cg

[4]https://www.project-syndicate.org/commentary/covid19-africa-debt-relief-china-by-paola-subacchi-2021-01/arabic

[5]https://www.skynewsarabia.com/world/1531431-%D9%85%D8%BA%D8%A7%D8%AF%D8%B1%D8%A9-%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D8%A7-%D9%85%D8%AC%D9%85%D9%88%D8%B9%D8%A9-%D9%81%D8%A7%D8%BA%D9%86%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B5%D9%84-%D9%82%D8%A7%D8%B9%D8%AF%D8%A9-%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A

د. محمد فؤاد رشوان

خبير مشارك في شئون الدراسات الأفريقية، الباحث حاصل على دكتوراه الفلسفة فى الدراسات الأفريقية من جامعة القاهرة، وكان يعمل مساعداً رئيس تحرير مجلة الشئون الأفريقية خلال الفترة من 2013 – 2018، وعضو مؤسس فى رابطة التواصل الأفريقي، ومحاضراً لدى مكتب الاتحاد الأفريقي بالقاهرة خلال الفترة من 2015 وحتى تاريخه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى