ترك ستريم: ما أهمية “السيل التركي” في الحرب الأوكرانية؟

اتهمت روسيا الجانب الأوكراني بشن هجوم على خط الغاز ترك ستريم “السيل التركي” المار عبر البحر الأسود، من خلال 9 طائرات مسيرة أوكرانية استهدفت الإضرار بالبنية التحتية للخط الوحيد المتاح حاليًا لنقل الغاز الروسي للقارة الأوروبية، بعد تخريب خطي “نورد ستريم” في 2022، وتوقف عملية نقل الغاز عبر أوكرانيا نتيجة لرفض الأخيرة تجديد اتفاقية عبور مدتها خمس سنوات لضخ الغاز عبر أراضيها. وتبع الهجوم الأكراني المزعوم نقاشات بين موسكو وأنقرة لم تنتج رد فعل من الإدارة التركية في ظل نفي كييف ضلوعها في تنفيذ تلك العملية التي تفتح الباب أمام احتمالية ضرب مسارات الطاقة الروسية في الفترة القادمة مع استمرار الغموذ بشأن مفاوضات التسوية.

تُعد مسارات الطاقة، ولا سيما خطوط الغاز الطبيعي القادمة من روسيا عبر البحر الأسود حتى وصولها إلى السواحل التركية ذات أهمية خاصة للطرفين، على الرغم من وجود تحديات كثيرة تحول دون استمرار الوضع الراهن.

أهمية استراتيجية 

تبرز أهمية تلك المسارات لأنقرة باعتبارها أداة نفوذ شديدة الأهمية، بينما تُدرك موسكو أنها لن تتمكن من تحقيق مكتسبات في حربها دون وجود ترسانة من الأسلحة السياسية والاقتصادية إلى جانب العسكرية، وهو ما سيتم توضيحه على النحو التالي:

(*) ورقة نفوذ: توجهت تركيا منذ بداية الألفية الجديدة نحو تعزيز إنتاجها الصناعي والذي يزيد منفاتورة استيراد الطاقة، لا سيما الغاز الطبيعي. وسعت أنقرة لتعزيز الشراكات الثنائية بهدف تأمين احتياجاتها من الغاز من خلال خطوط أنابيب مختلفة تمر إلى تركيا ومن خلالها إلى دول أخرى كنتيجة مباشرة لموقع الأخيرة المُتميز. ويأتي التعاون التركي الروسي في مجال الطاقة، ولا سيما الغاز الطبيعي من خلال مد خطي أنابيب من الأخيرة إلى الأراضي التركية وهما “بلو ستريم” و”ترك ستريم”.

استهدف خط بلو ستريم الذي تم افتتاحه عام 2005 نقل الغاز الروسي عبر البحر الأسود إلى ميناء سامسون التركي مع وصول قدرته الاستيعابية إلى حوالي 16 مليار متر مكعب سنويًا مع اختلاف النسبة الفعلية على مدار السنوات المختلفة. وفي يناير 2020، افتتح الجانبان التركي والروسي خط الغاز الجديد “ترك ستريم” بقدرة استيعابية تبلغ 31,5 مليار متر مكعب، بهدف تلبية احتياجات السوق التركي إضافة إلى الأوروبي من خلال المرور بالبحر الأسود، وصولًا إلى خط الساحل التركي بمنطقة كي كوي التي يُفصل فيها الغاز المُفترض تصديره إلى أوروبا عن الجزء الآخر الذي سيتم الاعتماد عليه بتركيا.

ولذلك يُعد الغاز الروسي مصدرًا بالغ الأهمية للدولة التركية نتيجة لوجود بنية تحتية تُسهل عملية النقل التي تحتاجها أنقرة لسد احتياجاتها من الغاز الطبيعي، في ظل ضخ موسكو كميات كبيرة لتركيا بأسعار تنافسية لا يسهل الحصول عليها. علاوة على ذلك، لا تقتصر أهمية الغاز الروسي القادم عبر “ترك ستريم” على كونه فقط وسيلة لتلبية احتياجات أنقرة من الطاقة ودعم مشروعاتها المختلفة، وإنما أيضًا كمُساهم لا غنى عنه في المشروع التركي حتى تصبح أنقرة مركزًا عالميًا لنقل الطاقة من خلال مختلف مشروعات الربط الطاقوي مثل “ترك ستريم” وممر الغاز الجنوبي، ومشروعات أخرى لا تزال تحت الدراسة.

وبناءًا على ذلك، تبرز أهمية خطوط الطاقة المُتجهة من تركيا إلى روسيا باعتبارها ورقة مساومة أو ضغط قد تستخدمها الإدارة التركية إن احتاجت سواء كان ذلك مع الجانب الروسي أو الأوروبي أو الأمريكي.

(*) سلاح الغاز: زادت أهمية “ترك ستريم” بشكل كبير للدولة الروسية في ظل الحرب بين الأخيرة وأوكرانيا، التي صاحبها تأثير كبير على الاقتصاد الروسي بمختلف قطاعاته، ولا سيما قطاع الطاقة، نتيجة لتعطل عملية نقل الغاز عبر أوكرانيا إلى الدول الأوروبية، وهو ما كانت تعتمد عليه موسكو بشكل كبير، إضافة إلى تعطل خطوط “نورد ستريم” في ظل تصاعد التوتر بين موسكو والعواصم الأوروبية. ولذلك كان المسار الوحيد الآمن لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا هو “ترك ستريم” في ظل براجماتية العلاقات بين موسكو وأنقرة، مع سعي الأخيرة للعب دور الوسيط لإيقاف الحرب الروسية الأوكرانية متى أُتيحت الفرصة.

 ويُعد الهدف الرئيسي لخطوط الغاز الروسية بما فيها المارة عبر البحر الأسود، هو شق الصف الأوروبي بالاعتماد على دبلوماسية الطاقة، حيث لا تزال بعض دول الإتحاد الأوروبي مثل المجر وسلوفاكيا تعتمد على الغاز الروسي على الرغم من الحظر الذي حاول الإتحاد تطبيقه على أرض الواقع. إلى جانب ذلك، يمكن استخدام ورقة الغاز كأداة ضغط على الدول المُستوردة لخلق موقف حيادي ضاغط على بروكسل، وداعم لإنهاء الحرب وفقًا للشروط الروسية في ظل ارتفاع فاتورة الطاقة على الدول الأوروبية، والمُؤدي بدوره لزيادة وتيرة الاحتجاجات والضغط الشعبي على الحكومات الحالية التي لا تستطيع أيضًا خلق موقف مُوحد حول إيقاف الاستيراد بشكل كامل.

تحديات ضاغطة

تواجه عملية استمرار تدفق الطاقة تحديات عدة نتيجة لتصاعد الضغط الغربي على الرئيس الروسي، مع وجود أنقرة في موقع اللاعب البراجماتي المحايد، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

(-) وتيرة متصاعدة: توجهت أوكرانيا نحو ضرب أهداف لوجستية مختلفة منذ بداية الحرب وحتى هذه اللحظة؛ حيث بدأ الجانب الأوكراني بضرب قواعد ومنشآت عسكرية روسية بشبه جزيرة القرم في عام 2022، ثم تطور مدى الاستهداف الأوكراني للأراضي الروسية في العام 2023 كنتيجة لحصولها على منظومات جوية بعيدة المدى من الولايات المتحدة والدول الأوروبية. ومثّل عام 2024 نقطة تحول في مسار استهداف النقاط الحيوية بالأراضي الروسية، نتيجة لتوجه القيادة الأوكرانية نحو التركيز على ضرب منشآت الطاقة بالاعتماد على الطائرات بدون طيار التي كان لها دور بارز أيضًا في عام 2025، الذي تصاعدت فيه وتيرة استهداف بنية الطاقة المتمثلة في محطات تكرير النفط، ومحطات الغاز الطبيعي، ومحطات تحويل الكهرباء.

(-) عقوبات غربية: حث الرئيس الأمريكي الدول الأوروبية على ضرورة وقف استيراد النفط الروسي، في ظل عدم رغبة فلاديمير بوتين في إظهار مرونة بالتفاوض وفق الرؤية الأوروبية. وأتى ذلك في ضوء تصريحات ترامب المتكررة في الفترة الأخيرة حول أهمية الاعتماد على مصادر نفط بديلة، معتبرًا الدول الأوروبية داعم غير مباشر للجانب الروسي المُعتمد على النفط كمصدر تمويل أساسي لحربه الحالية. ونتيجة لذلك، توجهت الدول الأوروبية في 19 سبتمبر 2025 نحو تطبيق الحزمة 19 من العقوبات، التي تستهدف قطاع الطاقة الروسي من نفط وغاز من خلال إدراج 69 كيانًا إضافيًا في قوائم تجميد الأصول المُرتبطة بأسطول الظل الروسي، بهدف وضع موسكو تحت مزيد من الضغط، والمُنعكس بدوره على مسار الحرب.

(-) معادلة النفوذ: في واقع الأمر، لا تخلو العلاقات التركية الروسية من مساحات تراشق يختلف فيها الطرفان حول معادلة النفوذ، وخريطة القوى المراد دعمها سواء كان ذلك في الشرق الأوسط أو غيره من المناطق الأخرى المُشتركة بين الطرفين. وبالنظر إلى منطقة جنوب القوقاز باعتبارها منطقة نفوذ لا غنى عنها للدولتين، نجد اختلاف واضح بينهما في التعامل مع الأزمة المُتجددة بين أرمينيا وأذربيجان، حيث تتجه أنقرة نحو دعم الجانب الأذري بينما تتجه موسكو تاريخيًا نحو الجانب الأرميني في ضوء سعي كل طرف لتعزيز ونفوذه بتلك المنطقة التي تواجه ما يواجه الشرق الأوسط من عدم توافق في ملفات محددة مثل الملف السوري والليبي بين الجانبين التركي والروسي. وبالتالي، إلى جانب إدراك العلاقات التركية الروسية في ضوء مساحات التفاهم، يجب أيضًا إدراكها وفقًا لمساحات عدم التوافق، التي من الممكن أن تحاول أنقرة استغلالها في الفترة القادمة بدرجة أكبر لتحقيق مكتسبات غير مسبوقة مبنية على حاجة الجانب الروسي لتمرير الغاز عير الأراضي التركية كمسار لا بديل عنه في الوقت الحالي في ظل تعطل كافة الخطوط الأخرى، وعلى رأسها “نورد ستريم” الذي تعرض للتخريب من قبل.

تأثير واشنطن

على الرغم من تصاعد حدة الضربات الأوكرانية على الأرضي الروسية، إلا أنه لا يمكن النظر في احتمالية استهداف مسارات الطاقة الروسية في البحر الأسود إلا في ضوء محددين رئيسيين، وهم على الترتيب: العلاقات الأمريكية التركية، والعلاقات الأمريكية الروسية. فيما يخص المحدد الأول، من الضروري إدراك ارتفاع مستوى التعاون والتنسيق بين ترامب وأردوغان في الفترة الأخيرة في ظل اتساع دائرة التوافق بين الجانبين، حيث ترى واشنطن في أنقرة حليف لا يمكن الاستغناء عنه في الفترة الحالية. وبناءًا على اعتبار مسارات الطاقة في البحر الأسود مورد رئيسي للجانب التركي، فقد تأتي الضربة الأوكرانية إن حدثت في ضوء اتفاق بين أنقرة وواشنطن وهو ما لا يصعب تحقيقه أو حتى تجاهل تكرار سيناريو الضربة الإسرائيلية على أراضي الوسيط القطري وما أفرزته من تبعات غيرت مسار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بشكل كامل، وذلك مع الوضع في الاعتبار اختلاف المعطيات بشكل كامل وطبيعة الضربة إن حدثت باعتبارها خارج نطاق الأراضي التركية، وإنما فقط مؤثرة بشكل مباشر على مصالح الأخيرة.

وفيما يخص المحدد الثاني، تريد الولايات المتحدة حتى هذه اللحظة فرض معادلة التصعيد الحذر مع الجانب الروسي، لمنع ردود انتقامية روسية قد تؤدي إلى اتساع رقعة الحرب الحالية، وزيادة حدتها. ولذلك تدرك إدارة ترامب أن من الأفضل الاعتماد على وقف الاستيراد من الدولة الروسية بدلًا من توجيه ضربة قاصمة تعرقل عملية تصدير الغاز بشكل كامل.

ومن خلال تحليل الفارق بين عملية تخريب خط نورد ستريم، ومزاعم الهجوم على خط ترك ستريم، نجد أن هناك نقاط عدة يجب النظر إليها؛ النقطة الأولى أن عملية نورد ستريم كان لها أدلة واضحة إضافة إلى كونها أكثر تنظيمًا باعتمادها على تفجيرات تحت سطح الماء أفرزت ترددات زلزالية، على العكس من العملية الأخيرة غير المُنظمة التي استهدفت “ترك ستريم” كما هو الحال بنورد ستريم حسب مزاعم الجانب الروسي. وأما النقطة الثانية فهي مرتبطة بحقيقة الفعل في حد ذاته، حيث استطاعت موسكو في المرة الأولى تقديم أدلة واضحة على عملية الاستهداف، ولكن في حادثة “ترك ستريم” المزعومة لم تظهر حتى لقطات من الأقمار الصناعية تُوضح عملية الهجوم أو السيطرة عليه من الجانب الروسي من خلال إيقاع تلك المسيرات، مما يثير التكهنات حول احتمالية حدوث الهجوم من عدمه. وعلى الرغم من عدم وجود أدلة موثوقة على وقوع الحادث، إلا أنه إن وقع فلا يمكن النظر إليه إلا في ضوء عملية تستهدف الضغط على الجانب الروسي من خلال وضع كافة المواقع الحيوية تحت مرمى النيران، إضافة إلى اعتباره محاولة تساهم في جس نبض كافة الأطراف الأخرى من النظر في وتيرة التصريحات الرسمية وردود الأفعال غير الرسمية حول الهجوم الأخير.

وختامًا، يمكن إدراك احتمالية استهداف خط “ترك ستريم” للغاز من عدمها في ضوء مدى أهمية مسارات الطاقة الروسية في البحر الأسود للدول الأوروبية في الفترة القادمة، والمُرتبطة بشكل وثيق بمدى قدرتهم على تنويع المصادر وإيجاد بدائل أخرى يمكن الاعتماد عليها لخدمة الطلب المتزايد على الطاقة، كنتيجة للتهديد الذي يواجه تلك الدول سواء كان من الجانب الروسي نفسه أو من التبعات المُحتملة لتعطل مسار “ترك ستريم” في ظل الموقف الروسي الحرج في الفترة الحالية، المبني على وجود ضغط أمريكي على الدول الأوروبية لإيقاف الاستيراد، والذي من الممكن أن تتسارع وتيرته إن أرادت أنقرة الضغط على موسكو باعتبارها أداة الربط الرئيسية لنقل الغاز للدول الأوروبية.

عبدالرحمن سعدالدين

عبدالرحمن سعد الدين، باحث في وحدة دراسات العالم. الباحث حاصل على بكالوريوس العلوم السياسية من جامعة الإسكندرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى