أهمية متزايدة.. دلالات التوجه التركي نحو منطقة الخليج

أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جولة خليجية في الفترة من 21 حتى 23 أكتوبر 2025 شملت الكويت وقطر وعُمان. وفي إطار تلك الجولة، وقعت تركيا 24 اتفاقية ومذكرة تفاهم وبيانات مشتركة مع الدول الخليجية الثلاث في ظل حاجة الجانبين إلى رفع مستوى التعاون، نتيجة لما يواجه المنطقة من توترات تنعكس بدورها على ضرورة خلق علاقات أكثر متانة على كافة المستويات.

وتتميز منطقة الخليج العربي بموقع جغرافي شديد التميز يجعلها فاعلًا أساسيًا في مسارات التبادل التجاري، وشريك لا غنى عنه بالنظر لدوره متعدد الجوانب، والذي يؤثر بشكل واضح على المنطقة ككل.

حلقة وصل

ترى أنقرة في منطقة الخليج فرصة كبيرة نتيجة لموقع الأخيرة المُتميز الذي يتعزز من خلال إطلالها على مفترق طرق التجارة البحرية العالمية، إضافة إلى امتلاكها موارد طاقة هائلة تتلاقى مع رغبة أنقرة في تعزيز دورها المحوري في ذلك القطاع دوليًا، وهو ما يمكن تفصيله في العوامل التالية:

(*) أداة ربط: تتمتع دول الخليج بموقع جغرافي شديد التميز، باعتبارها حلقة الوصل بين الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا من خلال مختلف المنافذ البحرية الخليجية مثل مضيق هرمز الرابط بينها وبين جنوب آسيا، إضافة إلى الممر البحري الممتد من الخليج إلى باب المندب عبر بحر العرب والذي يربط دول الخليج بالبحر الأحمر ومنطقة القرن الإفريقي كمحطة أولى بالقارة السوداء. ويُعزز الطابع المُتميز لتلك المنطقة باعتبارها أيضًا حلقة وصل بين دول المشرق العربي وجنوب آسيا المُعتمدة على الخليج بهدف الوصول لأوروبا باعتباره حلقة الوصل غير المباشرة بينها وبين القارة العجوز. ولذلك تدرك أنقرة الأهمية الجيوستراتيجية لتلك المنطقة التي تُعد ممر أساسي لا غنى عنه في مسار التبادل التجاري العالمي.

(*) نافذة بحرية: على الرغم من النفوذ التركي البحري المبني على استراتيجية “الوطن الأزرق” بالبحرين المتوسط والأسود، إلا أنها لا تزال بحاجة إلى دول الخليج، لا سيما قطر وعُمان لضمان توسيع مجالها الملاحي نحو بحر العرب والمحيط الهندي بهدف نقل البضائع والمنتجات من وإلى أنقرة، وبالتالي كان من الضروري للدولة التركية السعي نحو تعزيز العلاقات مع دول منطقة الخليج، للحصول على مرتكز منفذ بحري غير مباشر من خلال الموانئ المطلة على المحيط الهندي والخليج العربي على الترتيب، والذي يتلاقى بدوره مع أهمية إيجاد مسار مباشر في ظل التوترات المحيطة بمضيق هرمز.

وتمتلك تركيا وعُمان فرصة بالغة الأهمية يمكن استغلالها فيما بعد ضمن إطار التعاون المُتزايد بين البلدين، لا سيما في الفترة الأخيرة كنتيجة لزيارة الرئيس التركي للأراضي العُمانية، من خلال الاستخدام المتبادل للنفوذ البحري؛ حيث توفر أنقرة مناطق صناعية وموانئ مرتبطة بالقارة الأوروبية، بينما تمتلك مسقط مناطق حرة وموانئ تُمكن أنقرة من الوصول بشكل مباشر للقارتين الإفريقية والآسيوية.

(*) مشروعات الطاقة: تسعى أنقرة في الفترة الأخيرة نحو تعزيز دورها على المستويين الإقليمي والدولي من خلال تحولها لنقطة عبور للطاقة تربط بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، في ظل حالة البحث الجارية عن ممرات طاقة بديلة ومختصرة لتسهيل عملية النقل. وبالنظر إلى الدور الفعلي لتركيا، نجد أنها تساهم في ذلك حاليًا من خلال مشروع ممر الغاز الجنوبي المختص بنقل الغاز من بحر قزوين مرورًا بالأراضي التركية و”ترك ستريم” لنقل الغاز من الأراضي الروسية إلى أوروبا عبر تركيا، إضافة إلى مشروع نقل الغاز الأذري إلى سوريا بالاعتماد على تركيا وقطر.

وبالنظر إلى الخليج بما يمتلكه من ثروات مختلفة، لا سيما بقطاع الطاقة، يمكن إدراك أهميته الحيوية لأنقرة التي تسعى للعب دور الرابط بين الدول المُصدرة والمُستوردة للطاقة، ولذلك يأتي مشروع طريق التنمية الرابط بين الدول الخليجية المُصدرة للطاقة وأوروبا من خلال تركيا كأحد أبرز المشروعات التي تسعى أنقرة لإتمامها لما له من عوائد مباشرة وغير مباشرة على الجانب التركي، خاصة في تعزيز دورها كمحطة عبور للطاقة إلى الدول الغربية من مناطق مختلفة على مستوى العالم.

شريك موثوق

(-) تعاون مُثمر: توجه الرئيس أردوغان منذ وصوله إلى الحكم نحو تنفيذ إصلاحات اقتصادية هيكلية تستهدف جعل اقتصاد الدولة أكثر جذبًا لرؤوس الأموال، لا سيما الخليجية الباحثة عن استثمارات أخرى خارج قطاع النفط في ظل ما تمتلكه أنقرة من قدرات صناعية متطورة وسوق استهلاكية يمكن استغلالها، والذي بدوره انعكس إيجابًا على حجم التجارة البينية بين البلدين. وأتت التوترات السياسية بين الجانبين، الناتجة عن ثورات الربيع العربي في توقيت حرج، بتأثير بالغ على حجم التعاون والتبادل التجاري بينهما حتى المصالحة العربية التي اُعتبرت نقطة الانطلاق الجديدة، بعدما شهدته الأوضاع من انشقاقات في البيت الخليجي وتحالفاته الخارجية، حيث وصل معدل التجارة بين تركيا ودول الخليج مجتمعة في عام 2022 إلى حوالي 22,7 مليار دولار قبل أن يرتفع إلى 27,7 مليار دولار في عام 2025 مع استهداف الوصول إلى 31,5 مليار دولار في الفترة القادمة. علاوة على ذلك، بدأت المفاوضات بين دول الخليج وتركيا في عام 2024، مُستهدفة التفاوض حول اتفاقية تجارة حرة بين الطرفين في ظل استعادة الخليج لتماسكه نسبيًا بعدما واجه من تشتت.

ومن خلال النظر في الزيارة الأخيرة للرئيس التركي لبعض دول الخليج (قطر والكويت وعُمان)، أثمرت عن توثيق التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري بين الطرفين، المُلاحظ من خلال توقيع 24 مذكرة تفاهم بين الجانبين شاملة مختلف المجالات، مع إعلان رغبة الأطراف في الوصول لهدف تجاري مشترك قيمته 15 مليار دولار لتوسيع وتوثيق التبادل التجاري. ولم يقتصر التعاون على الشكل الجماعي وإنما بُني أيضًا على العلاقات الوثيقة بين أنقرة وتلك الدول، حيث شهدت الزيارة التركية لقطر توقيع أكثر من 100 وثيقة تعاون في مجال التجارة والتمويل والاستثمار والطاقة، مع تأكيد الهدف المشترك وهو الوصول لحجم تبادل تجاري يبلغ 5 مليارات دولار، إضافة إلى تعزيز التعاون في مجالات الاقتصاد والتمويل القائم على تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص مع رفع درجة التنسيق بين وزارات البلدين، لا سيما وزارتي المالية والتجارة.

وتناولت زيارة أردوغان للكويت ملفات التعاون الاقتصادي والاستثماري، مع توقيع عدة اتفاقيات في مجالات مختلفة مثل الطاقة والنقل البحري والاستثمار المباشر والاعتراف المتبادل بشهادات البحارة. وفي إطار زيارة الرئيس التركي لمسقط، وقع الطرفان 6 اتفاقيات و8 مذكرات تفاهم تشمل الاستثمار والتكنولوجيا والصناعة والغذاء والزراعة والبيانات الرقمية، مع تأسيس مجلس التنسيق العُماني التركي لمتابعة تنفيذ الاتفاقيات وتسهيل حركة رجال الأعمال المُرتبط برغبة البلدين في توسيع نطاق التجارة والاستثمار، لا سيما عُمان الطامحة لتنفيذ رؤيتها 2040 من خلال تقليل الاعتماد على النفط كمصدر دخل أساسي للدولة.

(-) شراكة دفاعية: كانت قطر والمملكة العربية السعودية أبرز شركاء تركيا في المجال العسكري، لا سيما بعد المصالحة العربية الخليجية في عام 2021. ويمكن إدراك مدى متانة تلك العلاقات بين الجانبين التركي والقطري من خلال مختلف التفاهمات التي تعززت بين البلدين نتيجة للتوتر الذي شق الصف الخليجي فيما بعد “الربيع العربي”، مما أفرز بدوره توقيع اتفاقية تعاون عسكري بين البلدين في عام 2014، والتي دخلت حيز التنفيذ في 2017 نتيجة لإغلاق المجالات الجوية والبحرية والبرية الخليجية أمام الدوحة. وتبع تلك الاتفاقية إبرام العديد من صفقات السلاح في 2018 وتعزيز التعاون الأمني في 2019 استعدادًا لكأس العالم 2022، مع توقيع اتفاقية إطارية بين البلدين في عام 2022 مختصة بالتعاون العسكري.

وعلى الجانب الآخر، شهدت العلاقات الدفاعية التركية السعودية درجة كبيرة من التعاون الوثيق في المرحلة السابقة للمقاطعة الرباعية لقطر، والذي ظهر من خلال مختلف الاتفاقات التي وقعها الطرفان مثلما هو الحال باتفاقية التعاون الصناعي الدفاعي في 2013، التي لم يتبعها مزيد من التعاون نتيجة للموقف التركي من المقاطعة، إلا أن المصالحة الخليجية التي تمت في العام 2021 ساهمت بشكل واضح في إحياء العلاقات من جديد والذي ظهر من خلال حصول وزارة الدفاع السعودية على عقود استحواذ على طائرات مسيرة مع شركة بايكار التركية، إضافة إلى توقيع وزارتي الدفاع للبلدين على خطة تنفيذية للتعاون الدفاعي. وتلى ذلك توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم بين السعودية وعدد من الشركات التركية المتخصصة في الصناعات الدفاعية والعسكرية لتصنيع الأنظمة الإلكترونية والقطع الميكانيكية وهياكل الطائرات.

وتأتي الزيارة التركية الأخيرة لدول الخليج الثلاث في ضوء تسريع وتيرة التعاون العسكري من خلال توقيع سلسلة اتفاقات شملت بنود دفاعية واستراتيجية، إضافة إلى التفاوض بين الوفد التركي من جانب، وقطر وعُمان من جانب آخر حول شراء طائرات Eurofighter Typhoon المُستعملة في ظل عدم جاهزية طائرات KAAN تركية الصنع حتى هذه اللحظة. وفيما يخص التعاون الثنائي، وقع الجانبان التركي والقطري اتفاقات في مجالات الدفاع والتعاون الأمني، مع توقيع الجانب التركي مع نظيره العُماني اتفاقات شاملة مجالات الدفاع.

إقليم متشابك

لا يمكن النظر في شأن العلاقات التركية الخليجية دون إدراك نطاقها الإقليمي المُتشابك والداعي لمزيد من التعاون، بدلًا من حالة الاستقطاب التي عانى منها الشرق الأوسط بعد أحداث الربيع العربي، نتيجة لتراشق الأهداف والطموحات الإقليمية لكل طرف مثلما حدث بسوريا وليبيا والسودان، إلى أن اصطدمت الدول الإسلامية والعربية بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما أفرزته من انتهاكات لا توصف لحقوق أهالي قطاع غزة، ولذلك كان من الضروري رفع مستوى التعاون لتحجيم الأزمة، والذي ظهر من خلال القمم العربية الإسلامية المشتركة، إضافة إلى العمل على رفع مستوى التنسيق الثنائي مثلما هو الحال بين قطر وتركيا، وهو ما أكده الرئيس التركي في أهمية التعاون مع دول الخليج لإعادة إعمار القطاع.

وتأتي الأزمة السورية بما فيها من تعقيدات وتشابكات سواء قبيل سقوط بشار الأسد أو بعد رحيله ووصول أحمد الشرع إلى الحكم ومحاولة تركيا دعمه من خلال تعزيز التنسيق بينها وبين القوى الإقليمية غير الرافضة للقيادة السورية الجديدة مثل المملكة العربية السعودية، التي قد يكون لها دور بارز في عملية إعادة الإعمار بالتعاون مع الدولة التركية التي استغلت الزيارة الأخيرة لرئيسها إلى دولة الكويت لتأكيد سعيها للتكاتف مع الدول العربية لبناء مستقبل واعد للشعب السوري.

وبناءًا على ذلك، تدرك أنقرة أهمية دول الخليج ومدى قوتها وقدرتها على تغيير المعادلة في منطقة الشرق الأوسط، نتيجة لدورها الاقتصادي البارز الذي يمكن استخدامه كمسار للتهدئة أو على العكس من ذلك إن اتسعت دائرة عدم التنسيق بين الطرفين في ظل تشابك المصالح والتطلعات الإقليمية.

وختامًا، في ظل التطورات الإقليمية الأخيرة التي تسعى أنقرة لاستغلالها بهدف تحقيق مزيد من المكاسب المُنعكسة على موقف الحكومة الحالية داخليًا وإقليميًا ودوليًا، تأتي دول الخليج باعتبارها قوى ذات نفوذ سياسي واقتصادي يجب التعاون معه من خلال رفع مستوى التنسيق وتعزيز الشراكة المتبادلة، حتى وإن اصطدمت تطلعات الطرفين في دور أكبر أو في نظرتهم لما يجب أن تؤول إليه بعض الملفات العالقة، كنتيجة لإدراك أنقرة أنه لا يمكن خلق مزيد من النفوذ على الأرض إلا في ضوء التعاون المُتبادل.

عبدالرحمن سعدالدين

عبدالرحمن سعد الدين، باحث في وحدة دراسات العالم. الباحث حاصل على بكالوريوس العلوم السياسية من جامعة الإسكندرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى