حسابات متداخلة: هل تتفق الدول المتشاطئة على استراتيجية واحدة لحوكمة البحر الأحمر؟

أعاد تصريح الدكتور بدر عبد العاطي، وزير الخارجية المصري، الجدل حول طبيعة ملكية البحر الأحمر وحدود المسؤولية القانونية للدول المطلة عليه، فقد أكد عبد العاطي أن البحر الأحمر هو حق أصيل للدول المتشاطئة فقط ولا يجوز لأي دولة حبيسة – في إشارة إلى إثيوبيا – أن تدّعي لنفسها دورًا في حوكمة أو إدارة هذا الممر البحري الاستراتيجي. ويأتي هذا التصريح في سياق تصاعُد محاولات بعض الدول الإفريقية غير الساحلية لإيجاد منفذ إلى البحر الأحمر، سواء عبر اتفاقيات ثنائية مع دول الجوار أو من خلال تبريرات جغرافية واقتصادية تتعلق بالمصالح المشتركة. ويُعد هذا الطرح امتدادًا للنقاش الأوسع حول حوكمة البحر الأحمر كمنطقة تمثل محورًا للتنافس الدولي والإقليمي؛ نظرًا لما تحتويه من ممرات حيوية وموارد بيئية واقتصادية وأمنية بالغة الحساسية. إن ما أشار إليه عبد العاطي يعكس الموقف المصري القائم على احترام القانون الدولي للبحار، الذي يحصر حقوق الاستغلال والإدارة في الدول ذات السواحل المباشرة. ومن ثم، فإن قضية البحر الأحمر لم تعد مسألة جغرافية فحسب، بل باتت قضية سيادة وأمن إقليمي تتطلب تنسيقًا وتوافقًا واضحًا بين الدول المتشاطئة للحفاظ على استقرار هذا الممر الحيوي.

تأسيسًا على ما تقدم، يسعى التحليل للإجابة عن سؤال: ما حدود مسؤولية الدول المتشاطئة في إدارة البحر الأحمر ومواجهة محاولات التمدُد الإفريقي؟

أدوار فعلية:

تلعب الدول المطلة على البحر الأحمر أدوارًا محورية في تأمينه وتنميته، تختلف باختلاف موقع كل دولة وقدراتها، فنجد:

(*) أدوار الدولة المصرية: تتعامل مصر مع البحر الأحمر باعتباره امتدادًا طبيعيًا لأمنها القومي، فمضيق باب المندب وقناة السويس يشكلان شريانين حيويين لحركة التجارة العالمية. حيث تعمل القاهرة على تعزيز قدراتها البحرية، وتشارك بفاعلية في المبادرات الإقليمية لحماية الملاحة ومكافحة الإرهاب البحري، كما تسعى لتفعيل التعاون الأمني في إطار مجلس الدول المتشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن.

(*) المملكة العربية السعودية: تمتلك السعودية أطول سواحل على البحر الأحمر، وتعد صاحبة المبادرة في إنشاء مجلس الدول المتشاطئة عام 2020، وتتبنى المملكة رؤية اقتصادية وتنموية للبحر الأحمر ضمن رؤية 2030 تشمل تنمية الموانئ والمشروعات الساحلية مثل “نيوم” و “أمالا”، وتمارس دورًا سياسيًا قياديًا في تنسيق المواقف الأمنية والاقتصادية للدول الساحلية.

(*) أدوار أخرى: تسعى بقية الدول المتشاطئة مثل السودان وإريتريا وجيبوتي واليمن والأردن إلى تحقيق مصالحها من خلال التعاون الإقليمي، ورغم تفاوت القدرات فإنها تشارك في أنشطة الحوكمة من خلال تنسيق المواقف السياسية ومكافحة التهريب والقرصنة مع الاستفادة من المبادرات التنموية المشتركة.

كيفية الحوكمة:

تستند حوكمة البحر الأحمر إلى مبدأي السيادة الوطنية للدول المطلة، والتعاون الجماعي لحماية المصالح المشتركة، فنلاحظ:

(*) الإطار المؤسسي للحوكمة: أُنشئ مجلس الدول العربية والإفريقية المتشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن عام 2020 بمبادرة سعودية ليكون إطارًا رسميًا للتنسيق في مجالات الأمن والتنمية، ويتولى المجلس تنسيق المواقف الأمنية وتنظيم أنشطة الصيد والملاحة، ويُعد أول منصة إقليمية تُعنى بإدارة البحر الأحمر.

(*) الأبعاد الأمنية للحوكمة: تركز الحوكمة الأمنية على مكافحة القرصنة والتهريب والإرهاب البحري عبر إنشاء آليات إنذار مبكر ودوريات بحرية مشتركة، كما يتم تبادل المعلومات الاستخباراتية لضمان سلامة الممرات البحرية خاصة في المناطق القريبة من باب المندب.

(*) البعد الاقتصادي والبيئية: تهدف الحوكمة إلى استغلال الموارد البحرية بطريقة مستدامة وتشجيع الاستثمار في الموانئ والسياحة الساحلية والطاقة المتجددة، كما تعمل الدول المتشاطئة على حماية البيئة البحرية من التلوث وتنظيم عمليات الصيد للحفاظ على التوازن البيئي.

مواقف إفريقية:

تثير رغبة بعض الدول الإفريقية الحبيسة في المشاركة بحوكمة البحر الأحمر إشكالية قانونية وسياسية تتعلق بالسيادة والحدود الجغرافية، حيث:

(*) الطموح الإثيوبي في الوصول إلى البحر الأحمر: منذ عام 2020، عبّر رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد عن رغبة بلاده في الحصول على منفذ بحري، معتبرًا أن حرمان إثيوبيا من السواحل يقيد قوتها الاقتصادية والعسكرية، فبدأت أديس أبابا تسعى إلى اتفاقات مع دول مثل جيبوتي أو إريتريا تمنحها منفذًا بحريًا دائمًا.

(*) الموقف القانوني للدول المتشاطئة: ترفض الدول المتشاطئة وفي مقدمتها مصر والسعودية أي مشاركة سيادية لدولة حبيسة في البحر الأحمر، ويستند هذا الرفض إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 التي تحصر إدارة الممرات البحرية في الدول المطلة عليها مباشرة، أما الدول الحبيسة فلها فقط حق العبور التجاري وليس المشاركة في الحوكمة أو الأمن.

(*) البعد السياسي للمسألة: تنظر الدول الساحلية إلى الموقف الإثيوبي كجزء من استراتيجية توسيع النفوذ في القرن الإفريقي خصوصًا بعد أزمة سد النهضة، ويُفهم التصريح المصري “البحر الأحمر للدول المتشاطئة” كرسالة ردع دبلوماسية تؤكد أن أي محاولة إثيوبية لتجاوز الواقع الجغرافي مرفوضة.

انعكاسات متعددة:

أثمرت الحوكمة المشتركة للبحر الأحمر عن آثار إيجابية على المستويين الأمني والاقتصادي، رغم استمرار التحديات الإقليمية، بما يساهم في:

(*) تعزيز الأمن البحري: ساهمت الدوريات المشتركة والتعاون الاستخباراتي في تقليص أنشطة القرصنة والتهريب، كما أسهمت الحوكمة في تنسيق الاستجابات العسكرية لحماية الممرات الحيوية، لا سيما قرب باب المندب وقناة السويس.

(*) تنمية التعاون الاقتصادي: فتحت الحوكمة الباب أمام استثمارات ضخمة في مجالات الموانئ والنقل البحري والطاقة المتجددة والسياحة، كما أوجدت فرصًا لتعزيز التكامل الاقتصادي بين الدول الساحلية، وهو ما ينعكس على التنمية في المناطق الحدودية والريفية.

(*) تعزيز الثقة السياسية بين الدول المتشاطئة: أدى العمل الجماعي داخل مجلس البحر الأحمر إلى بناء قدر من الثقة بين الدول، مما أضعف فرص التنافس الإقليمي وقلل من تدخل القوى الخارجية، كما أسهمت الحوكمة في توحيد المواقف تجاه القضايا الإقليمية الحساسة مثل أمن باب المندب وأمن الملاحة الدولية.

ختامًا، تُظهر معطيات الواقع أن مستقبل حوكمة البحر الأحمر سيتحدد وفق قدرة الدول المتشاطئة على تحقيق توازن دقيق بين المصالح الوطنية ومتطلبات الأمن الجماعي. فسيناريو التكامل والتنسيق المؤسسي يظل الأكثر واقعية، إذ يمكن أن يقود إلى إنشاء آلية إقليمية مشتركة تُعنى بالتنمية المستدامة وتأمين الممرات البحرية ومواجهة التهديدات البيئية والأمنية، خاصة مع تصاعد الدور السعودي والمصري في إدارة الملفات البحرية. أما سيناريو التنافس والانقسام، فيتوقع بروز تحالفات متباينة بين بعض الدول الساحلية، ومحاولات من الدول الحبيسة وعلى رأسها إثيوبيا للبحث عن منفذ بحري بأي وسيلة ممكنة، ما قد يعيد رسم خريطة النفوذ في الإقليم.

ساجدة السيد

ساجدة السيد- باحث أول بالمركز ، ورئيسة برنامج دراسات البحر الأحمر وإفريقيا فيه. الباحثة خبيرة في وحدة الدراسات الاستراتيجية بقطاع القنوات الإخبارية بالشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، وهي حاصلة على بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، وهي متخصصة في الشأن الأفريقي ودراسات الأمن القومي، وقد شاركت في العديد من مراكز الفكر والدراسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى