في أزمة “النهضة”.. كيف يتحرك المجتمع المدني مع الحكومة في دعم موقف الدولة؟
بداية وقبل الدخول في صُلب الموضوع، أود التأكيد على حقيقة وضحت للجميع من تصريحات السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال الفترة الماضية ألا وهي: أنه لا صوت يعلو الآن وخلال الفترة القادمة على صوت معركة سد النهضة، تلك المعركة التي تخوضها الدولة المصرية دفاعاً عن حقها المشروع في الحياة والتنمية ودفاعاً عن الأجيال القادمة، ولا نقصد بكلمة المعركة بالضروة هنا أي مدلول عسكري، بل هي معركة شعب ، معركة مصير ، معركة دولة مُتمرسة واعية لكافة خطواتها، فهي معركة سياسية إلى أبعد الحدود، سوف تُطرق فيها وخلالها كافة الأبواب الموصدة والمُشرعة ، بحثاً عن تسوية سلمية لهذا الملف المعقد، وتفادياً للدخول في مسارات أخرى ، لن ينجو من أضرارها أحد، ولن يسلم منها قريب أو بعيد. وهذا ما أكد عليه الرئيس السيسي أيضاً أكثر من مرة وأخرها خلال لقاءه مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في زيارته الأخيرة للقاهرة ( 12 ابريل الجاري) عندما وضع السيد الرئيس استقرار المنطقة في كفة ، وضرورة التوصل لحل لأزمة السد في كفة أخرى. وعلينا أن نتذكر أن الحروب ليست غاية في حد ذاتها ، لكنها أيضا وسيلة للوصول للهدف السياسي، فالسياسة أولاً وأخيراً.
إذن ومرة أخرى نحن نتحدث عن معركة شاملة، لا يجب بأي حال من الأحوال أن تخوضها الحكومة وحدها، بل يجب أن يتحمل فيها المسئولية كل فرد وكل مؤسسة وكل منظمة أهلية، كلاً حسب قدراته، ووفقطبيعة عمله، وحدود اتصاله بالعالم الخارجي، فكما شاهدنا من التحركات الإثيوبية على مستوى القارة الأفريقية وداخل بعض العواصم الدولية المهمة كواشنطن ولندن وغيرها، فإن إثيوبيا تقوم بحملة كبيرة للعلاقات العامة، تحاول من خلال حشد الدعم لموقفها من خلال الوصول لبعض المنظمات الأهلية المؤثرة ، وبعض مراكز الدراسات المهمة، وبعض وسائل الإعلام، وتروج من خلالها لموقفها ومقولاتها بخصوص السد، وهي بذلك تمرر رسائل ضغط مباشرة وغير مباشرة على حكومات هذه الدول، حتى تخفف الضغط الدولي عليها، بما يسمح لها بإتمام مخططها الرامي للإنتهاء من السد وتشغيله ، دون ان تُلزم نفسها بأي مسئوليات تجاه دولتي المصب ( مصر والسودان) ونحن نعلم جميعاً أن سد النهضة ليس هو أخر السدود التي يمكن أن تُبنى على النيل الأزرق أو اي من فروع نهر النيل الأخرى، فتمرير سد النهضة سيشكل سابقة قانونية وسياسية في مسألة بناء السدود على الأنهار المشتركة ، وهي سابقة إن مرت، ستضع قيود كثيرة على قدرات الدولة المصرية زعلى حدود حركتها ليس فقط في ملف المياة، بل على مستوى القارة الأفريقية ككل، وهذه رؤية مستقبلية بعيدة المدى، قد تتجاوز حدود القرن الحالي، واضعين في الاعتبار أن التخطيط الاستراتيجي للدول يضع في اعتباره مصالح الأجيال القادمة وليس فقط المصالح الآنية أو الرؤية على المدى المتوسط.
في هذا الإطار، نقول أن المجتمع المدني المصري مطالب بالمساهمة بدور من أجل تقوية الموقف السياسي للدولة المصرية في ملف سد النهضة، فما هي الحدود وما هي الآليات؟.
دور المجتمع المدني في تقوية الموقف السياسي للدولة في الأزمات:
يعتبر المجتمع المدني جزء ومكون أصيل من مكونات أي نظام سياسي، حسب ما هو معروف في أدبيات النظم السياسية المعاصرة، وله بالقطع أدوار أساسية ليس فقط على مستوى تقديم بعض الخدمات التعليمية والثقافية والصحية … وغيرها ، بل له أدوار – يتوقع أن يقوم بها – على مستوى السياسة العامة للدولة، بالداخل والخارج، وتزداد الحاجة لمثل هذا الأدوار خاصة في أوقات الأزمات، التي تحتاج لتضافر كل الجهود الحكومية والأهلية وحتى الفردية، فكما شاهدنا خلال أزمة جائحة كورونا، فقد قدمت كثير من منظمات المجتمع المدني المصرية أدواراً مشهودة في مساندة جهود الدولة في إحتواء تداعيات هذه الأزمة، خاصة على القطاعات المتضررة من بعض الإجراءات التي اتخذتها الدولة لمنع تفشي الوباء، ضمن هذا النظام المجتمع المدني مكون رئيسي عندما تحتاج المجتمات الى التعاضد للتعامل مع الأزمة، كأزمة وباء كورونا.
وفق هذا السياق، واتصالاً بملف سد النهضة، تستطيع منظمات المجتمع المدني المصرية القيام بعدة مهام نجملها فيما يلي:
(*) القيام بدور توعوي على مستوى الداخل، بالإتصال المباشر مع المواطنين، من أجل شرح وتبسيط موقف الدولة من الأزمة، وإرشاد المواطنين بخصوص كيفية الاستجابة لقرارات السياسات العامة فيما يخص مسائل مثل الترشيد والحفاظ على المياة، والاعتماد على الطرق البديلة، والمساهمة في دعم الجهود الخاصة ببعض المشروعات الصغيرة، ذات الصلة .
(*) المساهمة في بناء المزيد من الترابط المجتمعي وتعزيز السياسات العامة، وتوحيد الجهود الشعبية خلف الحكومة، دعماً لكافة القرارات التي يمكن اتخاذها بشان التعامل مع الأزمة، بما يسهم في جهود التعبئة العامة حول الاحتياجات الملحة.
(*) المساهمة في ملء الفضاء الافتراضي، على مواقع التواصل الاجتماعي، برسائل واضحة ومفهومة وبسيطة، تُمكن من مجابهة كافة المحاولات التي تقوم بها بعض الجهات الخارجية المعادية للدولة، والتي تنتهج نهج التشكيك المستمر في الدولة وقيادتها وحسن إداراتها للأزمة.
(*) الاتصال مع منظمات المجتمع المدني بالخارج، خاصة على مستوى القارة الأفريقية ، وفي الدول المؤثرة في صناعة القرار الدولي، خاصة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، لتوصيل رسالة مصر بخصوص سد النهضة، تدعيماً للموقف الرسمي للدولة.
المجتمع المدني الأفريقي يتحرك:
كان لافتاً خلال الأيام الماضية بروز دور لبعض منظمات المجتمع المدني الأفريقية في أزمة سد النهضة، وقد حظي هذا الدور باهتمام ملحوظ من وسائل الإعلام الدولية، باعتبار أن منظمات المجتمع المدني الأفريقية تعكس صوت الناس في الشارع الأفريقي، وهو صوت لم يكن مسموعاً من قبل، فالأزمة بقيت في إطار التعامل الحكومي بين دول الأزمة، وبين الدول المهتمة بها سواء على مستوى الاتحاد الأفريقي، أو على المستوى الدولي. جاء الصوت هذه المرة من إحدى دول حوض النيل وهي أوغندا، وهي من أقرب دول حوض النيل للموقف المصري، حيث وقعت منظمات مدنية من تسع دول إفريقية هي إثيوبيا والسودان وأوغندا وكينيا وتنزانيا والكونغو الديمقراطية وبوروندي والمغرب، وبقمشاركة مؤسسة “ماعت” للسلام والتنمية وحقوق الإنسان من مصر.، وقعت هذه المنظمات وثيقة تطالب فيها بتأجيل الملء الثاني للسد، وقدمت المنظمات المدنية مجموعة من التوصيات الموجهة للدول الثلاث أطراف الأزمة مصر والسودان وإثيوبيا، ودول حوض النيل، والمجتمع الدولي. وأوصت بتأجيل الملء الثاني لسد النهضة، ومن التوصيات التي تضمنتها “وثيقة المبادئ التوجيهية”، مطالبة الدول الثلاث بوضع اتفاقية قانونية تضمن عدم الإضرار بأي من شعوبها، واتفق الموقعون على الوثيقة على عقد ندوات محلية في دولهم لحشد المنظمات للتوقيع على الوثيقة من مختلف الدول الإفريقية، والسعي لتكوين رأي عام إفريقي داعم لمبادئ الوثيقة، واقترح المشاركون أن يتم وضع خطة استراتيجية طويلة الأجل للعمل على منع أي نزاع محتمل في قارة إفريقيا حول الأنهار.
رؤية مقترحة للتحرك:
في ضوء هذه التحركات من منظمات مدنية أفريقية، فإن الوقت قد حان لقيام منظمات المجتمع المدني في مصر – والتي تشمل أطياف متنوعة من المنظمات الحقوقية والخدمية والتثقيفية، بالإضافة لمراكز الدراسات المنتشرة في أنحار القُطر المصري( حكومية/ شبه حكومية/ خاصة) – بدورها في هذا الإطار، ويجب أن ننوه أن الحديث ليس متجهاً لمسألة الدبلوماسية الشعبية، التي سبق تجربتها في ملف سد النهضة في مرحلة ما قبل 2014، ولم تكن على المستوى المطلوب ولم تحقق نتائج حقيقية وملموسة، بسبب أنها ظلت جهود فردية ومبادرات شخصية سواء من أحزاب سياسية أو منظمات أو رجال أعمال، بل نتحدث بكل وضوح عن حملة علاقات عامة مصرية، تحت إشراف الدولة، ووفق توجهاتها، بما يضمن تجميع الجهود في خط سياسي وإعلامي واحد، يخدم الغايات الكبرى للدولة، وفي هذا الخصوص نقترح ما يلي:
(&) تشكيل فريق أزمة على المستوى الوطني للتعامل مع هذا الجانب، تحت إشراف الجهات والأجهزة المنخرطة فعلياً في هذا الملف، والمُدركة لكافة أبعاده، باعتبار أن ملف سد النهضة خلال الفترة القادمة ينبغي التعامل معه بمفهوم وآليات إدارة الأزمات.
(&) دعوة ممثلين عن منظمات المجتمع المدني ومراكز الدراسات للمشاركة في جلسات عصف ذهني، لوضع خطة تحرك للتعامل مع أزمة سد النهضة خلال الفترة القادمة ( خطة علاقات عامة)، من الجانب الخاص بكيفية دعم الموقف السياسي للدولة على المستوى الداخلي والخارجي.
(&) دعوة رجال الأعمال للمساهمة في الدعم المالي لهذه الحملة، التي تتطلب إقامة فاعليات كثيرة مثل الندوات وورش العمل داخل مصر وخارجها، بالإضافة للتواصل مع المجلات والصحف الدولية المعروفة، بما يساعد الباحثين المتخصصين في تقديم رؤى تحليلية للأزمة، وفق توجهات الدولة المصرية، بما يساعد على تقديم صورة أخرى بخلاف ما يتم الترويج له من اللوبيات التابعة لإثيوبيا وبعض الدول التي تتخذ موقفاً مضاداً لمصر في هذه الأزمة ( نشر دراسات عن الآثار السلبية المترتبة على إنشاء السد على البيئة المائية لنهر النيل والأوضاع البيئة على منطقة حوض النيل في مصر والسودان/ دراسات حول كيفية تأثر منظومة الزراعة في مصر بالسد/ تأثر السدود الإثيوبية ).
نخلص مما سبق، أن ملف سد النهضة في طريقه للدخول في مرحلة تصعيد، بمختلف مستوياته، وهو الأمر الذي يتطلب تضافر الجهود الحكومية والمدنية، فكما قلت المعركة ليست معركة الحكومة وحدها، بل هي معركة الجميع، فليقوم كلاً منا بدوره، لكن بشكل منظم وتحت رعاية الدولة، ولنا في تجربة وزارة الهجرة نموذجاً جيداً حيث وفرت الوزارة للمواطنيين المصريين المقيمن بالخارج فيديوهات ترويجية عن ملف نهر النيل وسد النهضة وتأثيره على مصر، وحققت هذه التجربة أثراً إيجابياً على مستوى البلدان التي تتواجد بها الجاليات المصرية بكثافة، لكن نعتقد أن حملة علاقات عامة جيدة ومؤثرة تحتاج بالفعل لما هو أكثر من ذلك، تحتاج لتخطيط مسبق، ووضع خطة أهداف، واستراتيجية حركة، ونقاط وصول، ومراقبة فعالة في نفس الوقت، لتصحيح المسار في الوقت المناسب، بما يتلائم مع سياسة الدولة وخياراتها الاستراتيجية، التي نثق تمام الثقة في حكمتها ورشادتها.