لواء أحمد زغلول يكتب: محطات في حياتي.. المحطة الخامسة عشرة

الوعي في التربية •• يصنع التفاصيل الصغيرة في الإنسان

الوعي لا يُلقَّن بل يُزرع:

عندما نراجع مسارات حياتنا، لا نجد أن أكثر ما أثّر في تشكيل وعينا جاء من الخطب الرنانة أو التوجيهات المباشرة، بل من تلك التفاصيل الهادئة التي عشناها دون أن ندرك معناها آنذاك. فالتربية الحقيقية لا تُمارَس بالصوت المرتفع، بل بالحكمة الصامتة، ولا تُقاس بكثرة الأوامر، بل بعمق الأثر. وفي هذه المحطة من محطات حياتي •• المحطة الخامسة عشرة، أتوقف أمام تجربة إنسانية وتربوية شديدة البساطة في ظاهرها، عميقة الأثر في جوهرها، شكّلت وعياً اجتماعياً متكاملاً، وأسهمت في بناء صورة متوازنة للإنسان داخل محيطه الأسري والمجتمعي. إنها تجربة أم، وتجربة بيت، وتجربة تربية واعية سبقت زمانها.

الأسرة كنواة أولى للوعي المجتمعي:

نشأت في أسرة مصرية بسيطة في تكوينها، عظيمة في رسالتها؛ أسرة مكوّنة من أبٍ وأمٍ وطفلين: أحمد وأمجد. كان أبي وأمي يدركان بالفطرة والحكمة أن الإنسان لا يُبنى في المدرسة والجامعة فقط، بل يُبنى قبل ذلك بكثير داخل البيت، وعلى مائدة الطعام، وفي طريقة الحديث، وفي احترام الآخرين، وفي ضبط السلوك. كان الخوف علينا خوفاً واعياً لا قلقاً مرضياً، وكان الحرص علينا حرصاً يصنع الإنسان لا يكبّله. لذلك لم يكن التعليم عندهما مجرد تحصيل دراسي، بل مشروع وعي متكامل. فحرصا على إلحاقنا بإحدى المدارس الكاثوليكية في ستينيات القرن الماضي، والتي كانت تُصنّف آنذاك ضمن المدارس الخاصة مرتفعة التكاليف. لم يكن القرار استعراضاً اجتماعياً، بل اختياراً استراتيجياً؛ لأن تلك المدارس كانت تُولي اهتماماً بالغاً بالتربية والانضباط واحترام الإنسان والوعي الثقافي، وهي قيم رآها والداي أساساً لبناء شخصية متوازنة قادرة على العطاء المجتمعي.

الأم المعلم الأول وصانعة الصورة:

تعلمنا من والدتنا، قبل أي شيء، معنى الإنسانية: احترام الكبير قبل الصغير، التواضع دون انكسار، حب الناس دون تصنّع، والالتزام الأخلاقي دون ادّعاء. كانت بارةً بأسرتها، حريصة على صلة الرحم، كما كان والدي، فكنا نعيش في بيت يعرف معنى الزيارات العائلية والعزومات والتواصل الاجتماعي الحقيقي، لا المجاملات الفارغة. لكن وسط هذا النسيج الاجتماعي برز تصرف واحد ظل عالقاً في ذاكرتي؛ لم أفهمه في طفولتي، ولم أدرك حكمته إلا بعد سنوات من النضج والتجربة.

تفصيلة صغيرة بحكمة كبيرة:

قبل أي عزومة عائلية كانت والدتي تقوم بإطعامنا في المنزل، ليس إطعاماً عابراً، بل إشباعاً حقيقياً، وغالباً مما نحب. كنا نذهب إلى بيوت الأقارب وقد شبعنا، فنأكل القليل فقط، فيثير ذلك استغراب من حولنا، بل أحياناً تعليقات مباشرة عن ضعف شهيتنا. بالنسبة لي كطفل كان الأمر غريباً، ولم أفهم مغزاه: لماذا نأكل قبل أن نذهب إلى عزومة أُعِدّ فيها الطعام خصيصاً لنا؟ •• لكن تلك التفاصيل التي قد يراها البعض سلوكاً بسيطاً، أو حتى غير ضروري، كانت في حقيقتها منهجاً تربوياً متكاملاً.

حين يتقدّم العمر يتكشف المعنى:

مع مرور السنوات، ومع الاحتكاك بالمجتمع والعمل العام والدراسة والمناصب، أدركت أن ما فعلته أمي لم يكن تصرفاً عاطفياً، بل رؤية واعية. لقد أرادت أن تعلّمنا دون أن تتكلم: • أن نذهب إلى الناس مكتفين لا متطلعين.

• أن تكون أعيننا مليئة فلا تمتد إلى ما ليس لنا.

• أن يظهر سلوكنا متزناً بعيداً عن الجشع أو اللهفة.

• أن تُبنى صورتنا الذهنية كأبناء مهذبين، واثقين، محترمين.

لقد كانت تُدرك أن الصورة الاجتماعية للإنسان تُبنى في لحظات عابرة، لكنها تترسخ طويلاً.

الوعي الاجتماعي وصناعة الانطباع:

ما قامت به والدتي هو نموذج عملي لما يمكن تسميته اليوم بالوعي الاجتماعي المبكر؛ فالطفل لا يدرك آنذاك أنه يتعلم إدارة صورته أمام الآخرين، لكنه في الواقع يتشرّب قواعد السلوك الاجتماعي الراقي: • كيف يدخل مجلساً دون مبالغة.

• كيف يأخذ دون نهم أو تكلّف.

• كيف يحترم المضيف دون إحراج.

• كيف يكون حضوره مريحاً للآخرين.

وهنا يتجلى الفرق بين التربية التلقينية والتربية السلوكية العملية؛ فالأولى تُنسى، أما الثانية فتبقى.

هذه التجربة لا تخص أسرة بعينها، بل تحمل دلالات أوسع للمجتمع: • المجتمعات التي تُربّي أبناءها على الاكتفاء تنتج أفراداً أكثر استقراراً.

• الأفراد الذين ينشأون على وعي التجربة يصبحون أكثر احتراماً للمجال العام.

• السلوك المهذب ليس تصنّعاً، بل انعكاس تربية واعية.

إن كثيراً من أزماتنا الاجتماعية اليوم تعود إلى غياب هذا النوع من الوعي الخفي في التربية.

توصيات تربوية قابلة للتنفيذ:

انطلاقاً من هذه المحطة يمكن تقديم مجموعة من التوصيات العملية للأسر والمؤسسات التربوية: ١- غرس الاكتفاء النفسي قبل المادي لدى الأبناء.

٢- تعليم السلوك بالممارسة لا بالمحاضرات.

٣- الاهتمام بالصورة الذهنية للأبناء في التجمعات الاجتماعية.

٤- تدريب الأطفال على احترام الآخرين دون خوف أو تصنّع.

٥- تعزيز مفهوم الكرامة الشخصية منذ الصغر.

٦- دمج الوعي الاجتماعي ضمن التربية اليومية داخل المنزل.

٧- إدراك أن التفاصيل الصغيرة تصنع الشخصية.

في نهاية محطتي.. كلمة وفاء:

في هذه المحطة لا أكتب فقط عن تجربة، بل أقدّم شهادة وفاء لأبٍ وأمٍ أدركا بحكمتهما أن التربية ليست مرحلة عابرة، بل مسؤولية تاريخية.

الشكر والتقدير لكل أبٍ وأمٍ آمنوا بأن التعليم بلا قيم ناقص، وأن الوعي الحقيقي يبدأ من البيت.

رحم الله من رحل، وبارك فيمن بقى؛ فما نحمله اليوم من وعي، وما نؤديه من دور مجتمعي، هو امتداد طبيعي لتربية صادقة، وأمٍ جميلة في حكمتها، وأبٍ عظيم في رؤيته.

لواء أحمد زغلول

اللواء دكتور أحمد زغلول مهران: المشرف العام على مركز رع للدراسات الاستراتيجية، سيادته كان مساعدًا لمدير المخابرات الحربية، حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم الإدارية، كما أنه خبير متخصص في الشؤون العسكرية والأمنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى