طمأنة منقوصة: هل تصبح “السويداء” مركز الثقل في صراع المرجعيات بسوريا؟

شهدت محافظة السويداء تصعيدًا أمنيًا عنيفًا مع تصاعد موجات العنف الطائفي بين الدروز والبدو، ما نتج عنه سقوط مئات القتلى والجرحى وانتهاكات عديدة لحقوق الأقليات. وقد أعاد ذلك إلى الواجهة هشاشة علاقة الدولة المركزية بالأقليات الدينية والقومية، وخاصًة مع تزامن الأحداث مع غياب القيادة العسكرية المركزية القوية للبلاد، والتوغل الإسرائيلي بالأراضي السورية تحت ذريعة احتواء التصعيد.
تعد السويداء محافظة ذات أغلبية درزية، لم تكن يومًا في وسط المواجهات المسلحة التي مرت بها سوريا، إلا أنها حملت بصورة مستمرة بصمتها السياسية الخاصة خاصًة منذ اندلاع الثورة في 2011، عبر مواقفها المتزنة بين رفض النظام ورفض الانخراط في الثورة المسلحة. لكن، ومع تراكم الضغوط والإحباطات السياسية والثقافية والدينية، بعدما فشلت الحكومة السورية في تقديم ضمانات حقيقية لحماية الطوائف الأقل عددًا، تصاعدت الاحتجاجات، ومع اتساع الفوضى يتضع جليًا أن السويداء لم تعد هامشًا صامتًا، بل أنها بعدما كانت تمثل صوتًا احتجاجيًا عقلانيًا باتت تزداد حزمًا وتمر بصراعات مسلحة، خاصًة بعد أن كشف موقف الحكومة الانتقالية بالانسحاب من السويداء وسط ذلك التدهور، عن أنه لا حماية لهم دون إعادة إنتاج السلطة على أسس جديدة.
تأسيسًا على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى تقديم قراءة متعددة الأبعاد للأحداث المتصاعدة في السويداء، من خلال دراسة سياق وتطورات الأزمة، والتدخلات العسكرية الإسرائيلية. مع محاولة فهم مآلات الصراع في ضوء ديناميات وطبيعة التطورات ودلالاتها السياسية.
السياق والتحولات:
بدأت الأزمة بسلسلة من الانتهاكات مثل اعتداء مجموعة من البدو على تاجر درزي واختطافات متبادلة، لتتحول خلال يومين فقط إلى مواجهة دامية شاملة، خلال المواجهات بين فصائل درزية وعشائر سنية. وقد نتج عن ذلك تصعيد مستمر، مع اتهامات مباشرة لقوات الأمن التابعة للحكومة السورية بالتحيز لطرف عشائر البدو وارتكاب الانتهاكات والخروقات بحق المدنيين الدروز.
وقد بادرت إسرائيل بشن ضربات جوية على دمشق مستهدفة مواقع إستراتيجية على رأسها محيط القصر الرئاسي، بذريعة حماية الدروز، ما يهدد باستهداف أي قوة تنتشر في جنوب سوريا. لذلك، أعلن الرئيس السوري “أحمد الشرع” في السابع عشر من يوليو الجاري انسحاب القوات الحكومية من السويداء، وتسليم المهمة الأمنية لمشايخ العقل والفصائل الدرزية المحلية، في محاولة لتهدئة المشهد ومنع حرب طائفية أوسع.
إلا أن هذا القرار، ورغم ادعاء الحكومة السورية أنه إجراء سياسي لتفادي حرب طائفية، يدور في فلك غياب الثقة بين الدولة والمكون الدرزي، فهو يشي بفشل فعلي في القدرة على فرض الأمن، ويحول السويداء عمليًا إلى منطقة خارج سيطرة الدولة، ما يمثل اعترافًا بهشاشة النظام الانتقالي في إدارة ملف الأقليات بأقل قدر من التهديد.
بالتالي، فقد يمنح هذا الانسحاب لـ “مجلس السويداء العسكري” – الفصيل الدرزي المحلي – السلطة المطلقة في السيطرة أمنيًا، فهو الآن يمثل الجهة المسؤولة عن الهوية الأمنية في المحافظة، ضمن ترتيب ضمني بينه وبين مشايخ العقل. بما يمكن أن يخلق الفرصة لإنشاء نموذج عملي لحماية ذاتية للطائفة، دون ضمانات من الدولة، ويضع فرصة للتحول إلى سلطة موازنة مستمرة. ومن جهة أخرى، فإن إسرائيل تتصرف بصفتها راعيًا للدرزيين، ولن تكون هذه الحماية مجانية، فإن تل أبيب تدير وضعًا موسعًا بهدف إضعاف الدولة السورية ومنع تطور محاور جنوبية لبناء موطئ قدم سوري ثابت بالقرب من الحدود معها.
دلالات الصراع:
ما يحدث بالسويداء اليوم يتجاوز الاعتداء المحلي أو كونه أزمة أمنية، حيث بات يشكل اختبارًا حقيقيًا لمؤسسات الدولة الانتقالية الجديدة، حول مدى القدرة على حماية الأقليات وتجنب الخلافات الوطنية، وتقبل المجتمع الدرزي لتحقيق سيادة مشتركة، ومن جهة أخرى اختبار مدى القدرة على فرض الأمن والسيادة على الأراضي السورية. وبالرغم من مدى جدية الاختبار، تواجه الحكومة الانتقالية انتقادات موسعة لعدم تحمل مسؤولية عمليات العنف والانتهاكات بحق المدنيين، وخاصًة بعد قرار سحب القوات الحكومية، الذي يضعف سلطة الدولة، ويجعل قيادات دينية محلية هي النقطة الوحيدة التي قد تحمل مسؤولية إعادة بناء الثقة مستقبلًا. ويمكن توضيح أهم دلالات التطورات الجارية بالسويداء، على النحو التالي:
(1) توسع الهجمات على الدروز وتسييل حدود الصراع: يبرز استمرار أعمال العنف بحق دروز السويداء نمطًا من تسييل النزاع الذي لا يتطلب جيوشًا، بل يعتمد أكثر على المجموعات المحلية لتأديب الخصوم وفرض معادلات أمر واقع، كما أن الانسحاب المعلن قد يكون شكليًا ضمن استراتيجية أوسع لتجنب الانفجار الشعبي والدولي في آن واحد، مع بقاء أدوات الحكومة في المشهد عبر شبكات أمنية غير معلنة أو وسطاء محليين.
(2) بروز نموذج للتمرد المحلي غير المؤدلج: جاءت هذه الأزمة وتطوراتها التي سمحت تسمح للدروز بفرصة اللامركزية، دون راية طائفية أو حزبية واضحة، ما يعكس أحد أشكال التمرد المجتمعي النابع من فشل الدولة المركزية في تحقيق الحد الأدنى من التمثيل والخدمات أو على الأقل الأمن، لا من مشروع أيديولوجي بديل. ما يهدد مستقبلًا بفرض معادلة جديدة، حال مطالبة مناطق هامشية أخرى مثل درعا أو ريف دير الزور بهوامش تمثيل أو استقلالية مشابهة، ما يعيد تشكيل خارطة النفوذ على أسس اجتماعية لا عسكرية.
(3) ) تحول السويداء إلى مرآة للمأزق السوري الأكبر: تحمل الأزمة في السويداء دلالة خاصة على المأزق الكلي لسوريا، في ظل غياب التوافق الوطني، تعدد الولاءات، وتراجع مفهوم الدولة الجامعة، مع بروز مشاريع تقسيمية تدار عبر أطراف محلية وخارجية، وسط شلل عربي ودولي في محاولة فرض الحلول الجذرية للأزمة.
(4) تآكل الردع الداخلي لدى السلطة الانتقالية: يعكس قرار انسحاب القوات الحكومية بوجه خاص دون تحقيق استقرار أو تفاهم سياسي، مدى ضعف قدرة الحكومة الانتقالية على السيطرة على الجنوب، ما يضع الفرصة أمام كيانات محلية أو تدخلات خارجية لملء الفراغ الأمني والسياسي، خاصًة وسط مؤشرات على رغبة تل أبيب في تحييد السويداء.
(5) تزايد استقلالية الفاعل المحلي واحتمال نشوء جبهة معكوسة بدعم إسرائيلي: عززت أزمة السويداء من نفوذ الزعامات الدينية والاجتماعية الدرزية كبديل عن السلطة المركزية، ما يشير إلى سيناريوهات إعادة تشكيل مراكز القرار داخل المحافظة بشكل ذاتي وغير تابع للحكومة الانتقالية. ومن جهة أخرى، فتحت مجال للتدخل الإسرائيلي الأوسع والممزوج بالذرائع المرتبطة بدعم مجموعات محلية. وتزداد حساسية ذلك بارتباطه بدخول مقاتلين دروز يحملون الجنسية الإسرائيلية عبر الحدود للقتال إلى جانب أبناء طائفتهم في معارك السويداء، ما يضفي بعدًا إقليميًا بالغ التعقيد.
(6) الجنوب كساحة تجريب لنموضج سياسي في ما بعد “الأسد” : تقدم السويداء اليوم ما يبدو أنه مختبر سياسي لفكرة الحكم الذاتي في مرحلة ما بعد “الأسد”. فبعد انسحاب قوات الحكومة الانتقالية، ومع انعدام السيطرة العسكرية، قد تتشكل هياكل حكم محلي مدنية وأمنية ناعمة، وهو ما قد تراقبه الفواعل الدولية مثل روسيا والولايات المتحدة كنموذج بديل يمكن تعميمه لاحقًا في محافظات أخرى. وبالتالي، لا يمكن النظر للتطورات كأزمة فقط، بل باعتبارها فرصة لبناء تصور جديد للجنوب، وربما لبنية سوريا القادمة اللامركزية، وخاصًة في ظل ترنح الدولة المركزية وضعف مؤسساتها.
اضطراب الهامش:
تبرز التطورات الأخيرة في السويداء أن الجنوب السوري لم يعد مجرد ساحة ثانوية في معادلة الصراع، بل أنه أصبح يشكل مؤشرًا خاصًا وبالغ الدلالة على مآلات الدولة السورية في الفترة الانتقالية. كما تسلط هذه الأحداث الضوء على أزمة العمق الإستراتيجي لدمشق، التي لم تعد تمتلك القدرة على ضبط هوامشها الطائفية والمناطقية. ويحمل الصراع الحالي سمات معقدة من التمرد المحلي والصراع المسلح مع مجموعات ذات امتدادات عشائرية، فالدروز اليوم وضعوا في معادلة إجبارية تجعلهم أمام خيارين بارزين، إما أن يدفنوا داخل جغرافيا الفوضى، أو أن يعيدوا رسم دورهم في ظل ترتيبات انتقالية لم تتحمل مسؤولية توفير الأمن لهم.
ويحمل هذا التحول ملامح إعادة بناء هوية سياسية جديدة، كما يربك الفواعل المحليين والدوليين على حد السواء، في كونه يدفع باتجاه تساؤلات محورية حادة حول قدرة المكونات السورية المختلفة على إعادة إنتاج تمثيلها الذاتي في ظل غياب الدولة المركزية القوية. ما يوحي ليس فقط بتآكل السلطة في سوريا، بل أيضًا بانفجار الهوامش من جهة أخرى وصعودها كلاعب أساسي في معادلة ما بعد الدولة، سواء بحكم الضرورة أو بفعل الدعم الخارجي الخفي.
بصيغة أخرى، لا يمكن عزل ما يجري في السويداء عن سياق إقليمي تتصاعد فيه محاولات ترسيم مناطق النفوذ الطائفية والعرقية في سوريا. ومن هنا يمكن فهم انسحاب القوات الحكومية السورية من السويداء في سياقه السياسي والأمني، باعتباره خطوة لإعادة رسم الهامش الجغرافي السوري بصورة ترضي قوى إقليمية مثل إسرائيل والأردن وحتى الولايات المتحدة. وفي حال استقرار ذلك النمط، ستتحول السويداء إلى نقطة بداية التفكك المحسوب والمدروس الذي تُعاد من خلاله هندسة الخارطة الداخلية السورية بناءً على أسس مختلفة طائفية وإثنية ظاهريًا، عسكرية وموالية لمصالح أطراف إقليمية ودولية ضمنيًا.
وختاما، يمكن القول إن السويداء تتحول وفق التطورات الأخيرة من نقطة جغرافية مهمشة إلى مركز ثفل رمزي لصراع المرجعيات في سوريا الجديدة، ورغم الحراك الحالي لم يتبلور حتى اللحظة مشروعًا سياسيًا جامعًا. بالتالي، فإن الدلالة الأكثر عمقًا تكمن في لتحول البطئ ولكن المتصاعد نحو اللامركزية، والتي لا تأتي ضمن مشروع وطني شامل، بل كرد فعل على غياب المشروع نفسه، ما يشير إلى تحول الجغرافيا السياسية من تحت الدولة، حجرًا حجرًا.
فالمدينة التي عاشت على الهامش لسنوات، تفرض اليوم أثرها على المستقبل السوري، لا بوصفها درزية أو جنوبية، بل كنموذج لمجتمع يتقاطع فيه التاريخ والوعي، فيخرج من عباءة الطاعة نحو أفق العمل الاضطراري وضمان الاستقرار ذاتيًا. وبالتالي، تفقد الحكومة الانتقالية بسوريا فرصة هامة وفارقة لاستعادة الهامش، لا كمجرد مساحة جغرافية، بل كشرط رئيسي تاريخيًا لإعادة بناء سوريا.