كيف تغير “شبكة العنكبوت” و”الأسد الصاعد” من مفهوم الحرب الحديثة؟

منة الحفني-باحث مشارك

برزت الهجمات غير التقليدية التي نفذتها كل من إسرائيل وأوكرانيا داخل العمق الإيراني والروسي، لتعيد رسم معالم الصراع الحديث ، تتشابه الدولتان في   الطريقة التي قررت  تنفيذ الهجوم بها: عمليات استخباراتية دقيقة، اختراقات أمنية متقدمة، واستخدام مسيّرات في مسرح عمليات ممتد وخطير. تستعرض هذه الورقة التحليلية أبرز أوجه التشابه بين العمليتين، وتسلّط الضوء على ما تحمله من دلالات استراتيجية، خاصة في ظل تزايد أهمية الحرب السيبرانية والاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي في ميادين الحرب الحديثة

قدرات استخباراتية

في سياق تقليص الخسائر والحد من القدرات الهجومية للخصم، ساهم الدمج بين العمل الاستخباراتي والعمليات الخاصة في تحقيق المفاجأة الاستراتيجية للخصمين الروسي والإيراني، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي

(*) قواعد المسيرات: تلعب الطائرات المسيّرة دورًا متزايد الأهمية في تغيير استراتيجيات الحروب الحديثة، لما تتمتع به من مزايا تكتيكية وتكنولوجية تجعلها أداة مثالية لتنفيذ عمليات دقيقة وفعالة. فهي قادرة على توجيه ضربات محددة بدقة عالية، وإيصال حمولات إلى أهداف بعينها، مع ميزة التشغيل عن بُعد التي تقلل من المخاطر على حياة الجنود. إضافة إلى ذلك، توفر المسيّرات قدرة متقدمة على الاستطلاع والمراقبة، ما يساعد في تسريع عملية اتخاذ القرار بناءً على بيانات آنية وموثوقة. كما أن كلفتها المنخفضة تُعد من أبرز مزاياها، إذ لا تتجاوز تكلفة الواحدة منها 10 آلاف دولار، بينما قد تُحدث أضرارًا تقدر بالمليارات.

وقد شكّلت هذه الخصائص أساسًا لاعتماد أوكرانيا المكثف عليها، حيث استخدمت نحو 117 طائرة مسيّرة في هجمات تسببت بخسائر تقدر بـ7 مليارات دولار للجانب الروسي. كذلك، لجأ الجيش الإسرائيلي إلى استخدامها في تنفيذ ضربات دقيقة استهدفت قاعدة صواريخ قرب طهران، مما يؤكد تصاعد دور المسيّرات في الحروب غير التقليدية والعمليات الاستباقية.

(*) الدور الاستخباراتي: لعب العمل الاستخباراتي دورًا محوريًا في تمكين كل من إسرائيل وأوكرانيا من تنفيذ عمليات نوعية في عمق الأراضي الإيرانية والروسية على التوالي. فقد اعتمدت تلك العمليات على جمع معلومات دقيقة، واختراق أنظمة الخصم الأمنية، وتوظيف قدرات متقدمة بشكل سري، وهو ما تطلب شهورًا طويلة من الإعداد والتخطيط المحكم.

تركزت العملية الإسرائيلية على استهداف شخصيات رئيسية في البرنامج النووي الإيراني، إلى جانب ضرب ترسانة الصواريخ الاستراتيجية ومنظومات الدفاع الجوي. وقد نُفذت العملية عبر ثلاث مراحل: الأولى، قامت وحدات الكوماندوز التابعة للموساد بزرع أسلحة دقيقة بالقرب من صواريخ الدفاع الجوي الإيرانية، تم تفعيلها مع بدء الهجوم الجوي، وأصابت أهدافها بدقة كبيرة. في المرحلة الثانية، تم إطلاق أنظمة هجومية كانت قد هُرّبت مسبقًا إلى داخل إيران باستخدام مركبات مدنية مخفية، بهدف تعطيل الدفاعات الجوية وفتح المجال أمام الطائرات الإسرائيلية لتنفيذ هجماتها بحرية. أما المرحلة الثالثة، فشهدت إنشاء قاعدة للطائرات المسيّرة المحملة بمتفجرات، جرى زرعها قرب منصات إطلاق صواريخ أرض-أرض .

وفي سياق مشابه، نفذت القوات الأوكرانية عملية معقدة استغرقت عامًا ونصف من التحضير، استخدمت خلالها المسيّرات المخفية داخل شاحنات، ووضعتها قرب القواعد الجوية الروسية لاستهداف العمق الروسي، كما زرعت متفجرات في أعمدة جسر كيرتش الذي يربط روسيا بشبه جزيرة القرم .

تُبرز هذه العمليات الدور الحيوي لكل من المعلومات الاستخباراتية والعنصر البشري في تنفيذ ضربات دقيقة ضد أهداف شديدة التحصين داخل أراضي الخصم. كما تؤكد على أن العنصر البشري لم يقتصر دوره على جمع المعلومات، بل امتد إلى تنفيذ المهام الميدانية الحساسة، مثل زرع المعدات وتهريبها عبر الحدود. ومن خلال هذه الأنماط الجديدة من الحروب، يتضح أن النجاح في العمليات العسكرية العميقة لم يعد يعتمد على القوة النارية أو التكنولوجيا فقط، بل أصبح مرهونًا بمدى دقة المعلومات الاستخباراتية وكفاءة العنصر البشري في توظيفها بمهارة عالية  في استهداف الخصم من الداخل؛ حيث  تعتمد هذه التقنية على عنصري المرونة والمفاجأة، فهي لا ترتبط بجبهة قتال محددة، بل تنتقل من هدف إلى آخر بطرق يصعب توقعها.

 (*) الذكاء الاصطناعي: أحد أبرز التحولات اللافتة في الهجومين هو استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، فعملية “شبكة العنكبوت” الأوكرانية برهنت على نهج العمليات الهجينة، حيث تشير التحليلات إلى أن الذكاء الاصطناعي لعب علي الأرجح دورًا داعمًا في تعزيز قدرات الاستهداف الدقيق، لا سيما في تمكين توجيه الضربات للأجزاء المعرضة للخطر في الطائرات عالية القيمة، كما عوض الحاجة لوجود محطات تحكم أرضية أو مشغلين قريبين من مواقع الاستهداف.

وفي العملية الإسرائيلية تم استخدام الذكاء الاصطناعي في ضبط وتنسيق توقيت الضربات بالمسيرات للتماشي مع الهجوم الجوي.

أهداف متباينة

يأتي الهدف المشترك من كلا الهجومين، هو إثبات القدرة على التغلغل داخل أراضي الخصم، وإظهار مدى هشاشة منظومته الدفاعية، وأن اختراق حدوده ممكن، بل وتنفيذ هجمات من داخل عمقه الاسترتيجي، ففي حالة إيران استهداف مناطق محصنة ودقيقة بشدة، كذلك تحديد أماكن القادة والعلماء ما هو إلا دلالة على هشاشة المنظومة الأمنية، أما في حالة روسيا وبالرغم من التفوق العسكري، إلا أن الهجوم الأوكراني سعى لكسر هيبتها وإظهار أنها غير قادرة على تأمين أصولها الاستراتيجية.

(-) استنزاف القدرات الهجومية: تهدف أوكرانيا إلى تكبيد الجانب الروسي خسائر مباشرة، سواء في البنية التحتية العسكرية أو الاقتصادية، بما يُضعف قدرته على مواصلة الهجوم والتغلغل في الأراضي الأوكرانية بوتيرة سريعة، فكل ضربة ناجحة من أوكرانيا تمثل استنزافًا لموارد موسكو وتشتيتًا لمواردها، من ناحية آخرى تسعى كييف إلى استعادة ثقة حلفائها، وأنها ما زالت قادرة على المباغتة وأن كافة المساعدات التي تحصل عليها تحقق نتائج ملموسة في أرض المعركة، فكل نجاح لها هو تدعيم لحججها في الحصول على مزيد من الدعم الغربي.

(-) تدمير القدرات الصاروخية والنووية: اعتمدت عمليات الموساد الإسرائيلي بالأراضي الإيراني على إرباك القيادة العسكرية وضرب قدراتها الصاروخية الدفاعية والهجومية لتمهيد الطريق أمام المقاتلات الإسرائيلية.

ولطالما كان الهدف الاستراتيجي الواضح هو حرمان إيران من امتلاك سلاح نووي، حيث تعتبر إسرائيل امتلاك طهران لقدرات نووية هو تهديد وجودي لأمنها القومي سيعمل على الإخلال بتوازن القوي في المنطقة، لذلك يأتي هذا الهجوم في ما يمكن تسميته ” بالردع الاستباقي ” بهدف تدمير البنية التحتية النووية، كذلك حرص إسرائيل على اغتيال العلماء النوويين في إيران يُعتبر بمثابة خسارة كبيرة  للبرنامج النووي الإيراني.

وإجمالًا؛ سلطت تلك العمليات الضوء على التحولات التكنولوجية والاستراتيجية الأوسع التي تُعيد تشكيل الحرب الحديثة، مع زيادة تطور الأنظمة وسهولة استخدام التقنيات الرخيصة القابلة للاستهلاك وأنها أصبحت أداة جذابة فاعلة سواء للجهات الحكومية أو غير الحكومية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى