لماذا تسارع تركيا لترسيم الحدود البحرية مع سوريا؟

جاء إعلان وزير النقل التركي “عبد القادرأورال أوغلو” عن بدء المفاوضات مع الحكومة السورية الجديدة لإعادة ترسيم الحدود البحرية بين البلدين واستكشاف الطاقة بمنطقة شرق البحر المتوسط ليكشف مبكرًا عن الطموحات الجيوسياسية التركية بسوريا بشكل خاص ومنطقة شرق المتوسط بشكل عام بعد التطورات الأخيرة بالمشهد السوري، فهذا التطور سيشكل خطوة ومبادرة تركية ترسم ملامح المستقبل وما سيكون خلال المرحلة المقبلة، ومن هنا تُثار عدة تساؤلات حول طبيعة هذا التحرك ومواقف الدول المجاورة لتركيا.

مكسب جيوسياسي

إن التطورات في المشهد بين الجانبين التركي والسوري بالحديث عن مُقترح إبرام اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين يُعيد إلى الأذهان تجربة تركيا السابقة بليبيا والسعي التركي نحو إيجاد موطيء قدم بمنطقة شرق البحر المتوسط، فقد تم عقد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين الجانبين التركي والليبي الذي تمثل في حكومة “الوفاق الوطني” بقيادة فايز السراج عام 2019، فالدولة التركية تستغل الأوضاع السورية الحالية وحالة عدم الاستقرار التي تعاني منها البلاد في المرحلة الراهنة ما بعد سقوط نظام “بشار الأسد” وتولي الحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة “هيئة تحرير الشام” المدعومة من تركيا لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الجيوسياسية بالمنطقة، حيث تكشفت أبعاد اقتصادية تركية بسوريا ومنطقة شرق البحر المتوسط، فعزم تركيا إبرام إتفاق ترسيم الحدود البحرية مع سوريا يُمهد الطريق للسعي نحو كسب العديد من المكاسب الجيوسياسية والاقتصادية بسوريا خلال المرحلة المقبلة، فوفقًا لهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية فإن منطقة حوض الشام من البحر المتوسط والتي تطل عليها “مصر، لبنان، سوريا، إسرائيل، قبرص، تركيا” تحتوي علي أكثر من 3000 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي ونحو ما يقرب من ملياري برميل من النفط، ومن ثم فإن هذا الاتفاق سيترتب عليه زيادة النفوذ التركي بالبحر المتوسط وتمكنها من التنقيب عن احتياطات طائلة من الغاز والنفط في المياه السورية، وعليه تحاول تركيا ترسيخ تواجدها بسوريا ومنطقة البحر المتوسط ووضعه في إطار قانوني يتمثل في عقد تلك الاتفاقية الثنائية بين البلدين، فقد يُحدث هذا الاتفاق تغيرًا جذريًا في التوازنات الاستراتيجية في منطقة شرق البحر المتوسط، فهو من الممكن أن يمنح أنقرة حقوقًا بحرية إضافية قد تصل إلى 4000 كم مربع في المياه الإقليمية بالبحر المتوسط، بالإضافة إلى أن هذا الاتفاق سيكون جزءًا من استراتيجية تركية أوسع بسوريا ستشمل مشاريع في قطاعات النقل كالنقل الجوي والسكك الحديدية والاتصالات وقطاع الطاقة كنقل الكهرباء والاستثمارفي الموانئ السورية، فذلك كله يشير بصورة واضحة إلى رغبة تركيا في التحرك بشكل سريع للسيطرة علي القطاعات الاقتصادية السورية بحثًا عن الطاقة والنفوذ بمنطقة شرق المتوسط.

مواقف رافضة

إن صفقة ترسيم الحدود البحرية بين سوريا وتركيا أثارت قلق العديد من الدول نظرًا لطبيعة منطقة حوض البحر المتوسط الغنية بالنفط، وبالأخص الدول المجاورة لتركيا لأنها ستعزز من النفوذ التركي بالمنطقة على حساب تلك الدول، فعقب هذا الإعلان من الجانب التركي أعربت كل من اليونان وقبرص عن رفضهما لهذا المُقترح كما حدث عند الاتفاق التركي مع حكومة غرب ليبيا، وقد رأوا أن إتمام هذه الصفقة يُعني إهمال الحقوق السيادية لكل منهما وبذلك انتهاك القانون الدولي، وعليه ستقوم اليونان بالضغط على الإتحاد الأوروبي لوقف جهود تركيا كما أنها قد تعمل على تعزيز تحالفاتها مع قبرص وإسرائيل لمواجهة المناورات التركية وخطواتها المتزايدة لزيادة نفوذها بالمنطقة.

كذلك نرى أن الخطوات التركية في تعزيز علاقاتها مع الحكومة الحالية بسوريا وسعيها الدؤوب نحو زيادة نفوذها بالأراضي السورية والسيطرة على أكبر قدر من ثرواتها يُشكل تحديًا للنفوذ الإسرائيلي بسوريا ما قد يؤدي إلى تسارع وتيرة التوغلات الإسرائيلية بالداخل السوري لتقليل التدخلات التركية وكبح نفوذها المتزايد بسوريا.

أما بالنسبة لأوروبا فإنها تدرك أن أمنها واستقرارها مرتبط بأمن وإستقرار منطقة شرق البحر المتوسط كمنطقة خالية من الصراعات وكذلك أهميتها في إيجاد بديل لها عن الغاز الروسي، وعليه فإن إبرام هذا الاتفاق سيواجهه موقف أوروبي رافض لتلك الممارسات التركية المتزايدة بالمنطقة والتي باتت تشكل خطرًا على المصالح الأوروبية بها، فضلًا عن أن تزايد النفوذ التركي بتلك المنطقة سيشكل تحديًا واضحًا للنفوذ الأمريكي والروسي بسوريا والمنطقة ككل.

المشروعية القانونية

صرحت كل من اليونان وقبرص بعدم قانونية هذا الاتفاق المُقترح ومخالفته لقواعد القانون الدولي، حيث تعد اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 هي المرجعية القانونية في ترسيم الحدود البحرية بين كافة الدول الموقعة عليها، وبناءًا عليه يرى بعض القانونيين أنه لابد من الاتفاق بين الدول المجاورة عند رسم الحدود البحرية بطريقة متناسبة ومتساوية ولا يجوز البحث عن الثروات البحرية إلا بعد التوافق حول أسلوب استغلال تلك الثروات بالإنصاف بين الدول المتلاصقة والمتقابلة معًا، وعليه فمن الممكن أن يواجه هذا التوجه عقبة تكمن في أن تركيا رفضت عام 1982 التوقيع على تلك الاتفاقية الدولية لقانون البحار، وبالتالي لا يمكنها استغلال أي ثروات طبيعية في المناطق الاقتصادية بشرق المتوسط، هذا بالإضافة إلى أن الاتحاد الأوروبي قد يدين هذا الاتفاق كما أدان اتفاق 2019، فقد أكد الاتحاد الأوروبي حينها أنه اتفاق ليس له أثر قانوني لانتهاكه حقوق الدول المجاورة لتركيا، وفي المقابل تؤكد تركيا علي قانونية هذا الاتفاق وعدم مخالفته لقواعد القانون الدولي .
وختامًا؛ نجد أنه دائمًا ما تحاول تركيا استغلال كافة السبل والفرص من أجل تحقيقها لمكاسب جيوسياسية وإنجاح مشروعها الإقليمي والعمل على زيادة نفوذها بالمنطقة، فعلى عكس ما جاء في تصريحات وزير النقل التركي من أن إتمام هذا الاتفاق سيكون رهن تشكيل حكومة دائمة في دمشق وليس بالوقت الحاضر، فقد تستغل تركيا الوضع السوري الهش بتواجد تلك الحكومة الانتقالية وتُسارع لاتمام هذا الاتفاق معها في محاولة منها لقطع الطريق أمام أي قوى دولية أخرى لكسب هذه المزايا الاستراتيجية بالمنطقة خلال المرحلة المقبلة.

د. جهاد نصر

رئيس برنامج دراسات الجيوبوليتيك بالمركز- مدرس مساعد بقسم العلوم السياسية جامعة ٦ أكتوبر، متخصصة في مجال الجيوبوليتيكس، وشئون الأمن الإقليمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى