مناورة تركية خطرة.. تداعيات انخراط أنقرة في سوريا
الثابت الوحيد في السياسة هو التغير. قبل اندلاع الحرب الأهلية في سوريا قبل 14 عامًا تقريبًا، كانت تركيا تتمتع بعلاقات مستقرة مع سوريا. كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره آنذاك بشار الأسد على وفاق جيد، لدرجة أن عائلتيهما قضتا إجازة معًا ذات مرة، ولكن في عام 2011، قطع أردوغان العلاقات ووضع إمكانياته الاستخباراتية والعسكرية وراء الجماعات المتمردة التي تقاتل بشار الأسد. وتحولت تركيا لتكون القوة الخارجية الأكثر أهمية التي تدعم المتمردين في الشمال الغربي، ودعمت أيضًا مجموعة متنوعة من “الجماعات الإسلامية” خلال الحرب الأهلية السورية وعلى رأسها “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة السابقة)، حيث تشير مصادر إعلامية غربية إلى وجود مؤشرات على أن الهيئة حصلت على مساعدة تركية في شكل أسلحة، قبل هجوم نوفمبر والذي أدى إلى سقوط الأسد في 8 ديسمبر 2024. ولا تعد “هيئة تحرير الشام” العميل الرئيسي لأنقرة، حيث تدعم تركيا أيضًا “الجيش الوطني السوري”.
في المقابل، كان الأتراك أكثر اهتمامًا وقلقًا بظهور كيان كردي سوري في شمال سوريا بقيادة “قوات سوريا الديمقراطية”، على الرغم من كونها منظمة سورية، إلا أن لها جذورها في التمرد الكردي التركي، وهي القوات التي تدعهما الولايات المتحدة عبر شراكة بين الجانبين عندما اختفت القوات العراقية والسورية والعراقية الكردية في ذروة هجوم تنظيم “داعش” في عام 2014. وإلى يومنا هذا، تحتفظ الولايات المتحدة بقوة من حوالي ألفي جندي في شمال سوريا حسب -إعلان البنتاجون قبل أيام- بالتعاون مع “قوات سوريا الديمقراطية بذريعة منع عودة “داعش”.
أسباب اهتمام تركيا
فتحت تركيا أبوابها أمام أكبر عدد من اللاجئين السوريين من أي دولة، وفقًا لبيانات الأمم المتحدة – بلغ ذروته عند أكثر من 3.7 مليون نسمة في عام 2021 – وكان العديد منهم مرتبطين بجماعات المعارضة لتهديد نظام الأسد. وبحلول عام 2018، عندما بدا أن الأسد يفوز بالحرب الأهلية – بمساعدة روسيا وإيران و”حزب الله” اللبناني المدعوم من إيران – جاء موقف تركيا التي واجهت صعوبات محلية واقتصادية، حيث ألقى الجمهور باللوم على اللاجئين السوريين.
كما واجهت تركيا تهديدات أمنية على طول حدودها مع سوريا. وقبل تحرك المعارضة السورية المسلحة، تحولت أهداف تركيا إلى ضمان استقرار الجيوب المتمردة مثل إدلب في شمال سوريا، من أجل منع المزيد من تدفق اللاجئين إلى تركيا، وفقًا لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان الذي ذكر في مقابلة أجرتها معه قناة الحدث السعودية، حيث قال: “في إدلب، كان حوالي 4 ملايين سوري يعيشون تحت سيطرة هيئة تحرير الشام” التي قادت المقاتلين الذين أطاحوا بالأسد وتقود سوريا الآن. “كان هناك دائمًا خطر قدوم هؤلاء الأشخاص إلى تركيا خلال أوقات الأزمات”. وأضاف فيدان “نحن لا نريد هيمنة إيرانية في المنطقة، ولا نريد هيمنة تركية أو عربية على سوريا”.
إن تركيا نشطة بالفعل في سوريا بشكل واضح، فالسفارة التركية في دمشق تعمل، كما قام رئيس الاستخبارات التركية بزيارة إلى دمشق والتقى بزعيم “هيئة تحرير الشام”، أحمد الشرع – المعروف سابقًا باسمه الحركي أبو محمد الجولاني – الذي أصبح الآن الزعيم الفعلي للإدارة السورية الجديدة.
وفي مقابلة مع صحيفة يني شفق التركية، قال زعيم “هيئة تحرير الشام” إنه ستكون هناك “علاقات استراتيجية” بين البلدين، وأضاف “الشرع”: “من بين العديد من البلدان التي لجأ إليها السوريون، رحبت تركيا بهم واحترمتهم أكثر من غيرها. آمل ألا تنسى سوريا هذا اللطف”. وأضاف أن استيلاء المتمردين السوريين على المدينة كان انتصارًا لتركيا: “هذا النصر ليس انتصارًا للشعب السوري فحسب، بل انتصارًا للشعب التركي أيضًا”.
وفي هذا السياق، يقول الخبراء إن القادة السوريين الجدد سيضطرون إلى الاعتماد على تركيا لمساعدتهم في إرساء النظام العام، وتشكيل المؤسسات وتوفير الموارد، مثل المياه والكهرباء. ومع تدمير جزء كبير من سوريا، من المرجح أن تسعى شركات البناء التركية إلى لعب دور قيادي في إعادة الإعمار. وهو ما دعا “الشرع” أن يصرح لصحيفة يني شفق: “نحن نثق في أن تركيا ستنقل تجربتها في التنمية الاقتصادية إلى سوريا”.
حسابات ومحاذير
يقول المحلل السياسي التركي أوزيل: “أعتقد أن النخب الأمنية التركية تعلمت دروسها من الفترة السابقة عندما كانت هذه (الهيمنة) ضمن أجندتها إلى حد كبير. يمكن لتركيا أن تكون مؤثرة للغاية كلاعب، ولكن ضمن حدود. وإذا تمكنت من إدارة الموقف بشكل جيد، فسوف تستفيد بشكل كبير”. لم تقم أي أزمة أخرى بإعادة تعريف مكانة تركيا في السياسة الإقليمية والدولية بقدر ما فعلت الأزمة السورية. تشترك تركيا مع سوريا في أطول حدود برية لها، والتي تمتد لأكثر من 900 كيلومتر. وبالتالي فإن سوريا ليست مجرد قضية سياسة خارجية بالنسبة لتركيا، بل هي أيضًا قضية داخلية”.
في حين شكلت تركيا مسار الصراع السوري، فقد شكل الصراع السوري بدوره ديناميكيات السياسة الداخلية التركية وعلاقاتها الدولية لأكثر من عقد. كانت العلاقة بين تركيا والأزمة السورية قصة إعادة تشكيل متبادلة. فجميع الانقسامات العرقية والطائفية والأيديولوجية التي توجد في سوريا موجودة أيضًا في تركيا، مما أدى إلى ظهور أحزاب اليمين المتطرف وكراهية الأجانب وإعادة تعريف طبيعة السياسة القومية في البلاد.
من بين جميع اللاعبين الخارجيين في سوريا، ظلت تركيا الداعم الأكثر ثباتًا للمعارضة السورية. لقد أصبحت هذه السياسة غير شعبية بشكل متزايد، نظرًا للتكلفة الباهظة لهذا الصراع بالنسبة لتركيا من الناحية الأمنية والسياسية والاقتصادية، وفي شكل تدفقات اللاجئين. وقد دعت المعارضة التركية، التي تنتقد سياسة الحكومة بشدة، أنقرة منذ فترة طويلة إلى تطبيع العلاقات مع نظام الأسد (المخلوع الآن) وخفض الدعم لجماعات المعارضة.
مع سقوط الأسد، تشعر الحكومة التركية أن سياستهم قد أثبتت صحتها. ومع استعداد الجهات الفاعلة التي طورت تركيا علاقات وثيقة معها على مر السنين لتولي المزيد من النفوذ والسلطة في دمشق، فإن أنقرة على استعداد لكسب أدوات نفوذ أساسية في سوريا.
أهداف رئيسية
قبل سقوط الأسد، كانت هناك أربعة أهداف رئيسية بارزة في سياسة تركيا تجاه سوريا: الإعادة القسرية الجزئية للاجئين السوريين؛ وأمن الحدود؛ الحد من المكاسب السياسية والإقليمية لـ”قوات سوريا الديمقراطية” التي يقودها الأكراد؛ وانتزاع بعض التنازلات من النظام لصالح جماعات المعارضة السورية المتحالفة معها في أي مفاوضات.
مع سقوط النظام، أصبح الهدف الرابع لا طائل منه، لكن تركيا ستحاول تحقيق أهدافها الأخرى من خلال نفوذها لدى القادة الجدد في دمشق وارتباطها بالدول العربية ـ مع الحفاظ على الضغط العسكري على “قوات سوريا الديمقراطية”، وهو ما بدا يتحقق في تصريح وزيرة الخارجية الألمانية بشأن تفهمها لقلق تركيا من تحركات “قسد” وأيضًا تصريحات ترامب بشأن الدور التركي في سوريا.
هناك توقعات داخل تركيا بعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم. ورغم أن السوريين الذين يعيشون في البلدان المجاورة، بما في ذلك تركيا، قد بدأوا بالفعل في العودة إلى سوريا، إلا أن البلاد دمرتها 13 عامًا من الحرب الأهلية ولا تزال الظروف صعبة. وبالتالي، لن يتمكن السوريون من العودة إلى ديارهم بأعداد كبيرة، على الأقل ليس في الأمد القريب. وينبغي للسياسيين الأتراك ــ وليس أقلهم المعارضة ــ والشخصيات العامة الامتناع عن تضخيم التوقعات فيما يتصل بعودة اللاجئين السوريين، إذ يحتاج هذا الأمر لتكاتف إقليمي ودولي لتسهيل عودة اللاجئين لديارهم.
حملة تركيا ضد الأكراد السوريين
بالنسبة للأتراك، يظل الهدف الأكثر أهمية هو القضاء على “قوات سوريا الديمقراطية”، حليفة الولايات المتحدة. وقد رفع أردوغان من أهمية الأكراد السوريين في السياسة الداخلية، ليس فقط لوضع مواطنيه الأكراد في موقف دفاعي ولكن أيضًا كوسيلة لتشتيت انتباه السكان. ومع ذلك، فإن الأساس الحقيقي، وإن لم يتم التعبير عنه علنًا، هو الخوف من أن يبرم الأكراد السوريون صفقة مع أي حكومة مركزية في دمشق لتحقيق وضع مستقل تمامًا كما فعل الأكراد العراقيون بعد حرب العراق. يتذكر الأتراك أن الولايات المتحدة كانت العامل الأساسي في مساعدة الأكراد العراقيين على إنشاء حكومة إقليم كردستان. واليوم، تتحالف الولايات المتحدة مرة أخرى مع كيان كردي آخر، مما يزيد من مخاوف أنقرة من أن التاريخ سوف يكرر نفسه. ونتيجة لهذا، أصبح التحالف الأمريكي المصدر الأساسي للخلاف بين أنقرة وواشنطن.
في البداية، منحت الثورة السورية الحالية تركيا الغطاء الذي تحتاجه لدفع “الجيش الوطني السوري” إلى المواقع الكردية، بهدف مباشر يتمثل في دفع “قوات سوريا الديمقراطية” إلى شرق نهر الفرات، وأن مصير الجيب الكردي السوري يقع على عاتق واشنطن.
وربما تأمل أنقرة أن تقرر إدارة دونالد ترامب القادمة سحب الجنود الأمريكيين وإنهاء دعمها لـ”قوات سوريا الديمقراطية”، فلقد حاول ترامب القيام بذلك مرتين خلال ولايته الأولى، لكن مستشاريه أقنعوه بعدم القيام بذلك، ولكن الواقع يشير إلى صعوبة إجراء هذا الانسحاب هذه المرة. فهناك أكثر من أربعين ألف معتقل من “داعش” والموالين له في السجون التي تديرها “قوات سوريا الديمقراطية”، مثل مخيم الهول. وإذا تم إطلاق سراحهم، فمن المرجح أن ينضم بعض أو العديد من هؤلاء السجناء إلى “هيئة تحرير الشام”، وبالتالي تعزيزها أو التسبب في الفوضى في شمال العراق أو ما بعده. وربما لم يكن من المستحسن سحب القوات الأمريكية، لأنه كان سيُنظَر إلى ذلك باعتباره انتصارًا لإيران وحلفائها. فإيران، بعد كل شيء، تحث العراق على تقليص الوجود العسكري الأمريكي. وبالإضافة إلى المساعدة في منع عودة “داعش”، تراقب القوات الأميركية في سوريا نقل البضائع والدعم الإيراني.
التداعيات الجيوسياسية على تركيا
لقد أدت قدرة الأسد على التمسك بالسلطة خلال 13 عامًا – بفضل روسيا وإيران و”حزب الله” إلى حد كبير – إلى تقريب أنقرة وموسكو وطهران، وخاصة بعد محاولة الانقلاب في تركيا عام 2016، في حين أدت إلى توتر العلاقات بين تركيا والغرب. ومن المرجح أن يكون لسقوط الأسد تأثير معاكس؛ فمن المرجح أن يفرض المزيد من الضغوط على علاقات تركيا مع روسيا وإيران في حين يدفع تركيا والغرب إلى التقارب. وعلى الرغم من هذا، فسوف يتعين على موسكو أن تدير استيائها من تركيا لأنها تحتاج إلى دعم أنقرة للحفاظ على مصالحها في سوريا، وليس أقلها قواعدها البحرية والجوية الحيوية في البلاد.
وخلال حكم الأسد، وضعت روسيا نفسها فعليًا كبوابة لأي تطبيع محتمل بين تركيا ونظام الأسد، وكانت تلعب دورًا مماثلًا بين النظام و”قوات سوريا الديمقراطية”، وقد أعطى هذا الدور لروسيا بعض النفوذ في مواجهة تركيا. وعندما انتهت عملية أستانا (آلية إدارة الصراع وتجميده في سوريا والتي همشت عملية جنيف التي تقودها الأمم المتحدة وقادتها تركيا وروسيا وإيران) أرادت موسكو استخدام دورها كبوابة لإعادة هيكلة علاقاتها والحفاظ على ديناميكيات الترابط المتبادل مع أنقرة.
أصبحت هذه الديناميكية مع روسيا في سوريا عاملًا رئيسيًا شكل سياسة تركيا تجاه قضايا أخرى تتعلق بروسيا، مثل أوكرانيا أو ليبيا أو البحر الأسود. ولفترة طويلة، استخدمت روسيا بمهارة نقاط الضعف في سوريا وتركيا هناك للتأثير على خيارات أنقرة السياسية في أماكن أخرى.
الآن، انعكست الأدوار؛ فقد تعمل أنقرة كبوابة لموسكو للوصول إلى دمشق. ومن المرجح أن يكون الأمر نفسه هو الحال مع إيران. ومع امتلاك شركائها وحلفائها للسلطة في دمشق، أصبحت أنقرة الآن تتمتع باليد العليا في مواجهة كل من موسكو وطهران. كما يتضاءل اعتمادها على روسيا وإيران. ويمكن لسوريا أيضًا أن تعمل كنقطة اهتمام مشتركة لتركيا والدول العربية والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للحوار والتعاون، سواء في سوريا أو خارجها.
وتقع هذه المسؤولية إلى حد كبير على عاتق الجهات الفاعلة السورية. ولكن تركيا، باعتبارها الداعم الخارجي الأكثر التزامًا لجماعات المعارضة، لابد أن تستخدم نفوذها لدفعها إلى تطوير نظام سياسي أكثر شمولًا وشرعية في سوريا، وتحقيق هذه الغاية من شأنه أن يشكل تطورًا إيجابيًا للغاية ليس فقط لسوريا والمنطقة الأوسع، بل وأيضًا فوزًا آخر لتركيا.
وختامًا، فإن الدعم التركي على حد وصف “ترامب” قد حقق الإطاحة بنظام الأسد دون إراقة دماء كثيرة في الساحة السورية. ولكن هذا لم يكن ليحدث لولا اتفاق جميع الأطراف المعنية بالملف السوري على أن نظام الأسد لم يعد يستحق كل هذا العناء والتناحر بين الفرقاء، وأن هناك لاجئين سوريين لابد من عودتهم، وهناك متطرفين وعائلاتهم لابد من استيعاب النظام السوري الجديد لهم مع ضمان عدم تهديد أمن إسرائيل والحد من التدخلات الإيرانية، وربما تقديم بعض التعهدات للجانب الروسي” المنهك” في ملف أوكرانيا ولعل أقلها عدم دعم زيلينسكي في انتخابات أوكرانيا 2025، وإمكانية التوافق حول ملف الحدود والناتو بالنسبة لأوكرانيا.
أما فيما يتعلق بتركيا فإن ملف سوريا يعد على درجة كبيرة من الأهمية بما لا يدعو مجال للشك في أنها ستكون حاضرة في سوريا المستقبل وربما يخلق هذا بعض التوترات مع أطراف إقليمية ودولية. وأخيرًا، فإن تركيا بوضعها الحالي وامتلاكها لأقوى جيش تقليدي في أوروبا وقدراتها التصنيعية الدفاعية المتنامية وتواجدها في ملفات عديدة بالشرق الأوسط والقرن الإفريقي وحضورها في ليبيا والسودان والصومال وإثيوبيا وسوريا، وهو أمر وإن كان يفيد الدول الغربية في بعض النواحي حاليًا، إلا أنه يقلقها من تركيا المستقبلية خاصة في ظل أن تركيا تتعامل من موقع “الند” وليس “التابع”. ومن هنا من المتوقع أن يجهز الغرب خطط مغايرة لتركيا في مرحلة ما بعد أردوغان.