ركائز الدبلوماسية الصينية تجاه الجنوب العالمي في “الحقبة الجديدة”

وضع الرئيس الصيني شي جين بينج منذ قدومه إلى السلطة الخطوط العريضة لقيادة التقدم القوي لدبلوماسية الدولة الكبرى ذات الخصائص الصينية، والتي تتركز على مجتمع مستقبل مشترك للبشرية وفلسفة الحياد لتحقيق التعاون الشامل والعادل مع جميع الأطراف، وتعزيز إنشاء نمط من العلاقات يتميز بالتعايش السلمي والاستقرار الشامل والتنمية المتوازنة. ويصادف هذا العام الذكرى السنوية الحادية عشر لمفهوم الرئيس شي جين بينج لبناء مجتمع مستقبل مشترك للبشرية.
ويُعد تعاون الجنوب العالمي جزء لا يتجزأ من دبلوماسية الدولة الكبرى ذات الخصائص الصينية، فقد أقامت الصين التي تعتبر عضوًا نموذجيًا في الجنوب العالمي، شراكات استراتيجية وشراكات استراتيجية شاملة مع دول الجنوب، ودخلت العلاقات بين الصين ودول الجنوب العالمي حقبة جديدة تجمع مزيج من الإطار الاقتصادي القائم على المنفعة المشتركة والإطار السياسي القائم على إعادة تشكيل النظام العالمي الحالي نحو مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية وفلسفة الحياد لبناء مجتمع دولي يقوم على السلام العادل والشامل والمستدام.
وبالتالي نجد أن الخطوط العريضة لهذه الدبلوماسية التي يسعي لها شي جين بينج هي التركيز على هوية الصين كشريك طبيعي مع دول الجنوب العالمي، ملتزمة بمفهوم مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية وفلسفة الحياد.
يناقش هذه المقال تطور مفهوم “الجنوب العالمي”، وتحليل تاريخ تطور الدبلوماسية الصينية من منطلق هذا المفهوم مع دول الجنوب، وسمات دبلوماسية الدولة الكبرى ذات الخصائص الصينية في الحقبة الجديدة، لفهم كيف تسعى هذه الدبلوماسية لتحقيق البناء المشترك للحوكمة العالمية من خلال دورها كحارس للأمن العالمي وبانٍ للتنمية العالمية القائمة على التعاون المفتوح والمشاركة المربحة للجانبين.
تطور مفهوم “الجنوب العالمي” في النظام العالمي
بعد نهاية الحرب الباردة، كان يُنظر إلى النظام العالمي سياسيًا واقتصاديًا على أنه نظام أحادي القطب تحت هيمنة الولايات المتحدة. وقد أعادت العولمة الاقتصادية والديمقراطية السياسية التي روجت لها الولايات المتحدة تشكيل العالم بأسره من خلال التدخل العسكري وأسلحة الدمار الشامل والأسلحة التقليدية في تحقق الردع، وأيضًا الدبلوماسية الاقتصادية الممزوجة بالإكراه والعقوبات والمساعدات الناتجة عن هيمنة الدولار الأمريكي وآليات السوق الانتقائية لقيادة العالم.
في إطار النظام السياسي والاقتصادي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، يعتبر “الجنوب العالمي” مفهومًا سياسيًا واقتصاديًا مخالفًا لـ”إجماع واشنطن” والليبرالية الجديدة، تلك الدول التي لديها خلافات سياسية واقتصادية مع الدول الغربية، وهي ببساطة نتاج لوضع العلاقات بين الشمال والجنوب من منظور العولمة الاقتصادية، مع التركيز على العلاقات الجيوسياسية العالمية.
لذا، شكلت الاتجاهات المناهضة للعولمة والأزمة المالية العالمية وتغير المناخ العالمي ووباء كوفيد-19، المشهد السياسي والاقتصادي العالمي بشكل عميق عبر سلسلة من التغيرات العالمية الكبرى. ففي عام 2003، أطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مبادرة أطلق عليها اسم “بناء الجنوب العالمي”، والتي لعبت دورًا مهمًا في لفت انتباه المجتمع الدولي إلى هذا المفهوم. وفي مواجهة الأزمة المالية العالمية، تقدمت آلية التعاون بين دول “بريكس” بما فيها الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وروسيا بشكل مطرد. وفي مواجهة تغير المناخ العالمي ووباء كوفيد-19، اتسعت الفجوة والاختلافات بين دول الجنوب والشمال شكل متزايد، مما دفع الأنظار نحو “الجنوب العالمي” في المجتمع الأكاديمي، ولا سيما بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية، حيث كانت البداية لحقبة جديدة للجنوب العالمي الذي لم يختر بين روسيا والولايات المتحدة والغرب كما تصورتها دول الشمال، ولم تتمكن الولايات المتحدة من إقامة تحالف مناهض لروسيا مع معظم دول الجنوب. وقد أدى هذا إلى زيادة تصاعد المناقشات حول الجنوب العالمي في الدوائر الاستراتيجية والدوائر الأكاديمية في البلدان المتقدمة في أوروبا والولايات المتحدة.
وقد ساهمت الخطوط العريضة لدبلوماسية الدولة الكبرى ذات الخصائص الصينية بمفاهيمها الجديدة في تعزيز مفهوم الجنوب العالمي ولا سيما الدور الكبير الذي تلعبه مبادرة الحزام والطريق في ربط العالم بشبكات برية وبحرية لتعزيز التعاون التجاري والسياسي والثقافي في سياق “المنفعة المتبادلة”، وأيضًا الدور الصيني الرائد والمسؤول في قوات حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة و”دبلوماسية اللقاح الصيني” خلال وباء كوفيد-19، كل هذه الإسهامات للخطوط العريضة لدبلوماسية الدولة الكبرى في تعزيز المؤتمرات الدولية لتعزيز الجنوب العالمي.
ففي عام 2023، عقدت الهند قمة “مجموعة العشرين” في نيودلهي لمناقشة “صوت الجنوب العالمي”، وقد ذكر مفهوم “الجنوب العالمي” في التقرير الصادر عن مؤتمر ميونخ للأمن عدة مرات متتالية، وعقدت اليابان قمة “الجنوب العالمي”، وخلال قمة مجموعة السبع في هيروشيما، تمت دعوة بعض “الدول الجنوبية” بشكل خاص للحضور وتم إدراج الجنوب العالمي في موضوعات القمة. فالمفاهيم التي أطلقتها دبلوماسية الدولة الكبرى ذات الخصائص الصينية، قد دفعت دول الجنوب العالمي والتي تتمتع بنفوذ استراتيجي يغطي 130 دولة، في تكثيف التفاعلات بين بلدان الجنوب، وأصبحت قوى الشمال تتنافس أيضًا على زعامة الجنوب العالمي. فليس التمييز بين الجنوب والشمال جغرافيًا بل في الخطين الفاصلين السياسي والاقتصادي.
فمن المنظور السياسي تشمل بناء الحوكمة العالمية القائمة على مفاهيم العدالة والإنصاف، والإصرار على الاستقلال السياسي وقوى عدم الانحياز العالمية، وهي تلك القوى العالمية الملتزمة بالمشاركة في إصلاح وبناء نظام الحكم العالمي. وهي المفاهيم التي تعتبر الحجر الأساسي لدبلوماسية الدولة الكبرى ذات الخصائص الصينية التي تحدد العلاقات مع دول الجنوب العالمي بشكل أساسي من خلال منظور وضع الجنوب في المجتمع العالمي ومجتمع ذو المصير المشترك للبشرية.
تاريخ تطور الدبلوماسية الصينية من منظور “مفهوم الجنوب” مع دول الجنوب العالمي
باعتبارها عضوًا مؤسسًا للأمم المتحدة ودولة نامية كبرى كما صنفها تقرير “بناء الجنوب العالمي” الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام 2004، على أنها دولة من “الجنوب العالمي”، ودولة كبرى تتمتع بنفوذ استراتيجي عالمي، وسياسة خارجية مستقلة تقوم على سياسة عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية وتنتهج سياسة الشراكة وليس التحالف وتتبنى سياسة عدم الانحياز، كما أن هناك تاريخ مشترك من النضالات التاريخية مع دول الجنوب العالمي، وقد أعطت الدروس التاريخية المستفادة والتجارب والإنجازات الناجحة التي حققتها الصين بقيادة الحزب الشيوعي في التغلب على الكثير من مشاكل التنمية التي واجهتها والتي هي أيضًا مشاكل تنموية مشتركة مع دول الجنوب العالمي، ومساعي نقلها من خلال مبادرة الحزام والطريق مثل “مكافحة الفساد”، و”القضاء على الفقر” و”إنجازات المجال الصناعي والزراعي والتكنولوجي”، و”الإدارة والحوكمة” وغيرها، إلى دول الجنوب العالمي. كما أن دبلوماسيتها تحمل وجهات نظر ومطالب مماثلة بشأن النظام الدولي الحالي والحوكمة العالمية.
ومن هنا يمكن القول إن دول الجنوب العالمي والصين شركاء طبيعيين، فهناك تشارك في التجارب التاريخية ضد “الإمبريالية”، وتواجه الصين ودول الجنوب العالمي مشاكل وتحديات في قضايا التنمية المستدامة، وتتقاسم تطلعات سياسية مشتركة لتعديل الحوكمة العالمية للنظام الحالي التي ينظر إليها على أنها غير عادلة وغير معقولة، ويأمل كلاهما في الفوز بمكان في إصلاح نظام الحوكمة العالمية.
لا تسعى الصين لإقامة تحالفات مع دول الجنوب بقدر مساعيها لتشجيع إقامة نوع جديد من العلاقات الدولية غير المنحازة وغير التصادمية على أساس المبادئ الخمسة للتعايش السلمي. إن الشراكة التنموية العالمية القائمة على المساواة والانفتاح والتعاون بين الدول هي السمات المميزة للشراكة التنموية بين الصين والجنوب العالمي على أساس هويتها كشريك طبيعي.
قامت الصين، باعتبارها عضوًا نموذجيًا في الجنوب العالمي، بتعديل أهدافها الأساسية وتركيز العلاقات والأولويات بشكل مستمر في علاقاتها المتبادلة مع دول الجنوب العالمي في فترات تاريخية مختلفة من خلال الجمع بين التحولات في النظم العالمية والاستراتيجية الوطنية، فمنذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية، شهدت علاقات الصين مع دول الجنوب العالمي عملية تنمية مشتركة من الإطار السياسي المتعلق بالنضال المشترك إلى الإطار الاقتصادي المتعلق بالتنمية المشتركة.
فمن منظور الإطار السياسي، منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية حتى نهاية السبعينيات، وفي مواجهة نمط الحرب الباردة ثنائية القطبية المتمثلة في المواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، كان الإطار الأساسي لاستراتيجية الصين الخارجية هو التمسك بالصراع الطبقي باعتباره الحجر الرئيسي، وهذا ما أكد عليه الرئيس ماو في الجلسة الثالثة الكاملة للجنة المركزية الثامنة للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر 1957، حينما ركز على التناقضات بين البروليتاريا والبرجوازية، وبين الطريق الاشتراكي والطريق الرأسمالي، والتي لا يزال يعاني منها المجتمع الدولي حتى يومنا هذا.
وتجمع الدبلوماسية الصينية بين الهيكل الدولي والاستراتيجية الوطنية، أكدت على اعتبار الصراع الطبقي الإطار السياسي الأساسي لها، وهذا الإطار السياسي يعارض الاستعمار والإمبريالية والهيمنة، ويؤكد على احترام الحقوق والمصالح المشروعة للاستقلال الوطني والسيادة والسلامة الإقليمية والتنمية المستقلة، مع النضال المشترك مع دول الجنوب العالمي، وانعكس هذا النضال في طرح ماو تسي تونج الأطروحة الاستراتيجية الشهيرة “العوالم الثلاثة” عندما التقى بالرئيس الزامبي كاوندا، والتي اعتبرت الوحدة والتعاون بين الصين ودول الجنوب جزءًا هامًا من “الجبهة المتحدة للثورية العالمية”.
كما أوضح ماو تسي تونغ المؤشرات الاستراتيجية والمؤشرات الاقتصادية التي تميز العوالم الثلاثة وفقا لمؤشران هما عدد القنابل الذرية ومستوى الثروة. فوقعت “الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في تصنيف العالم الأول، والعالم الثاني، أوروبا، اليابان، أستراليا وكندا، وباقي الدول العالم الثالث.
ووفقًا للفكر الاستراتيجي لـ”العوالم الثلاثة”، تعتبر الصين الدول النامية بمثابة موطئ قدم أساسي لسياستها الخارجية، وتعلق أهمية كبيرة على الوحدة والتعاون مع دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وفي استراتيجية الثورة العالمية، يتم تضمين العلاقة بين الصين ودول الجنوب في الإطار الاستراتيجي للنضال المشترك ضد الإمبريالية والاستعمار والهيمنة الذي بدأه المؤتمر الآسيوي الإفريقي، إلى النضال ضد الإمبريالية الاشتراكية السوفييتية، إلى دعم الصين لـ”حركة عدم الانحياز”، ونضال “مجموعة الـ 77” من أجل تعزيز نظام سياسي واقتصادي دولي جديد. وعلى الرغم من أن أهداف النضال قد تغيرت، إلا أن الإطار الاستراتيجي لنضال الصين المشترك مع دول الجنوب لم يتغير بشكل أساسي. إن أهم أدوات نضال الصين المشترك مع دول الجنوب هي النضال السياسي والمساعدات الخارجية.
ومن المنظور الاقتصادي، كون الدبلوماسية الصينية تتركز على الجمع بين الهيكل الدولي أو التغيرات في المجتمع الدولي والاستراتيجية الوطنية، أطلق الحزب الشيوعي بقيادة دنج شياو بينج “الإصلاح والانفتاح” التي ألزمت الإطار الأساسي لاستراتيجية الصين الخارجية للتركيز بشكل رئيسي على الالتزام بالبناء الاقتصادي. وفي الوقت نفسه، منذ الإصلاح والانفتاح، ومع تحول مركز عمل الحزب والدولة من الصراع الطبقي إلى البناء الاقتصادي وتحول التركيز الاستراتيجي للدبلوماسية الصينية أيضًا إلى تعزيز التحديث، حيث كان المجتمع الدولي يشهد اضطرابات نتيجة تداعيات حرب فيتنام و”فضيحة ووترجيت” وأزمة النفط بشكل كبير وغيرها من الأحداث التي جعلت مفهوم السلام والتنمية الموضوعين الرئيسيين في العالم. وعلى الرغم من أن الصين لا تزال تصر على معارضة الهيمنة وحماية السلام العالمي في علاقاتها الخارجية، إلا أن التركيز الاستراتيجي لجميع أعمالها ركز بشكل واضح على تعزيز التحديث وتحقيق التنمية الدولية المشتركة، وقد أصبح الإطار الاقتصادي الأساسي لدبلوماسية الصين. ففي مارس 1985، أشار دنج شياو بينج إلى أن “المشاكل الكبرى الحقيقية في العالم الآن هي القضايا الاستراتيجية التي تتعلق بالسلام والتنمية. فقضية السلام هي العلاقة بين الشرق والغرب، وقضية التنمية هي العلاقة بين الشمال والجنوب”. وخلاصة القول هي أن قضية الشمال والجنوب هي القضية الأساسية. ومن هذا المنظور الاستراتيجي، أصبح السلام والتنمية قضيتان أساسيتان في العالم، فإن مكانة الدول النامية في الاستراتيجية الدبلوماسية الشاملة للصين ظلت في تقدم. لذا، كانت الدبلوماسية الصينية تلتزم بطرح دنج شياو بينج فكرة “عدم أخذ زمام المبادرة أبدًا” كسياسة وطنية أساسية.
وفي هذا الإطار الاقتصادي، يتم تضمين فهم الحزب الشيوعي الصيني لدول الجنوب بشكل أساسي في الإطار الاستراتيجي للإصلاح والانفتاح، والذي يؤمن بأن الصين تنتمي دائمًا إلى العالم الثالث، ويعزز الحوار بين الشمال والجنوب، ويعزز التعاون بين الجنوب والجنوب، ويدفع علاقة تنمية اقتصادية مشتركة مع دول الجنوب العالمي، ومنطقها الأساسي هو تنفيذ تعاون اقتصادي مشترك قائم علي المنفعة المتبادلة، ويتجاوز القيود الأيديولوجية، وتكوين شراكات على نطاق واسع، وتشكيل مفهوم جديد للالتزام بطريق التنمية السلمية واتباع استراتيجية الانفتاح متبادلة المنفعة والمربحة للجانبين بشكل متزايد.
سمات دبلوماسية الدولة الكبيرة ذات الخصائص الصينية في الحقبة الجديدة
إن عالمنا اليوم يمر بتغيرات كبرى لم يسبق لها مثيل منذ قرن من الزمان، كما دخلت علاقات الصين مع الجنوب العالمي عصرًا جديدًا، وهذا الوضع الجديد الذي يتسم بالفوضى المتشابكة والأزمات المتراكبة دفع دبلوماسية الدولة الكبرى ذات الخصائص الصينية بقيادة شي جين بينج إلى استكشاف الطريقة الصحيحة التي تمكن الصين من الانسجام مع الجنوب العالمي في الحقبة الجديدة.
ومع صعود القوة الوطنية الشاملة للصين ونفوذها الدولي، تواجه علاقات الصين مع دول الجنوب العالمي تناقضات وتحديات معقدة في العصر الجديد، فهي لا تواجه فقط تحديات العلاقات الدولية التقليدية مثل المنافسة بين القوى العظمى والصراعات الإقليمية والمنافسة للقيادة في الجنوب العالمي، ولكنها تواجه أيضًا تحديات عالمية جديدة مثل الأزمات، والجريمة العابرة للحدود الوطنية، وتغير المناخ، وصراعات الطاقة، والتحول الرقمي، فضلًا عن التحديات الداخلية الناشئة عن الظروف الوطنية الأساسية الراسخة والتاريخ والثقافة، وتنوع مسارات التنمية في بلدان الجنوب العالمي.
إن كيفية التغلب على العديد من المشاكل والتحديات، وتعزيز هوية الصين كشريك طبيعي لدول الجنوب، وتعزيز الوحدة والتعاون في الجنوب العالمي، هي التي سعت إلى تنفيذها الخطوط العريضة لدبلوماسية الدولة الكبرى ذات الخصائص الصينية بين الصين والجنوب العالمي في العصر الجديد.
ومنذ المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني، وفي مواجهة الأوضاع الجديدة التي تتشابك وتلتهب فيها التغيرات العالمية الكبرى التي لم يسبق لها مثيل منذ قرن والاستراتيجية الشاملة للتجديد العظيم للأمة الصينية، التزمت دبلوماسية الدولة الكبرى ذات الخصائص الصينية ببناء نوع جديد من العلاقات الدولية وبناء مجتمع مصير مشترك للبشرية. وبتوجيه من مفهوم مجتمع ذي مصير مشترك للبشرية الذي أطلقه الرئيس شي والذي يمثل أحد أسس الخطوط العريضة لهذه الدبلوماسية، اخترقت علاقات الصين مع دول الجنوب العالمي الإطار الدبلوماسي السابق القائم على القومية وأنشأت فلسفة محايدة توازن بين العولمة والقومية والتي تفضي إلى الوئام بين الدول.
ويمكن تلخيص سمات دبلوماسية الدولة الكبرى ذات الخصائص الصينية كما في شكل (١) إلى مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية وفلسفة الحياد، ويتشابك الاثنان مع بعضهما البعض، بما يحقق المصلحة الوطنية للصين ودول الجنوب العالمي والمصلحة العالمية.
شكل (١): العلاقة المتشابكة بين سمات دبلوماسية الدولة الكبرى ذات الخصائص الصينية
إن المنطق الأساسي لفلسفة الحياد هو الالتزام بنظرة “الصين” للعالم على أساس مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية، وتعزيز منهجية “الانسجام والوئام” كجوهر للتعلم المتبادل بين الحضارات. وفي هذا السياق، تعارض الصين جميع أشكال الأحادية والحمائية والهيمنة وسياسات القوة، وتعارض تشكيل المعسكرات والتحالفات التي تستهدف بلدانًا معينة. وتدعو إلى السلام والتنمية والإنصاف والعدالة والديمقراطية والحرية، وتعزز بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية. وفي الوقت نفسه، تعتبر القومية أساس تطور وازدهار علاقات الصين مع الجنوب العالمي، وهي “طريق السلام” بين الصين والجنوب العالمي الذي له مصالح عالمية واضحة.
كما أن مفهوم مجتمع المصير المشترك للبشرية يعارض نظرية صراع الحضارات وكل أنواع النظريات “الاستثنائية” و”المعايير المزدوجة” التي نشهدها حاليًا في الحرب على غزة والحرب الأوكرانية، ويدعو إلى نظرة حضارية جديدة تقوم على المساواة والتعلم المتبادل والحوار والتسامح، فهو يعزز التبادلات بين الحضارات التي تتجاوز الحواجز الحضارية، والتعلم المتبادل بين الحضارات الذي يتجاوز الصراعات الحضارية، والتعايش الحضاري الذي يتجاوز التفوق الحضاري. كما تعكس فلسفة الحياد لدبلوماسيتها التوازن بين المصلحة العالمية والمصالح الوطنية، وهي الطريقة الصحيحة لتتوافق الصين مع الجنوب العالمي في العصر الجديد.
وعند النظر إلى هذا التوازن بين المصلحة العالمية والمصالح الوطنية، نجد أن هذه الدبلوماسية تسعى إلى التنمية كأولوية أساسية في علاقاتها مع دول الجنوب، والتي تعتبر جزء لا يتجزأ من المصالح الوطنية لدول الجنوب العالمي وأيضًا المصلحة العالمية التي تتعلق بالتنمية العالمية والعولمة وكيفية القضاء على فجوة التنمية وفجوة التحديث بين الشمال والجنوب، فتعزيز التحديث وبناء شراكات للتنمية العالمية يساهم في توطيد مصالح شركاء الجنوب العالمي والبناء المشترك لمجتمع التنمية العالمية، وهذه هي المهام الأساسية للدبلوماسية الصينية في الجنوب العالمي في العصر الجديد.
وقد أطلق شي جين بينج مبادرة الحزام والطريق عالية الجودة ومبادرة التنمية العالمية، والتي ساهمت في تعزيز التعاون الفعال مع دول الجنوب العالمي من حيث رأس المال والتكنولوجيا والمواهب من خلال منصات التعاون الدولية والإقليمية والثنائية ومتعددة الأطراف، مع التركيز على تحسين بناء البنية التحتية ومستوى التنمية الاقتصادية في البلدان النامية، والعمل المشترك على تنمية متطلبات السوق الجديدة، وإطلاق زخم جديد للتنمية الدولية، وتوسيع مساحة التعاون بين الصين والجنوب العالمي.
وعلى الجانب الأمني المتعلق بالمصالح الوطنية وأيضًا المصلحة العالمية، نجد أنه على الرغم من حصول دول الجنوب العالمي علي الاستقلال، إلا أنها لا تزال توجه تحديات وتهديدات تتعلق بالأمن التقليدي وغير التقليدي، بما في ذلك التحديات الأمنية التقليدية الناجمة عن المظالم التاريخية، والنزاعات الإقليمية، والصراعات الدينية والعرقية، فضلًا عن الأمن الاقتصادي، وأمن سلاسل التوريد، والإرهاب، والأمن غير التقليدي، ويعد كيفية تعزيز أمن دول الجنوب العالمي وتعزيز الوحدة والتعاون بين دول الجنوب العالمي مطلبًا ملحًا.
إن تعزيز التعاون الأمني العالمي، وبناء حاجز أمني قوي للشركاء الطبيعيين، والبناء المشترك لمجتمع أمني عالمي، هو محور تركيز دبلوماسية الصين مع الجنوب العالمي في العصر الجديد. وفي هذا الصدد، اقترحت الصين مبادرة أمنية عالمية، ومن خلال الممارسة النشطة لمفهوم أمني جديد مشترك وشامل وتعاوني ومستدام، تلتزم الصين باستكشاف الإدارة الشاملة للقضايا الإقليمية الساخنة في القضية النووية لكوريا الشمالية، والملف النووي الإيراني والأزمة الأوكرانية. كما لعبت دورًا نشطًا في القضايا الإقليمية الساخنة مثل عملية السلام في الشرق الأوسط مثل مصالحة بكين بين إيران والسعودية وأيضًا اجتماع بكين الأخير بين الفصائل الفلسطينية المتنازعة لتوحيد الصف الفلسطيني.
وفي الوقت نفسه، تشارك الصين بنشاط في التعاون الأمني في إطار المنظمات الدولية وآليات الأمن الإقليمي مثل الأمم المتحدة، ومنظمة شنغهاي للتعاون، وآلية الثقة المتبادلة والتشاور الآسيوية، والتحديات الأمنية العالمية المشتركة في تغير المناخ العالمي، وتحويل نمط الطاقة، وإدارة الذكاء الاصطناعي وتعديل سلاسل التوريد العالمية.
وأخيرًا، إن الوقود الروحي لدبلوماسية الدولة الكبرى ذات الخصائص الصينية، يقوم على تعزيز التبادلات الثقافية والتعلم المتبادل بين الصين ودول الجنوب العالمي، والذي يحقق الوئام والانسجام لفلسفة الحياد ومجتمع المصير المشترك. فعلي سبيل المثال، اقترحت الصين مبادرة حضارية عالمية تقوم على تعميق التعاون الدولي والتبادلات الشعبية على أساس المساواة، وتعزيز القيم المشتركة للسلام والتنمية والإنصاف والعدالة والديمقراطية والحرية للبشرية.