اتجاهات متداخلة: لماذا قناة الجزيرة مستمرة في لهجتها العدائية ضد القاهرة؟

يؤكد الخطاب الإعلامي لقناة الجزيرة خلال ربع قرن -هو عمر القناة منذ إنشائها عام 1996- أنه متماه مع الخطاب الرسمي القطري، ودائما ما يسير كلاهما جنبًا إلى جنب، إذ ينعكس ذلك جليا، بانتقال الخلافات القطرية مع الدول الأخرى بالتبعية إلى المعالجات الإعلامية التي تكتسي بحلة قطر الأيدلوجية.

في الوقت الذي اتخذت فيه الدول العربية (السعودية، الإمارات، البحرين، مصر)، خطوات عمليّة للتصالح مع قطر، بداية بانعقاد القمة الخليجية41، وما أعقبها من فتح للحدود، وتسيير خطوط الطيران، والتمهيد لاستعادة طبيعة العلاقات السياسية والدبلوماسية، ضمن مساعي تأكيد انفراج الأزمة الخليجية، أثار استمرار قناة الجزيرة، خاصة “الجزيرة مباشر” في تبني اللهجة التحريضية ضد الدول سالفة الذكر، الكثير من ردود الأفعال والتكهنات حول مدى رضوخ القائمون على إدارة القناة لبنود المصالحة، والحرص على إتمام المصالحة، ولماذا لم تتخذ الدوحة خطوات جادة تجاه تلك القناة، تؤكد من خلالها حسن نيتها في المضي قدما بهذا الاتجاه؟!

لماذا يستمر التحريض؟

إلا أن الإجابة على مثل هكذا تساؤل، يتطلب استعادة الذاكرة للأسباب التي كان دافعة لبروز هذا الخطاب التحريضي بالأساس، وهي أسباب رصدتها العديد من الدراسات- العربية والأجنبية- والتي توصلت إلى أنه عادة ما ارتبط دور قناة الجزيرة في إثارة الخلافات وتوتير العلاقات ونشوب الصراعات، بإتباع إستراتيجيات ترويجية –مغلوطة- للأوضاع سلبية، من خلال الترويج الكاذب لعوامل عدم رضا، بل والإمعان في تضخيم الأحداث، ونشر مفاهيم خاطئة، والتهويل والمبالغة المقصودة في عرض المشكلات، لتأجيج المظالم وتسريع التصعيد ضد الأطراف وبعضها البعض، سيما في الدول التي منها عناصر تنظيم الإخوان الإرهابي اللذين صدرتهم تلك الفضائية كمذيعين على شاشاتها.

لقد أرادت قطر عن طريق قناة الجزيرة، ممارسة الابتزاز الإعلامي، مثلما تمارس الدول الكبرى الابتزاز السياسي والاقتصادي تجاه دول أخرى، ويأتي ذلك الدور، ضمن مزيج استراتيجي توظفه الدوحة ضمن جهود أخرى، من قبيل احتضان عناصر تنظيم جماعة الإخوان، ومن منهم عليهم أحكام قضائية بسبب ارتكابهم أعمال إجرامية في حق دولهم، هذا بالإضافة إلى دعم الجماعات المسلحة، والتنظيمات والإرهابية، في سبيل امتلاك أدوات فاعلة، تمنحها القدرة على الهجوم والمناورة في مواجهة ما تعتبرهم خصوم لها في المنطقة، في الوقت عينه، تحرص القيادة القطرية على أن تبدو الدوحة عاصمة كبرى، لديها نفوذ متوسع في المنطقة والعالم، حتى لو كان وهميا.

وبالتالي من الصعب تخلي قيادة قناة الجزيرة ومذيعوها وفريق إعدادها عن الدور الذي تؤديه قناة الجزيرة، مما يجعل المطالبات العربية -السابقة والحالية- بوقف الخطاب التحريضي للقناة، بمثابة حديث بعيد عن الواقعية، في ضوء توافر اعتبارات وأسباب تعزز فرص استمرار ذلك النهج العدائي دون تغيير، يأتي من أهمها:

أن الدوحة أرادت بإتمام المصالحة، تغيير الواجهة الصدامية والصراعية التي تكتسي بها العلاقات مع دول الحصار الأربع، مع الإبقاء على عوامل الضغط التي تمكن قطر من الاستدارة، في حال ما واجهت صعوبات في الواقع المستجد، فيما بعد إتمام المصالحة.

أن قناة الجزيرة وجدت بالأساس لتبقى أهم الأدوات الهجومية في ممارسة الضغط على الخصوم، وهو دور اعتادت على ممارسته منذ انطلاقها، إذ تولت عملية إيصال الرسائل القطرية بكل كفاءة؟، مما جعل القناة إحدى نقاط الخلاف والتوتر المستمر بين قطر والدول العربية.

الابقاء على الدور القطري فاعلا ومؤثرا، فلا يزال للدوحة مخالب قط، فدائما ما كانت قناة الجزيرة مصدر بالغ الأهمية في تمديد النفوذ القطري في المنطقة، استنادا إلى التأثير في القاعدة الجماهيرية.، فكيف يمكن هل يمكن لقطر التنازل على حظوة قناة لجزيرة؟

تريد الدوحة تأكيد الإدعاء، بأنها غير ملتزمة بتغيير الخطاب الإعلامي لقناة الجزيرة، وأن للقناة سياستها المستقلة.

وبالتالي من المستبعد تغيير نهج الجزيرة، والذي سيظل على ما كان عليه، رغم أنها فقدت كثير من مصداقيتها، منذ التحيز الفج، الذي مارسته في تغطية أحداث الثورات العربية، بداية من عام 2011، وإلى الآن، ما يجعل حديث قناة الجزيرة عن المصالحة الخليجية، إلا مرحلة ظرفية، في سياق أجواء القمة الخليجية، ولعل خطاب القناة-خاصة الجزيرة مباشر- بعد المصالحة، لا يحتاج إلى بيان.

مصداقية على المحك: 

كثيرة هي الأدلة التي يمكن أن تساق لتراجع الدور الذي كانت تمارسه قناة الجزيرة من قبل، فلم يعد لديها ذات القدرة على التعبئة والحشد، والتأثير على الرأي العام، ولم تعد مياه الإعلام العربي راكدة، مثلما كان من قبل.

أيضا لم يعد الجمهور العربي في غالبيته، ينطوي عليه الشعارات الزائفة، والأباطيل التي تسثير فيه العاطفة، بعدما باتت الحقائق واضحة على الأرض، وعززها ما يكشف عنه من الوثائق والتسريبات، وهي وإن طالت الكثير، كان من بينها ما يخص قناة الجزيرة، والتي كشفت وثائق وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة “هيلاري كلينتون”، عن أنه لطالما كانت الجزيرة موجهة أمريكيا، وأداة لتقسيم منطقة الشرق الأوسط، ومعول هدم وتخريب للدول العربية.

من ناحية أخرى سقطت قناة الجزيرة في فخ الإزدواجية- ولطالما كانت كذلك- عندما اختفت معايير المصداقية في معالجة الشؤون الخاصة بدول المقاطعة، والمتابع للممارسات الإعلامية خلال الأزمة الخليجية، يلحظ بسهولة النبرة العدائية، وتصاعدا خطاب الكراهية، سواء في قناة الجزيرة، أو في المضامين التي تنشرها المواقع الإلكترونية القطرية وصقحات التواصل الاجتماعي التابعة لها.

خطوات تكتيكية:

سقوط القناة الجزيرة في فخ المصداقية يبشر بمخاطر حول الجدية نحو المساعي التصالحية، بابقائها على تلك الخطابات التحريضية، وهو ما يعزز التكهنات التي تحدثت عن فشل قيادة القناة في تغيير سلوكها العدائي تجاه الدول العربية، وأن هدوء “القناة” أثناء عقد المصالحة لم يكن سوى خطوة تكتيكية، أرادت الدوحة من خلالها استعادة علاقات ما قبل الأزمة من ناحية، وتفكيك التحالف الذي شكل ضدها منذ عام 2017، من ناحية أخرى، ومن دون تقديم تنازلات، خاصة تلك المتعلقة بقناة الجزيرة، وهو ما أكده وزير الخارجية القطري “محمد بن عبدالرحمن”، في حديثه لذات القناة، أن موضوع قناة الجزيرة لم يتم طرحه في القمة الخليجية41.

وقد أظهرت المعالجات الإعلامية التي قدمتها قناة الجزيرة بعد قمة العلا، غياب أي التزام من قبل أدارة تلك القناة باستحقاقات المصالحة، وافتقادهم للجدية في مسألة وقف التصعيد الإعلامي، وإن مارسته بنوع من الإزدواجية، إذ تراوحت حدته هبوطا مع السعودية واستمرارا على حاله مع الإمارات، وصعودا مع المنامة والقاهرة، فحتى الآن يصعب الإمساك بأي أدلة على تفاعل إيجابي من قبل قناة الجزيرة تجاه مصر خصوصا، ولا يزال الخطاب التحريضي ضد القاهرة هو السائد، مما يعكس وضعا مغايرا تماما لمخرجات قمة العلا 2020، ويبقى السؤال هل أدارات الدوحة ظهرها لمقررات تلك القمة، بعدما تحقق لها ما أرادت؟!.

رهان خاسر:

يشير واقع الحال، ومن دون انتظار وترقب، أن إدارة قناة الجزيرة تمارس سياسة برجماتية فجة، إذ لم تبادر إلى الآن بإثبات حسن نواياها، وبالتالي من يراهن على الوقت لتغيير سياسات المحطة القطرية، وتغيير لغة الخطاب التحريضية لها، هو بلا شك رهان خاسر، فالمهمة لم تنجز بعد!!

لعل من شواهد ذلك، أنه سبق وتعهدت قطر في عام 2014، بوقف قناة الجزيرة عن السلوك المعادي والتحريض، ولكنها لم تلتزم، وفي عام 2008، أصرت قطر على رفض توقيع وثيقة البث الفضائي في المنطقة العربية، التى أصدرتها الجامعة العربية، حتى لا تكون مُلزمة بأى شىء مما جاء فيها.

ختاما: إن تركيز الدوحة الشديد على قناة الجزيرة، يرتبط بالأساس بقناعة قادتها التامة بحدود إمكانيات قطر الجيولوبتكية، والتي تجعل من القناة أداة غاية في الأهمية في مواجهة التحديات المستقبلية، سيما بعدما كشفت أزمة الحصار عن تراجع فاعلية الدور القطري. وفي النهاية، يمكن القول إن المحك الرئيسي لقادة قناة الجزيرة يظل في تغير السلوك الإعلامي لبرامج القناة من خلال التوقف عن نشر أخبار كاذبة عن بعض الدول العربية، والكف عن إظهار العداء، ووقف خطاب التحريض ضد الدول المعنية.

د. عبد الناصر سعيد

خبير مشارك- حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية , حاصل على في ماجستير الإعلام ,حاصل على ماجستير في العلوم السياسة , باحث مشارك في عدد من المراكز البحثية السياسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى