هل كان “طوفان الأقصى” بديلًا للانقلاب العسكري؟
قراءة في عقل الدولة العميقة في إسرائيل
مع إعلان حكومة بنيامين نتنياهو الائتلافية التي تضم حزبي الصهيونية الدينية والقوة اليهودية، وأدائها اليمين الدستورية في التاسع والعشرين من ديسمبر 2022، اختصر جهاز أمان (شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية التابع لهيئة أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي) التحديات الخارجية أمامها بثلاث، وهي العلاقات الدولية المضطربة، إيران، والداخل الفلسطيني، وكان أول من شَعر بخطورة تلك الحكومة الأكثر تطرفًا، المؤتمن على قدس أقداس الدولة الإسرائيلية أفيف كوخافي رئيس الأركان.
فقد بادر بمكالمة نتنياهو قبل تشكيل الحكومة في محاولةٍ منه لعرقلة البنود الإشكالية في الاتفاقيات الائتلافية المتعلقة بإخضاع الإدارة المدنية (في الضفة الغربية) لـ”بتسلئيل سموتريتش” (وزير المالية) زعيم حزب الصهيونية الدينية، وحرس الحدود لإيتمار بن غفير(وزير الأمن القومي) والمُنتَمي لحزب القوة اليهودية، حسبما ذكرت يديعوت أحرونوت، وذهبت هآرتس إلى ما هو أبعد من ذلك وأخطر، عندما أشارت إلى التنازلات التي أقدم عليها نتنياهو، والتي من شأنها أن تُقوض سلطات الجيش ووزارة الدفاع، وكذلك سلسة القيادة داخل “جيش الدفاع الإسرائيلي”، حيث أضُيفْت للمرة الأولي إلى الهرمية العسكرية جهات خارجية، وتخوفت من المساس بمؤسسة القضاء عن طريق حصانة الجنود، فكما اشترط بن غفير سيتم التصديق على تشريع يُقلص إمكانية تقديم الجنود إلى المحاكمة بسبب نشاطات عملياتية، كما تخوفت أيضًا من صدور قانون يعفي الشباب المتدين من الخدمة في الجيش، وهو ما يقوض قدرة الجيش على زيادة عدد المجندين في صفوفه، وهكذا أصبحت حكومة نتنياهو غير مقبولة من المجتمع الإسرائيلي قبل أن تصبح مرفوضة خارجه.
“حراس البوابة”.. كيف تشكلت الدولة العميقة في إسرائيل؟
ارتبط مصطلح الدولة العميقة في بداية ظهوره بالجمهورية التركية، وتتشكل الدولة العميقة من مجموعات مؤثرة من ضباط الجيش والشرطة وأجهزة الاستخبارات والأمن، ومسئولين كبار في الجهاز القضائي ورجال أعمال، وأصبح مصطلح الدولة العميقة مُستخدمًا بكثافةٍ في العقود الأخيرة، فقد صرح نتنياهو مرارًا وتكرارًا أنه لا توجد ديمقراطية في إسرائيل، فكل شئ تحت هيمنة البيروقراطين والقانونيين.
في العقود الأولى من تاريخها، خضعت الدولة الإسرائيلية لهيمنة الحزب الواحد بحكم الأمر الواقع على الرغم من وجود انتخابات، فحزب ماباي (العمل) ظل يحكم منفردًا منذ عام 1948، وحتى عام 1977، وعلى مدار الثلاثة عقود شّكل جميع أجهزة الدولة، وخضعت له جميع المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية الرئيسية وأجهزة الأمن والاستخبارات، وكذلك وسائل الإعلام، وسيطر على الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية “الهيستدروت” سيطرة أتاحت له تشّكيل الثقافة العامة في البلاد، وكانت النخبة الحاكمة تتكون من اليهود الأشكيناز الذين هاجروا إليها من أوروبا وأمريكا، وأدى اليهود الشرقيين “السفرديم” دور الوسيط بين النخبة الأشكنازية القومية الحاكمة والسكان الفلسطينيين الأصليين، وعلى الرغم من أن تاريخ إسرائيل لا يعرف الانقلابات العسكرية، فإن الجيش قام ويقوم بدور استثنائي في تاريخ وحاضر ومستقبل الدولة والمجتمع الإسرائيليين، وبعد عام 1983 تولى ثلاثة جنرالات رئاسة الوزراء اسحاق رابين وايهود باراك وإريل شارون،وتولي الجنرال السابق عزرا وايتسمان رئاسة الدولة، وانتقل معظم رؤساء الأركان مثل حاييم بارليف، ومردخاي جور، وروفائيل إيتان، وأمنون ليبكين شاحاك، وبيني جانتس من الخدمة العسكرية إلى العمل السياسي في الوزارات المختلفة، ويشغل العسكريون المتقاعدون تلقائيًا مناصب في مجالس إدارات الشركات ورؤساء البلديات وكذلك في بعض أقسام الجامعات، وتتولي المؤسستان العسكرية والأمنية ما يخص الشأن الفلسطيني، ثم ما يخص لبنان (حزب الله) وسوريا وبالتأكيد إيران.
وتقوم أفرع المخابرات (الموساد والشاباك وأمان) بجمع المعلومات وتحليلها، وتمتلك مراكز دراسات بموازنات ضخمة، وتجند العملاء، وهناك حقيقة لا مراء فيها داخل إسرائيل أن الحكومات تخضع لرؤية وخطط ضباط الجيش والمخابرات، وأن الوزراء مجرد واجهات للتصديق على ما يقرره هؤلاء، وليس سرًا أن بن غفير وزير الأمن القومي يأخذ إذنًا قبل اقتحام المسجد الأقصى من الشباك.
وقد كان أفيجدور ليبرمان يهدد ويتوعد ويزعم أنه لو كان صاحب قرار لفعل كذلك، خاصة ما يخص قطاع غزة، وعندما أصبح وزيرًا للدفاع في الفترة بين 2016 إلى 2018، ابتلع الرجل التهديدات والعنتريات والمزايدات الإعلامية، ولا يوجد تفسير لذلك إلا أنه جلس مع الضباط الكبار وحصل على معلومات بحقيقة الأوضاع الميدانية والحسابات العسكرية والأمنية التي لا يمكن نشرها، فاقتنع بوجهة نظرهم، وأدرك أن هؤلاء يملكون من المعلومات عنه شخصيًا وعن ملفات فساده، وكذلك النفوذ وعوامل القوة ومفاعيلها المتراكمة عبر العقود، ما يجعل منه أو من أي شخص يجلس مكانه غير ذي صلة بالقرارات الحساسة، خاصة وأنه من خارج المؤسسة العسكرية ولم يتدرج فيها مثل رابين أو إيهود باراك، والنتيجة أن مجموعة من ضباط الدولة العميقة هي من تملك مفاتيح الذهاب إلى حرب وحجمها وتوقيتها وكذلك مدتها، شاء الجالس بمكتب وزير الدفاع أم أبي، وهكذا تشكلت الدولة العميقة في إسرائيل والمعروفة عند الإسرائيليين بـ”حّراس البوابة”.
كيف تشكلت دولة نتنياهو؟
مرت إسرائيل بمراحل سياسية كانت أُولها مرتبطة بنشأة الدولة من خلال شخصية بن جوريون وسياساته والتي شملت قيام الدولة الإسرائيلية ومشروع التطهير العرقي للفلسطينيين، وهجرة مئات الآلاف من اليهود إلى الدولة الوليدة من الشرق والغرب، وحاول بن جوريون تشكيل هوية مشتركة للمجتمع الجديد، وقام مع شركائه بتشكيل مؤسسات الدولة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعسكرية، وشمل ذلك منع الفلسطينيين اللاجئين من العودة لديارهم، وشن الحروب على الجوار العربي، ووضع أسس العلاقات الداخلية والخارجية، وهو ما يمكن وصفه بالجمهورية الأولى.
وجاءت المرحلة الثانية عقب الانقلاب السياسي وصعود حزب الليكود الذي نشأ عام 1973 باندماج تنظيمات وتكتلات سياسية يمينية صهيونية أبرزها حركة أرض إسرائيل الكاملة، حزب حيروت الذي أسسه مناحم بيجين عام 1949، والذي تعود جذوره إلى حركة بيتار أو حزب الإصلاح والذي أسسه المفكر الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي ذو الأصل النمساوي عام 1925، الذي يؤمن بفكرة اسرائيل الكبرى، وخصوصية الأمة اليهودية وضرورة بعث وإحياء تراثها، وتبنى الحزب الاتجاه اليميني المتطرف، ووضع لنفسه عدة أسس تشكل دستوره وتوجهه المذهبي والسياسي، وأهمها إيمانه بما يسمى بـ”إسرائيل التاريخية”، وتهجير اليهود إليها، وكذلك منّح الفلسطينيين حكمًا ذاتيًا مع الاحتفاظ بكل ما يتعلق بالأمن والخارجية، والدخول في مفاوضات ثنائية مباشرة مع دول الجوار العربي، وتوقيع معاهدات منفردة، إضافة إلى حرية الاستيطان واستمراره.
وتغيرت تركيبة الحزب من حزب إيديولوجي عقائدي إلى حزب تهمين عليه الفئوية، خاصة المستوطنين المتشددين، مما دفع الحزب لتبني خطاب سياسي تصادمي داخلياً وخارجياً، وزاد هذا التحول بعد العمل بنظام الانتخابات الداخلية لاختيار مرشحي الحزب، مما أعطى التيار الأكثر تشددًا داخل المستوطنات تأثيرًا كبيرًا داخل الحزب، وخاض حزب الليكود انتخابات 1977 بقيادة مناحيم بيجين واستطاع تشكيل تحالف مكْنه من قيادة الحكومة لأول مرة في تاريخ إسرائيل منهيًا سيطرة حزب الماباي (العمل) على السلطة، وقام الليكود بإجراء سلسلة من التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية في إسرائيل، مما يمكن أن نطلق عليها الجمهورية الثانية، التي تميزت بتشكيل تحالف قوي مع المتدينين، وزيادة حركة الاستيطان في الضفة وغزة والقدس، والحرب المفتوحة مع الفلسطينيين حتى طُردت منظمة التحرير من لبنان إلى تونس، ورغم ذلك لم يستطع الليكود السيطرة تمامًا على مفاصل الدولة والحكم وإحداث تغير نوعي وجدي في إسرائيل، وذلك بسبب نتائج الانتخابات حتى بداية القرن الحادي والعشرين والتي تأرجحت بين الليكود وشركائه من جهة، وحزب العمل وشركائه من جهة أخرى، من خلال دولة “حراس البوابة”.
حتى جاءت المرحلة الثالثة مع صعود نتنياهو إلى السلطة مرة أخرى بعد أن خسرها أمام إيهود باراك عام 1999، وشهدت تلك المرحلة زيادة الدعم لليمين الإسرائيلي، وتكوين ما يمكن تسميته بالكتلة اليمينية المهيمنة من الليكود وأحزاب اليمين التي تمثل المستوطنين وكذلك الممثلة للحريديم في إسرائيل مثل يهوديت هتوراه وأغودات إسرائيل وحزب شاس، ومكنت تلك الكتلة حزب الليكود بقيادة نتنياهو من صياغة رؤية تدريجية لإحداث التغيرات المطلوبة في إسرائيل أو ما يمكن أن نطلق عليه دولة نتنياهو أو النتنياهونية (Netanyahu-ism) على حد تعبير الباحث أسعد غانم.
وبدأ نتنياهو التخطيط بعد تنحيته عن السلطة في 1999 عقب فوز إيهود باراك، من خلال إجراءات سياسية تمنع عودة حزب ماباي للحكم، وتنفي إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة.
وشملت التغيرات الوظيفة العامة، أو الدولة العميقة بعد تغير القوانين وبرامج التعليم وزيادة حيز الدين والقيم المحافظة في المجال العام ولاسيما الجيش، والذي تغير تدريجيًا بسبب وصول متدينين قوميين ملتزمين إلى مراتب قيادية، وإحداث تغيرات في الجامعات من خلال حركة “إم ترتسو” التي لاحقت طلاب اليسار والعرب، وقامت بمراقبة المُحاضِرين، بالإضافة إلى تغير الثقافة السياسية السائدة، والإعلام من خلال إصدار صحف ووسائل اتصال حديثة معبرة عن أفكاره، ويأمل نتنياهو بالوصول إلى السيطرة على “أرض إسرائيل” ومنع إقامة دولة فليسطينية، وتغير إسرائيل من الداخل لتصبح أكثر محافظة ويمينية تعتمد على قيم الجماعة اليهودية، وتبعدها عن مشروع النخب الأشكنازية الغربية التي قامت عليها الدولة الإسرائيلية، وهكذا تشكلت الجمهورية الثالثة أو دولة نتنياهو التي وصلت للحكم والسلطة رسميًا عقب انتخابات 2009، ثم أصبحت الكتلة المسيطرة حيث لا حكومة إسرائيلية مستقرة بدون اليمين ومركزه الليكود، بعد سيطرة أتباعه على السياسة والثقافة وطبقة الموظفين الكبار، والقيادات الصاعدة من الجيش والشرطة، وتغيرت توجْهات الأحزاب الدينية من الوسط الإسرائيلي إلى اليمين المتطرف، فجميع الحكومات الإسرائيلية خلال الجمهوريتين الأولى والثانية كانت بمشاركة الأحزاب الدينية، وكانت جزءًا من ائتلافات حزب العمل، ثم انتقلت لتشارك الليكود حكوماته بعد 1977، ثم تأرجحت تلك الأحزاب بين الحزبين أثناء الحكومات الائتلافية، ولكنها جميعًا وبعد الصعود الثاني لنتنياهو2009 تغيرت جذريًا.
وإجمالًا؛ فإن الأحزاب الدينية والتي كانت جزءًا من الوسط الإسرائيلي في الجمهوريتين الأولى والثانية، أصبحت جزءًا مهمًا من كتلة اليمين مما ساعدها على الوصول والاستمرار في وضعية السيطرة التامة، وشهدت تلك الفترة إضفاء الشرعية على اليمين العنصري عام 1984، بعد نجاح حركة كاخ العنصرية في دخول الكنيست عن طريق زعيمها ومؤسسها مائير كهانا، قبل منعها بقرار حكومة الوحدة الوطنية التي شكلها الليكود والعمل عام 1988، واتخذ الكنسيت قرارًا بمنع ترشيح كل من يرفض إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية ويحرض على العنصرية، وبعد محاولات متكررة من قبل أحزاب اليمين المتطرف، نجح نتنياهو في بناء ائتلاف مشترك بين حزبي “الصهيونية الدينية” بقيادة بتسلئيل سموتريتش و”قوة يهودية” بقيادة إيتمار بن غفير، وقد نجح في الفوز بأربعة عشر مقعدًا في انتخابات نوفمبر2022، مما سهل على نتنياهو بناء تحالف يميني بالكامل، وساهم في قيادة اليمين لوزارات حكومية رئيسية مثل المالية وكذلك الأمن القومي والأمن الداخل، وساعد على ذلك ضمور اليسار الإسرائيلي إلى حد اختفاء بعض مكوناته.
وشكلت التغيرات الديمغرافية داخل المجتمع الإسرائيلي أحد أهم العوامل في صعود اليمين، حيث المجموعات التي تشعر بتهميشها، بل والإساءة إليها من قبل المؤسسين اليسار والعلمانيين والأشكيناز، تلك المجموعات التي تُشّكل الأغلبية في إسرائيل الحالية أو “دولة نتنياهو”، وتم ذلك في إطار من صعود اليمين الشعبوي في العالم وصعود تيارات مماثلة في مراكز اتخاذ القرار في أوروبا والهند وروسيا وأمريكا اللاتينية، وكان المثال الأبرز انتخاب الرئيس ترامب في الولايات المتحدة.
صراع “حُرَاسْ البوابة” مع دولة نتنياهو
في عام 1996 وبشكل لم يكن متوقع للكثيرين، فاز بنيامين نتنياهو بأول انتخاب مباشر لمنصب رئيس الوزراء في تاريخ إسرائيل، بعد الفوز على شيمون بيريز، فقد كان نتنياهو شخصية قادمة من خارج النظام السياسي، وكان والده بنصهيون نتنياهو السكرتير الشخصي لمنظّر الجناح اليميني بالحركة الصهيونية فلاديميرجابوتنسكي، ولفترة طويلة كانت العدو الأول للنخبة القومية الاشتراكية الحاكمة في إسرائيل، وعلى الرغم من خدمة نتنياهو في وحدة النخبة للقوات الخاصة “سايرت ماتكال” وحصوله على رتبة ضابط، فإنه لم يصبح من النخبة العسكرية.
وبعد ذلك هاجر نتنياهو إلى الولايات المتحدة، وعاد في أواخر الثمانينيات وبدأ مسيرة ناجحة في حزب الليكود انتهت بالفوز في انتخابات 1996، وعقب الانتخابات كتب المستشرق الروسي الإسرائيلي ميخائيل ماجد واصفًا رئيس الوزراء الجديد “إن الكتلة اليمينية المنتصرة تُوحد حول نفسها، أولئك الذين عانوا في أوقات مختلفة حكم الصهاينة الأشكيناز المتعالين،أو يعتبرون أنفسهم ورثة الضحايا”، وكان هذا التعبير الأكثر إثارة للقلق، وفور انتخابه عام 1996 دخل نتنياهو في صراع مع قيادة الجيش وقيادة الخدمات الخاصة، فمن بين 17 من كبار القادة الأمنيين الذين عملوا معه كان 13 منهم ينتقدون سياسته إلي الحد الذي وقع العشرات من كبار ضباط الجيش والمخابرات، وقبل أربعة أيام من انتخابات 2015 على رسالة مفتوحة تطالب بإقالة نتنياهو.
وأثبت نتنياهو قدرته على الرد بشكل مباشر، وتمكن في عام 2007 من تمرير قانون يسمح للجنود المتقاعدين بالترشح للمناصب العامة بعد ثلاثة أعوام فقط من تقاعدهم، وأصبح القانون أحد ميادين المواجهة الشرسة، حيث وجه نتنياهو وأنصاره الاتهامات بالانغلاق والتحيز لهذا النظام.
وطوال سنوات حكمه حاول نتنياهو وأنصاره تغيير نظام تعيين قضاة المحكمة العليا لتشمل الليكود وأنصاره، وفتحت النيابة العامة والمحاكم عددًا من القضايا الجنائية ضد أعضاء من حكومة نتنياهو، فاتُهم وزير الداخلية السابق آرييه درعي بارتكاب جرائم اقتصادية، واُتهم وزير العمل والضمان الاجتماعي السابق حاييم كاتس بالاحتيال، ووزير الصحة الأسبق ياكوف ليتسمان بخداع الجمهور، ووجهت عدة تهم لنتنياهو نفسه في استهداف لقادة “دولة نتنياهو” لأسباب سياسة كما يعتقد أنصارها.
واستخدم نتنياهو في محاربة الدولة العميقة نفس أساليبها، مثل الاتصالات غير الرسمية ودعم الحلفاء في مجال الأعمال والدعاية المضادة، وتمكن نتنياهو وبفضل راعيه الأمريكي الراحل شيلدون أديلسون من كسر احتكار الدولة العميقة للإعلام وأصدر صحيفة إسرائيل هيوم المجانية والتي أصبحت أكثر الصحف انتشارًا في إسرائيل.
وبعد توحد غير مسبوق لأحزاب المعارضة وتغير القيادة الأمريكية وحرب فاشلة مع حماس تمكْن معارضو دولة نتنياهو من إزاحتها عن السلطة بعد تشكيل ائتلاف لابيد-بينيت، مما جعل الكاتب في صحيفة هآرتس رون كهليلي يقول إن تلك الحكومة هي أكثر حكومات إسرائيل أشكينازية منذ عقود وتضم جميع أطياف المجتمع الاشكينازي من اليمين والوسط واليسار، بدون اليهود الشرقيين، فكل رؤساء الكتل المتحالفة أشكيناز مثل لابيد وبينيت وجانتس، وشركائهم من الأحزاب اليهودية الروسية، ومثلت تلك الحكومة نموذج إسرائيل القديمة، ووصفت وسائل الإعلام الليبرالية معارضي نتنياهو بمؤيدي السلام والديمقراطية ومكافحي الفساد، وامتدحت صحيفة بوليتيكو الأمريكية رئيس الموساد السابق مائير داغان عند مواجهته لنتنياهو، رغم أن رئيس الوزراء السابق نفتالي بينت ومن بعده يائير لابيد ليسوا من دعاة السلام ولبعضهم آراء يمينية ربما أكثر بكثير من نتنياهو، وانتهى التقسيم التقليدي في إسرائيل بين معسكري اليمين واليسار في السياسة الإسرائيلية بل وفقد معناه، وأصبحت المواجهة بين النخب القديمة (دولة حراس البوابة) ودولة نتنياهو.
هل كان طوفان الأقصي بديلاً للانقلاب العسكري؟
مع تشكيل نتنياهو للحكومة بالاشتراك مع الأحزاب الدينية اليمينية بعد انتخابات نوفمبر2022، اقترحت الحكومة تعديلات قانونية تحت عنوان رئيسي ملخصه تحرير السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية من الرقابة القضائية، من خلال إفقاد قضاة المحكمة العليا صلاحياتهم، بقانون يعطي المشرعين الحق بإعادة سَنْ قانون ألغته المحكمة العليا من قبل، بمجرد تحقيق الأغلبية داخل الكنيست أي الحصول علي61 صوتًا، يستطيع النواب وباغلبية بسيطة رفض قرارات المحكمة العليا، كما يستطيع القانون حال إقراره تجريد المحكمة من سلطة إلغاء القوانين التي يسنها الكنيست، ويحد من صلاحيات المحكمة في إسقاط القوانين التي ترى أنها غير دستورية، كما يعطل القانون حجة “عدم المعقولية” التي تُعتبر الأداة القانونية بيد المحكمة العليا لإلغاء قرارات الحكومة، والتي اعتمدت عليه المحكمة في إلغاء تعيين آرييه درعي وزيرًا في حكومة نتنياهو، كما يعطي الحكومة صلاحيات أوسع على لجنة اختيار القضاه بما فيها المحكمة العليا، عبر إعادة تشكيل تلك اللجنة المسئولة عن اختيارهم، مما يعني تسييسًا للجنة التي كانت تضم تسعة أعضاء من نقابة المحامين والحكومة والكنيست والجهاز القضائي، كما أعطى مشروع التعديلات لرئيس الوزراء وأعضاء الحكومة الحق في رفض توصيات المستشار القضائي، مما يشكل المدخل لإعفاء نتنياهو من الأحكام القضائية حال إدانته بالفساد، إذ سيعفي القانون بمجرد سريانه رئيس الحكومة والوزراء والنواب من المحاكمة ما ظلوا في وظائفهم، ودفعت طبيعة الائتلاف اليميني الذي تتكون منه الحكومة إلي إقرار الإصلاحات القضائية وذلك بسبب القرارات السابقة للمحكمة بإلغاء مشروعات القوانين ذات الطابع الديني.
انتفضت دولة حراس البوابة ممثلة في أحزاب اليساروالوسط،وأركان الدولة العميقة التي تشمل قيادة الجيش والمخابرات والشرطة،بالاضافة إلي معاهد الأبحاث والمؤسسات الأكاديمية،لمواجهة رغبة ومخطط دولة نتنياهو في تغيرالنظام القضائي ومن وراءه النظام السياسي كاملاً، التي بدأت منذ عقدين من الزمن وبالتحديد منذ خطة الانسحاب أحادي الجانب عن قطاع غزة،وشارك كبار جنرالات الجيش الإسرائيلي في تلك التظاهرات أمثال دان حالوتس رئيس الأركان السابق ويوفال ديسكين رئيس الشاباك السابق،وعَمِلت علي خلق رأي عام مضاداً للقانون،من خلال القوي اليسارية والجمعيات والنقابات،وقادت الاحتجاجات المناهضة لمشروع القانون،وشاركها في ذلك وسائل الإعلام الكبري،بما فيها تلك الصحف والقنوات العامة المملوكة للدولة،وكذلك المؤسسات بما فيها المؤسة العسكرية من خلال رفض ألاف الجنود والضباط الالتحاق بالخدمة العسكرية،التي تري أن اليمين الاسرائيلي يأخذاسرائيل إلي الهاوية ،وكذلك رداً علي هجمات اليمين الإسرائيلي ضد المؤسسة العسكرية التي تعود لعام 2010،بعد رفض قادتها بمشاركة قادة الموساد والشباك شن هجوم علي إيران،ووصلت هجمات اليمين علي المؤسسة العسكرية إلي حد اتهامها بالتنازل عن العقيدة القتالية وغياب الشجاعة والاقدام تجاه العدو،كما حدث في مخيم جنين وقطاع غزة وعلي الحدود اللبنانية.
وامتدت الاحتجاجات والمظاهرات لشهور ضد “دولة نتنياهو”، رفضًا لتغيير النظام القضائي، بل ولإعادة تعريف الهوية الإسرائيلية، ونتج عنها تعليق مناقشة التعديلات وأُجْبرت دولة نتنياهو على تعليق القراءات اللاحقة للقانون أمام الكنيست.
وفي السابع من أكتوبر 2023 شنت “حركة المقاومة الاسلامية” (حماس) هجومها التاريخي الاستراتيجي والذي شمل هجومًا بريًا وبحريًا وجويًا وتسللًا للمقاومين على عدة مستوطنات غلاف غزة، أسفر عن مقتل 1200 إسرائيليًا بين جنود ومستوطنين، وكذلك أسر250 محتجزًا من المدنيين والعسكريين، فيما عُرف بـ”طوفان الأقصى”، وقامت إسرائيل بالرد بما سمي بعملية “السيوف الحديدية” والتي مازالت أحداثها جارية بعد مرور ما يقرب من مائة وسبعين يومًا خَلفت مايقرب من 32 ألف شهيد فلسطينيًا حتى كتابة هذا المقال، وحولت قطاع غزة إلى مكان غير قابل للحياة، وبمرور الوقت بدأت تتكشف العديد من الحقائق التي تشير إلى أن أجهزة الدولة الإسرائيلية كانت تملك معلومات عن تلك العملية قبل وقوعها.
وذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن المخابرات العسكرية الإسرائيلية حصلت على وثيقة في نحو 40 صفحة تتحدث عن تفاصيل الهجوم نقطة بنقطة، قبل أكثر من عام على السابع من أكتوبر، وجرى تداولها في دوائر الجيش والاستخبارات الإسرائيلية باسم “جدار أريحا”، ولم تذكر إذا كان نتنياهو علم بها أو اطلع عليها.
وفي يوليو من العام الماضي حذرت محللة من وحدة النخبة 8200 من تدريبات عسكرية أجرتها حماس تشبه ما تحدثت عنها وثيقة “جدار أريحا”، وذكرت المتدربة في رسائل بريد إلكتروني أنها خطة لحرب وليس لهجوم على قرية.
وتلقى جيش الاحتلال الإسرائيلي إشارات استخباراتية بوجود استعدادات بالليلة التي سبقت الهجوم، حسب ما صرح به المتحدث باسم الجيش.
وحذرت المخابرات الأمريكية في الثامن والعشرين من سبتمبر 2023، أي قبل الهجوم بأيام واستنادًا إلى مصادر متعددة عن استعداد حماس لتصعيد الهجمات الصاروخية عبر الحدود، وفي الخامس من أكتوبر حذرت برقية من المخابرات المركزية بشكل عام من تزايد احتمالات “العنف” من جانب حماس، وفي السادس من أكتوبر وزع المسئولون الأمريكيون تقارير تشير إلى نشاط غير عادي من جانب حماس، ورغم ذلك لم تدفع القيادة الإسرائيلية بأية تعزيزات صوب الجنوب.
عبرت لينور سابينيك المجندة الإسرائيلية السابقة عن شكوكها من وجود شخص أو مؤسسة تساعد على الهجوم، كما أكد دانيال جانيت القائد السابق بوحدة جولاني، أن ما جرى كان نتيجة تعاون داخلي، إذ من غير المعقول أن لا يكون الجيش والمخابرات على علم بذلك من الناحية الاستخبارتية.
أن أشخاصًا يعملون بالبورصة والأسواق المالية الإسرائيلية كانت على علم بـ”طوفان الأقصي”، وجَنوا المليارات من توظيف تلك المعلومات حسب التقرير المكون من 66 صفحة والذي أعده روبرت جاكسون من جامعة نيويورك وجوشوا ميتس من جامعة كولومبيا، حسب تقرير صحيفة هآرتس الإسرائلية.
تأخر الجيش الاسرائيلي في الرد على الهجوم لمدة تزيد عن الأربع ساعات، واستغرق إخراج مقاتلي حماس من المستوطنات التي دخلوها يومين كاملين، اعتمدت فيها بعض المناطق على قوات الحماية المدنية.
ختامًا: بمرور الوقت أصبح من المؤكد أن الدولة العميقة في إسرائيل من الجيش وأجهزة الاستخبارات، بل وبعض العاملين بالمؤسسات المالية، كانت تمتلك الكثير من المعلومات، وعلى أقل تقدير المؤشرات المؤكدة على تخطيط حماس لعملية طوفان الأقصي قبل وقوعها بمدة لا تقل عن عام، بل ورأت تدريبات حماس على تلك العملية من خلال مجسم مستوطنات غلاف غزة الذي أنشئته للتدريب، بل يعود تفكير حماس في تنفيذ الهجوم إلى عام 2014 كما صرح العديد من قادة حماس، وأن حدثًا كهذا لا يجوز أن يحدث، ففي اللحظة التي يقترب فيها أحد من الجدار يتم استدعاء قوة عسكرية، هذا جدار حساس، فكيف يحدث ذلك حسب ما صرحت به كورال إحدى المجندات السابقات.
فهل سمحت دولة حراس البوابة بـ”طوفان الأقصى” في إطار صراعها مع دولة نتنياهو كبديل للانقلاب العسكري كما روج اليمين الإسرائيلي المتطرف؟، حيث “علم الجيش والمخابرات بالهجوم ولم يفعلا شيئاً لمنعه، وليكن معلوماً لديكم أننا في 7 أكتوبر عشنا انقلابًا عسكريًا بقيادة هيرتسي هليفي (رئيس الأركان)الذي امتنع عن تبليغ رئيس الحكومة بالهجوم، وأن الانقلاب لم ينته ولم يكتمل، إنها طغمة عسكرية حاكمة” علي حد وصف يوسي شحبر أحد نشطاء اليمين على منصة X.