لماذا سمحت فرنسا بانقلاب الجابون؟
بملامح عابثة ووجه مرتبك ووضعية جلوس تظهر مدى الضعف، وعدم السيطرة على ما يحدث، ظهر رئيس الجابون السابق علي بونجو في مقطع فيديو يناشد فيه العالم والأصدقاء التحرك والتدخل للقضاء على الانقلاب العسكري، الذي أطاح به وأنهى حكم عائلته الممتد لأكثر من نصف قرن.
وكان من المثير للدهشة أن يتوجه علي بونجو والمعروف وعائلته بارتباطهم الوثيق بفرنسا، بنداء الإغاثة باللغة الإنجليزية، وهو الذي يقترن بزوجة فرنسية، ومن قبل تلقى تعليمه في باريس، فقد كان يطلب الإنقاذ من دول الكومنولث، وليس من الحليف الفرنسي التاريخي، وهو الذي تلقى علاجه من قبل من جلطة دماغية في السعودية، وقضي فترة النقاهة في المغرب، فهل دار بخلده أن هذا الحليف يقف وراء الانقلاب عليه؟
وقبل ذلك بأربعة عشر عامًا اختار والده الرئيس عمر بونجو أن يتلقى العلاج في أحد مستشفيات برشلونة بدلاً من باريس، وأُعلن خبر وفاتِه منها، بعد علاقة خاصة مع باريس امتدت لما يزيد عن خمسة عقود، تداخلت فيها المصالح السياسية والشخصية في مؤشر على توتر أصاب العلاقات التاريخية بين الحليفين.
يناقش المقال التالي العلاقات الفرنسية بعائلة بونجو، ومؤشرات تخلي فرنسا عن تلك العائلة، وأسباب ذلك وصولاً للإجابة عن السؤال الرئيسي للمقال وهو؛ هل لفرنسا دور في الإطاحة بعائلة بونجو نهاية أغسطس الماضي؟
تطور علاقات فرنسا بعائلة بونجو:
كان عمر بونجو عقب توليه السلطة في الجابون خلفًا للرئيس الأول بعد الاستقلال بات ليون، عراب تيار “فرانس أفريك” أو “إفريقيا الفرنسية”، وآخر الزعماء الكبار في إفريقيا، وهو صاحب فكرة أن إفريقيا بدون فرنسا كسيارة بدون سائق، وفرنسا بدون إفريقيا سيارة بدون وقود، في إشارة إلى عمق العلاقات بين ليبرفيل وباريس، إلى الحد الذي أشارت فيه تقارير إعلامية كثيرة إلى أن عمر بونجو تدخل كثيرًا في مُجريات الحياة السياسية الفرنسية،
وأقام علاقات كثيرة مع الطبقة السياسية في باريس بكافة أطيافها، واشتري ذممًا كثيرة باستعمال عائدات النفط، لدعم بعض المرشحين في سباق الرئاسة الفرنسية، فقد كشف الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان أن عمر بونجو مول الحملة الانتخابية لجاك شيراك عام 1981، واستغل بونجو تلك العلاقات وما يملكه من أسرار حول ساسة فرنسا في الملفات التي تهمه شخصيًا، إلى حد الاستجابة له بتنحية مسئولين من مناصبهم بسبب مواقف أو تصريحات لم ترق له.
وسمح الرئيس عمر بونجو للشركات الفرنسية بالهيمنة واستغلال ثروات الجابون من اليورانيوم والنفط والخشب، كما وفر قاعدة خلفية لتحركات باريس في بيافرا النيجيرية زمن الحرب الأهلية، وكذلك القضاء على محاولة زعزعة استقرار بنين، وساهم قرب عمر بونجو من دوائر صنع القرار في باريس في تثبيت ركائز حكمه، من خلال القاعدة العسكرية بالعاصمة ليبرفيل، والتي كان من مهامها غير المعلنة حماية الحليف الوفي، وبدأت هذه العلاقة تأخذ مسار عكسي منذ تسعينيات القرن الماضي بعد فضيحة شركة إلف آكتين البترولية، بالاستيلاء على أكثر من 300 مليون دولار من أموال الشركة، وقد اتهم فيها رجال أعمال وساسة فرنسيين وأفارقة، من بينهم وزير الخارجية الفرنسي رولان ديما وكذلك الرئيس الجابوني عمر بونجو وعدد من أفراد أُسرته وبعض الشخصيات المقربة.
وفي عهد الرئيس نيكولاي ساركوزي أعلنت فرنسا شعار القطيعة مع سياستها الإفريقية السابقة والتي كانت تقوم علي الاعتبارات الشخصية، إلى الحد الذي سمحت فيه الإدارة الفرنسية برفع قضايا أمام القضاء الفرنسي بتهم الفساد والإثراء غير المشروع، واستغلال النفوذ ضد عائلة بونجو وشخصيات قريبة منها.
وبعد وفاة الرئيس عمر بونجو عام 2009 وصول ابنه علي بونجو إلى الرئاسة بعد انتخابات طالها الكثير من الانتقادات، وشبهات التزوير والتلاعب في النتائج لصالح الوريث مما زاد من توتر العلاقات مع فرنسا، وسعى الوريث إلى تغيير سياسة الأب تجاه فرنسا، مما زاد الجفاء بينهما.
واتخذ الابن العديد من الإجراءات بهدف تقليم أظافر فرنسا، فاعتمد جملة من الإصلاحات الضريبية الموجهة إلى الشركات الفرنسية، خاصة شركتي توتال وإيراميت اللتين كانتا تهمينان على حقول النفط والتعدين في الجابون، وأدخل نظام المنافسة في القطاعات الاستخراجية من خلال دعوة الشركات الصينية والهندية، بل ذهب إلى ما ذهب إليه الرئيس الرواندي بول كاجمي بإدخال اللغة الإنجليزية كلغة أساسية في التعليم والإدارة، والانضمام إلى رابطة الكومنولث التي تضم الدول الناطقة بالإنجليزية.
مؤشرات تخلي فرنسا عن عائلة بونجو:
منذ انفجار قضية شركة إلف اَكتين البترولية في تسعينيات القرن الماضي، ظهرت العديد من المؤشرات عن تخلى فرنسا عن عائلة بونجو وانخفاض مستوى العلاقات معها، خاصة في أواخر عهد الرئيس الجابوني السابق عمر بونجو، حيث سمحت السلطات الفرنسية برفع دعاوى قضائية ضد العائلة ومقربين منها أمام القضاء الفرنسي، والتي استمرت حتى بعد وفاة بونجو الأب، بالإضافة إلى التشكيك الفرنسي الدائم في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها بونجو الإبن، إلى الحد الذي دفع الجابون لاستدعاء سفيرها في باريس يناير 2016، بعد تصريحات رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فانس بأن بونجو انُتخب بطريقة غير ديمقراطية، أو على الأقل ليس كما يفهمها.
أسباب تخلي فرنسا عن عائلة بونجو:
يمكن إجمال دوافع التخلي الفرنسي عن عائلة بونجو، على النحو التالي:
(&) العلاقات مع الصين: منذ توليه السلطة خلفًا لوالده عام 2009 زار الرئيس علي بونجو الصين خمس مرات، وكان أول رئيس يستقبله الرئيس الصيني شي بعد إعادة انتخابه في مارس الماضي، مما ساهم في تعزيز العلاقات بين البلدين حتى أصبحت الصين الشريك الاقتصادي الأول للجابون خلال التسع سنوات الماضية حتى بلغ التبادل التجاري بينهما 4.5 مليار دولار عام 2022.
وفي زيارة الرئيس بونجو للصين في إبريل الماضي، تم الاتفاق بين البلدين على رفع العلاقات إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية الشاملة بعد انضمام ليبرفيل إلى مبادرة الحزام والطريق عام 2018، كذلك أعطى بونجو موافقته للصين على إنشاء قاعدة بحرية تابعة للمجمع العسكري الذي تديره بحرية جيش التحرير الشعبي الصيني، لتصبح القاعدة الصينية الأولى على شواطئ الأطلسي، والثانية في إفريقيا بعد قاعدة جيبوتي في خليج عدن. وقد أثار المشروع قلق كل من فرنسا وأمريكا إلى الحد الذي دفع الكونجرس لاستجوب الرئيس السابق للقيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) ستيفن جيه تاونسيد، حول الوجود المحتمل لبكين في خليج غينيا.
كما أرسل الإليزيه الأدميرال بير فاندير رئيس أركان البحرية السابق إلي ليبرا فيل لمحاولة ثني بونجو عن هذا المشروع.
(&) الانضمام للكومنولث: على الرغم من عدم وجود أية رابطة تاريخية بين الجابون وبريطانيا، انضمت الجابون إلى مجموعة الكومنولث التي ترأسها بريطانيا في يونيو من العام الماضي في اجتماع المجموعة في كيجالي برواندا، والذي يعد بمثابة خروج من محور باريس، ولم يكتف بونجو بذلك بل سمح للجيش الأمريكي بتدريب الجيش الجابوني، وكذلك أعلن اللغة الإنجليزية لغة أساسية في التعليم والإدارة.
كيف سمحت فرنسا بانقلاب الجابون:
على الرغم من روابط عائلة بونجو بفرنسا منذ تجنيد بونجو الأب من قِبل رجل المخابرات الفرنسي الشهير جاك فوكارو المعروف بالسيد أفريك إلا أن المنطق السياسي لا يقيم وزنًا لذلك إذا أصبح يمثل خطرًا على مصالح فرنسا، التي لم تكن راضية عن الرئيس علي بونجو، وكانت راغبة بتغييره خشية انقلاب أو ثورة مباغته تؤدي لانهيار النظام، بسبب قضايا الفساد المالي والسياسي لعائلة بونجو، وآخرها انتخابات الرئاسة التي عقدت قبل أيام من الانقلاب.
وكذلك جاءت إدانة فرنسا للانقلاب ناعمة ولا تعدو عن كونها تعبيراً تقليديًا لإخفاء تحركاتها السرية، التي بدأتها قبل شهر من إجراء الانتخابات، بتسليم الحرس الجمهوري في الجابون أربع مركبات مدرعة فرنسية من طراز AML-90 وقد تسلمها بونجو بحضور مسئولين رفيعي المستوي من بينهم قائد الانقلاب الجنرال بريس أوليجي نجيما قائد الحرس الجمهوري، كما جاء رد الفعل الفرنسي على الانقلاب العسكري في الجابون مغايرة تمامًا عن رد الفعل الهستيري الذي أصاب الدولة الفرنسية عقب انقلاب النيجر، فلم تلجأ إلى التشدد في الموقف ضد الانقلاب، ولم يصدر عنها سوى تصريح واحد على لسان أوليفيه فيران الناطق باسم الحكومة، بأن باريس تدين الانقلاب العسكري الجاري حاليًا وتبدي تمسكها بالمسارات الانتخابية الحرة والشفافة، ولم تطالب بعودة علي بونجو إلى الحكم كما حدث مع الرئيس النيجري محمد بازوم، والذي تعتبره الرئيس الشرعي للنيجر حتى الآن، في موقف أقرب إلى تأييد الانقلاب بالجابون، مقارنة بموقفها من انقلاب غينيا كناكري، كما أعادت سلطات الانقلاب الجديدة عمل وسائل الإعلام الفرنسية والتي أوقفها علي بونجو أثناء الانتخابات الرئاسية الأخيرة والتي أعلن فوز بونجو بولاية رئاسية ثالثة قبل يوم من الانقلاب عليه.
وكان لافتًا أن أول لقاء مع وسائل الإعلام العالمية لقائد الانقلاب الجنرال بريس أوليجي نجيما كانت مع صحيفة “لوموند” الفرنسية، كما لم تطالب التظاهرات المؤيدة للقادة الجدد بخروج القوات الفرنسية من الجابون أو قطع العلاقات معها كما حدث من قبل في النيجر ومالي وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى، وذهب العديد من المراقبون الفرنسيون إلى أن الانقلاب جاء استباقًا لحراك شعبي ربما كان سيطيح بكل أركان نظام عائلة بونجو بمن فيهم قادة الانقلاب العسكري، وكان لافتًا دعوة الصين، في بيان وزارة الخاجية، الأطراف المعنية بالجابون إلى العودة للنظام الطبيعي فورًا وضمان سلامة الرئيس علي بونجو.
وختامًا؛ في تصريحات صحفية أشار الجنرال السابق في الجيش الفرنسي والخبير في العلاقات الدولية فرنسوا شوفاني عن استغرابه من ادعاء فشل المخابرات الفرنسية في توقع انقلاب الجابون، مؤكدًا أن أجهزة الاستخبارات أرسلت بالفعل تقارير انقلاب الجابون إلى قصر الإليزيه، لكنها لم تلق الاهتمام أو الآذان الصاغية، وبحسب الجنرال فرنسوا لا يمثل انقلاب الجابون انتكاسة لفرنسا، بل فُسر ذلك بسماح فرنسا بحدوث الانقلاب على علي بونجو الذي لم يكن ديمقراطيًا، بالمعايير الفرنسية علي الأقل.
وفي خلاصة الأمر لا يمكن اعتبار انقلاب الجابون واحد من الانقلابات التي حدثت ضد فرنسا في الفترات الأخيرة في إفريقيا، وبادل قادة انقلاب الجابون الموقف الفرنسي بمرونة مع الغرب الذي بادلهم الأمر ذاته.
ويشير التعامل الفرنسي الهادئ مع أحداث الجابون ناتج من تصدي باريس لاحتمال حدوث انقلاب خارج إرادتها، بإعطاء الضوء الأخضر لانقلاب عسكري داخل عائلة بونجو بما يشبه انقلابات القصر برعايتها، لاستعادة الجابون إلى الرابطة الفرنسية.