مكاسب الحوثي من العمليات العسكرية في البحر الأحمر
جاءت مشاركة جماعة الحوثي في الوضع القائم ضد الاحتلال الإسرائيلي، لصالحها علي كافة الأصعدة، مع التأكيد علي وجود أضرار ناجمة لاشك، إلا أننا في هذا التحليل سنكون بصدد المكاسب فقط. فمن خلال العزف علي وتر الملاحة في البحر الأحمر والتي تعد صلب الملاحة والتجارة الدولية، لذا تدخلها لدعم غزة باستخدام هذا المسار الحساس كان فرصة مناسبة لحشد القاعدة الداخلية حولها مرة أخري من خلال إعادة تأكيد التزامها بأهدافها الأيديولوجية، أولا في اليمن، ثانيا في الإقليم ككل. فكان إعلان الحوثي عن اختطاف أو منع السفن الإسرائيلية أو التابعة لها في مياه البحر الأحمر، يأتي في مقابل وقف العدوان علي غزة وانسحاب جنود الاحتلال كليا وإدخال المساعدات بشكل فوري ومستمر.
لقد شجعت أيديولوجية الجماعة علي (المقاومة ضد قوي الاستكبار والإمبريالية)، وتبنت في خطاباتها الحث علي دعم القضية الفلسطينية وتحرير الأقصى. ولطالما سعت لنشر ذلك في الداخل اليمني لكي تحشد الشعب حولها وتضم الشباب داخل صفوفها، ومؤخرا كانت تعاني من بعض الاضطرابات الداخلية بسبب تراجع الانضمام إليها، إلي جانب تصنيفها عالميا كونها تنظيم إرهابي في وقت ما.
ومع تغيير الغالبية العظمي من الرأي العام العالمي لصالح القضية الفلسطينية وانقلابه علي الرواية الإسرائيلية، ظهر دعم عالمي أيضا للعمليات الحوثية ضد الاحتلال الإسرائيلي. حيث بدأ النظر إليها علي أنها الفاعل الوحيد من دون الدول الذي تدخل ضد هذا المحتل الصهيوني ليقف بجوار الشعب الفلسطيني.
استنادا إلي ما سبق، ما هي الأيديولوجية التي تدفع بالحوثي للانخراط في هذا المشهد وما المكاسب التي جناها من تدخله ضد هذا العدوان، في حين أنه ما زال القصف الصهيوني مستمرا، إلي جانب حشد تحالف دولي بحري بقيادة واشنطن للتصدي للتهديدات الحوثية في البحر الأحمر؟
استراتيجية الحوثي تجاه إسرائيل:
تقوم استراتيجية جماعة الحوثي تجاه الكيان الصهيوني على بعدين أساسيين، هما:
(*) النشأة العقائدية: للنشأة العقائدية لجماعة الحوثي دور كبير في تكون استراتيجيتها تجاه الكيان الصهيوني، حيث تعود جذور تلك النشأة إلى كونها جزءا من المذهب الزيدي، وهو أحد امتدادات الإسلام الشيعي والأقرب من الناحية الفقهية إلى الإسلام السني. ويتسم المذهب الزيدي تاريخيا بطابع التمرد على الظلم -الخروج على الحاكم الظالم-. وتعود جذوره إلى ثورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، في الكوفة، ضد الحكم الأموي في القرن 8 الميلادي ومقتله على يد والي الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك. وبدأت الحركة الحوثية أطوارها الأولي في بداية التسعينيات ولفتت الأنظار إليها أكثر بعد تزايد نشاط الشبان المنخرطين في صفوفها حيث كانوا يقومون بترديد هتافات (الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل)، والذي تم اتخاذه شعارا دائما لهم فيما بعد. وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وما تلاها من غزو أمريكي لأفغانستان والعراق، اتبع زعيم الحركة حينئذ، حسين الحوثي، نهجا فكريا جديدا جمع بين (إحياء العقيدة ومعاداة الإمبريالية) متأثرا بفكر الثورة الإسلامية في إيران، وكان نشاطهم في البداية يقتصر على الدفاع عن حقوق أبناء منطقة صعدة (اجتماعيا وتعليميا وسياسيا). وفي عام 2004 تحولت الحركة إلى تنظيم مسلح، في خضم المواجهات مع القوات الحكومية اليمنية، وهو العام الذي قتل فيه حسين الحوثي ليخلفه شقيقه الأصغر عبد الملك الحوثي في قيادة التنظيم. وأطلق عليه جماعة “أنصار الله”، كما مثّل سقوط حكم الرئيس علي عبدالله صالح عام 2012، فرصة ثمينة للحوثيين لتعزيز موقعهم ونفوذهم في اليمن. وفي عام 2014 زحف الحوثيون نحو العاصمة صنعاء وسيطروا عليها.
(*) الدوافع : كما ذكرنا سلفا أن أيدلوجية جماعة “أنصار الله” تقوم علي المقاومة ضد قوي الشر (أمريكا وإسرائيل) لذا بات شعارها هو (الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام). ولطالما بررت الجماعة تمردها في الداخل اليمني على أنه جزء من مشروع المقاومة. وعندما بدأ العدوان على غزة، كانت تلك لحظة مناسبة بالنسبة إليهم لحشد قاعدتهم من خلال إعادة تأكيد التزامهم بهذه الأهداف الأيديولوجية، والتي في مقدمتها القضية الفلسطينية.
الحوثي والعدوان الإسرائيلي علي غزة:
في ظل استمرار آلة الدمار الإسرائيلية الشنيعة في قطاع غزة والتي لا تُبقي ولا تذر، ومنع دخول المساعدات الإنسانية، وقفز الكيان المحتل علي كل المواثيق والقوانين الدولية والإنسانية، ما كان من جماعة الحوثي إلا أن تتعهد بمواصلة استهداف الأراضي المحتلة والسفن الإسرائيلية أو المتجهة إليها، حتى يتوقف هذا العدوان. فقد أطلقت جماعة صواريخ وطائرات مسيرة إلى إيلات، تلاها التهديد بضرب السفن الإسرائيلية المارة في البحر الأحمر، في ظل تطور ملحوظ لترسانتهم العسكرية والتكنولوجية. “.
ففي منتصف نوفمبر 2023، أعلن زعيم جماعة أنصار الله، عبد الملك الحوثي، أن “عيون الجماعة مفتوحة لرصد أي سفن تعود ملكيتها أو تتبع لشركات إسرائيلية”، ردا على العدوان الإسرائيلي الوحشي علي قطاع غزة، قبل أن توسع عملياتها تجاه كل السفن المتجهة للكيان الصهيوني. ومن ثم تصاعدت الأحداث في منطقة البحر الأحمر، بعد أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن تشكيل تحالف دولي متعدد الجنسيات لحماية التجارة البحرية في المنطقة، ومع ذلك أكدت الجماعة على المضي قدما في عملياتها العسكرية تجاه السفن المتجهة نحو الأراضي المحتلة. وقد هاجم الحوثيون عدة سفن بالقرب من باب المندب، واحتجزوا سفينة جالاكسي ليدر، والتي قيل أنها تعود ملكيتها إلي رجل أعمال إسرائيلي، كما منعت الجماعة أيضا سفينتين قالت إنهما إسرائيليتان من المرور وهما نمبر ناين، ويونتي إكسبلورر، وفي 9 ديسمبر 2023، صعدت جماعة الحوثي تهديدها البحري بمنع مرور كافة السفن المتجهة إلى الكيان الصهيوني، إذا لم يتم إدخال المساعدات الإغاثية إلي قطاع غزة، وستصبح تلك السفن “هدفا مشروعا لهم” بحسب تصريحهم. هذا التصعيد لاقى تنديدا من الولايات المتحدة وعدة دول غربية، والتي وصفت تلك الأفعال ب”القرصنة” وبأنها تشكل “تهديدا لأمن الملاحة في البحر الأحمر”، بينما توعدت بالرد عليها بقوة في عدة تصريحات رسمية.
وقد أبدت جماعة الحوثي رفضها أن توصف عملياتها ب “قرصنة بحرية” أو “إرهاب بحري” وذلك علي لسان نائب رئيس الهيئة الإعلامية للجماعة، نصر الدين عامر، خلال حديثه ل بي بي سي، وأضاف إن “هذا التصعيد جاء بمثابة خطوة شرعية ضمن عملية عسكرية معلنة ومشروعة، من أجل تشكيل ضغط سياسي واستراتيجي وعسكري على إسرائيل لوقف الحرب ورفع الحصار”. مؤكدا علي ” أننا نقوم بواجبنا من منظور أخلاقي وقيمي، ونحن جزء من حلقة تدافع عن الشعب الفلسطيني، ولنا الحق في مساندته، وأن الوقوف مع فلسطين هو نقطة تحظى بالتوافق والالتفاف الشعبي في اليمن”.
كما شددت جماعة الحوثي على أنها ملتزمة بأمن واستقرار الملاحة في البحر الأحمر، إذ أنها لم تمنع أي سفن غير تابعة للكيان الصهيوني من المرور. وصرح نائب رئيس الهيئة الإعلامية للجماعة، نصر الدين عامر، “إن منطقة باب المندب منضبطة من قبل وزارة الدفاع اليمنية في صنعاء والجهات الرسمية”، موضحا أن “جماعة الحوثي جاهزة للرد على أي تصعيدات أو هجمات يمكن أن تُشن عليها، دفاعا عن موقفها المؤيد للفلسطينين في غزة، ومعتبرا وصول البواخر الأمريكية منذ بداية التصعيدات بمثابة فعل عدائي في المنطقة”.
مكاسب الحوثي:
تتمثل أهم المكاسب التي حققها الحوثي من عملياته العسكرية في البحر الأحمر، على النحو التالي:
(&) تغيير مسار السفن: منذ أن بدأ الحوثيون عملياتهم العسكرية في البحر الأحمر ضد السفن الإسرائيلية أو المتجهة إليها، أعلنت عدة شركات شحن تغيير مسار سفنها لتجنب المرور عبر مضيق باب المندب، الذي يعتبر ممرا يسمح للتجارة بين الشرق والغرب بالعبور من خلال قناة السويس لتوفير الوقت وتكلفة التشغيل، بدلا من الدوران عبر مضيق رأس الرجاء الصالح مما يعني تكاليف باهظة ووقت أطول.
(&) كسب الحشد الشعبي داخليا: من منطلق شعارات جماعة الحوثي التي أطلقتها في الداخل اليمني علي مدار سنوات واستخدام الخطابات الرنانة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والمتأصلة في وجدان الشعب اليمني، كان انخراط الحوثي في هذا المشهد فرصة كبيرة لكسب التأييد الشعب في الداخل اليمني، بعدما تراجع في الفترة الماضية، إضافة إلي تقديم الجماعة نفسها بصورة قوية علي أنها لاعبا إقليميا محوريا من دون الدول، حيث جاء هذا الانخراط بمثابة طوق النجاة للحوثيين وسط تدهور الأوضاع الاقتصادية في مناطق سيطرتهم خصوصا مع الإضراب الشامل للمعلمين، ومطالب الشعب بالخدمات، بجانب عدم قدرتهم على تشكيل حكومة جديدة بعد إقالة حكومة بن حبتور المتهمة بالفشل والفساد. ما جعل الجماعة تنجح في توظيف أحداث غزة للتحشيد صوب جبهات القتال بعد إفلاسها في حشد المقاتلين خلال الأشهر الماضية وتحديدا منذ بدء الهدنة الأممية في أبريل عام 2022. كذلك استعراض ترسانتهم العسكرية الآخذة في النمو التطوير.
(&) كسب التأييد خارجيا: هذا هو الجديد في الأمر، فمع تغير الرأي العام العالمي، خاصة الغربي لصالح دعم القضية الفلسطينية ومناهضة الصهيونية وداعميها، نجد لأول مرة تخرج تظاهرات غربية تحديدا في مدينة نيويورك الأمريكية في الأسبوع الأخير من ديسمبر 2023، تطالب اليمن بالمزيد من الهجمات ضد السفن الإسرائيلية أو المتجهة إليها كورقة ضغط لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات، بعدما فقدت تلك الشعوب الأمل في قياداتها أن تتوقف عن دعم إسرائيل وأن يتوقف العدوان علي غزة. شارك فيها العديد من الشعب الأمريكي في نيويورك، إلي جانب الجالية العربية.
(&) دعم عملية السلام في اليمن: إن استمرار العدوان علي غزة يصرف الأنظار عن النزاع في اليمن، وقد يستغل الحوثي الأحداث لممارسة المزيد من الضغط على السعودية بغية حصد تنازلات جديدة، وتحسين موقفهم التفاوضي.
(&) تأخر مباحثات التطبيع السعودية – الإسرائيلية: فبسبب العدوان الإسرائيلي علي قطاع غزة، قد يكون هناك تأخير في المباحثات السعودية – الإسرائيلية بشأن ملف التطبيع بينهما، في حين أنه لم يصدر بيانا رسميا عن إلغاء هذه المباحثات أو إيقافها، ما من شأنه أن يوفر مساحة لعملية السلام في اليمن، لأنه يقلل من الصدع المحتمل في العلاقات السعودية – الإيرانية، كون أن الأخيرة هي الداعم الرئيسي لجماعة الحوثي. ومن ثم توفير فرصة ملائمة للاتفاق بين الرياض وبين الحوثي في اليمن
(&) خدمة الأجندة الإيرانية وتعزيز دورهم في محور المقاومة: لاشك أن الهجمات الحوثية تخّدم علي مصالح إيران في المنطقة والتي هي الداعم الأول لجماعة الحوثي ولمحور المقاومة بشكل عام، وهذا الدور الذي تلعبه الجماعة ضد العدوان الإسرائيلي من شأنه أن يرفع الحرج ولو قليلا عن إيران التي لا تريد الانخراط مباشرة في الدخول في عمليات عسكرية حقيقية لدعم غزة، حتي لا يتم المساس بمصالحها الشخصية. إلي جانب تعزيز جماعة الحوثي كذراع قوي في محور المقاومة وفاعل مؤثر لا يستهان به.
وختاما، فإنه من المؤكد أن الهجمات الحوثية لم تكن لتوسيع دائرة الحرب وإنما لوقف العدوان علي قطاع غزة، ولكن مع استمرار الاحتلال الإسرائيلي في هجومه ووحشيته، فمن المرجح أن يستمر الحوثي بشكل متقطع في هجماته سواء بإطلاق الصواريخ والطائرات بدون طيار أو استهداف السفن المرتبطة بإسرائيل، لممارسة ضغط بصورة أكبر عليها لوقف العدوان. وهذه الهجمات والأضرار الناجمة عنها، قد تدفع بالسفن الحربية الأمريكية والتحالف الذي تم تشكيله إلى التدخل لكبح جماح قوات الحوثي البحرية وتستهدفهم بغارات تحت ستار الحفاظ على أمن البحر الأحمر. وهذا سيؤدي إلي تصعيد من نوع آخر إلي جانب عسكرة البحر الأحمر لفترة غير معلومة.