كيف يرى الرأي العام الغربي الهجوم على غزة؟

لم يكتفِ الغرب بالعنصرية وازدواجية المعايير في التعامل مع تداعيات حرب غزة، بل دأبوا طيلة الأسبوع الماضي من خلال تصريحات الساسة ووسائل الإعلام الغربية على تسويق صورة الحرب بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلي للرأي العام الداخلي على أنها حرب دينية بين المسلمين واليهود، في تضليل وإنكار واضح للقضية الفلسطينية ذاتها.
تأسيسا على ما تقدم، يلقي هذا التحليل الضوء على أهم الشواهد لترويج الغرب للقتال الدائر في غزة، بأنه نابع من دوافع دينية، ومدى تأثيرها على أرض المعركة.
تضليل واسع:
في تغاضٍ تام عما أفرزته عمليات القصف الوحشي التي قام بها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، وعما أقرته القوانين والمواثيق الدولية، فيما يتعلق بالخطوط الحمراء للحروب، وأخذ مواقع المدنيين في عين الاعتبار، لازالت الدول الغربية تحاول تبرير دعمها لإسرائيل، بحجة خوض الأخيرة لحرب دينية ضد الإسلام، ولعل أبرز ما يدعم هذا الطرح:
(*) توصيف غير مبرر: كانت البداية من تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في اليوم الأول من الاشتباكات، حيث ندد ماكرون بما وصفها بـ ” الهجمات الإرهابية ” على إسرائيل، كما أعلن عن عزم بلاده اتخاذ إجراءات صارمة تهدف إلى تعزيز الأمن في مناطق تجمع اليهود في فرنسا تعليقا على بدء عملية طوفان الأقصى.
(*) الحرص على تأمين مناطق اليهود وتخوفات من أنصار فلسطين: في خطوة مماثلة، أعلنت ألمانيا تشديد الإجراءات الأمنية في المعابد والمدارس والمعالم الأثرية اليهودية في البلاد، وأماكن تجمع اليهود عامة. وجاءت هذه الخطوة عقب احتفالات لبعض أنصار القضية الفلسطينية في شوارع برلين، فرحا بالهجوم المباغت الذي شنته حماس ضد دولة الاحتلال.
(*) استخدام مقصود للدين في الأزمة: تصريح وزير الخارجية الأمريكي “بلينكن” خلال زيارته لإسرائيل في ١٢ أكتوبر الجاري، إنه ” لم يأت إلى إسرائيل كوزير خارجية وإنما كيهودي فرّ جده من القتل “.
(*) إعادة سردية الإسلام في مواجهة اليهودية: تصريح النائب عن الحزب الجمهوري بالكونجرس الأمريكي ليندسي جراهام بـ ” إننا حين نكون في حرب دينية كتلك التي تدور في الشرق الأوسط الآن بين حماس وإسرائيل، فاني لا اخجل من إعلاني لانحيازي فيها إلي جانب إسرائيل. ويقصد بها حرب بين الإسلام واليهودية. كما دعا إسرائيل لتسوية غزة بالأرض.
(*) الترويج المغلوط بـ “ديمقراطية إسرائيل في مواجهة كراهية الفلسطينيين لليهود”: على نحو مشابه، اعتمد بايدن في خطاب له في ١٠ أكتوبر الجاري، لتبرير الجرائم الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني على أكاذيب واضحة ومضللة، وكان أهمها، تصريحه بأن “الفلسطينيين يعادون اليهود، وأن إسرائيل هي واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”. فتاريخيا، الفلسطينيون لم يُعادوا اليهود، الفلسطينيون عاشوا سويا مع اليهود والمسيحيين في فلسطين لآلاف السنين. ولكن الأمر حاليا مختلف، لأن الفلسطينيين يدافعون عن أراضيهم المحتلة.
(*) تشويه الصورة الذهنية عن الفلسطينيين لدى الطائفة اليهودية: اجتماع بايدن بزعماء الطائفة اليهودية تحديدا بالولايات المتحدة وبشكل منفرد، وتصريحه بأنه ” رأى صورا لإرهابيين وهم يقطعون رؤوس الأطفال “، إلا أن البيت الأبيض أعلن تراجعه عن تلك التصريحات في وقت لاحق، وأكد متحدث باسم البيت الأبيض قوله إنه “لا الرئيس بايدن ولا أي مسئول أميركي رأى أي صور أو تأكد من صحة تقارير بشأن ذلك بشكل مستقل “، وأن الرئيس بايدن استند في تصريحاته للرواية الإسرائيلية. إلى جانب نفي المقاومة الفلسطينية لهذه الادعاءات، ونشرها لفيديوهات تحاول من خلالها إثبات العكس فيما يتعلق بمعاملتها للأطفال.
وهذا كله يهدف إلى تشتيت أذهان الرأي العام الداخلي عن مجريات الحرب، ومجازر الاحتلال في غزة، وكله في الأخير يصب في إطار تصفية القضية الفلسطينية وأهدافها وثوابتها.
أهداف محددة:
من المعروف أن إسرائيل تحظى بتأييد واسع في الشارع الأمريكي، والغربي عموما، نظرا لما يسمونه ” القيم المشتركة “، حيث يرونها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وليس أدل على ذلك من تسابق الرؤساء على دعم إسرائيل على مدار التاريخ، ومشروعات القوانين وحزم الدعم التي يتم تمريرها بالكونجرس دليل أيضا على شعبية دولة الاحتلال بين جمهور الناخبين الأمريكان _ تحديدا _ في الغالب. وبايدن على مشارف سباق انتخابي في ٢٠٢٤، وبالتالي فهو يحتاج لتعاطف الرأي العام الأمريكي من جهة، ودعم اللوبي اليهودي من جهة أخرى.
وقد يشكل جزء من هذه الرؤية لدى الرأي العام الأمريكي، تحديدا أنه لا يعبأ كثيرا بملفات السياسة الخارجية، وتتشكل رؤيته غالبا وفقا لما يصدره الإعلام والمسئولون. وعليه، استمر الترويج لفرضية الحرب الدينية بين المقاومة وجيش الاحتلال منذ بدء الاشتباكات، الذي بدوره قد يؤشر إلى:
(&) يحاول القادة الغربيون تجنب أي انتقادات داخلية جراء دعمهم لإسرائيل، بتصويرها على أنها مضطهدة وفقا لاعتبارات دينية، وبالتالي التأكيد على الهدف النبيل لإسرائيل من القتال، وهم أيضا _ الغرب _ بدعمهم لها.
(&) الطرح السابق ذكره، يعتبر تشتيت لأهداف القتال الحقيقية ومبررات المقاومة، وصرف الاهتمام الدولي والشعبي عن القضية الفلسطينية التاريخية. كذلك، توسيع دائرة المهتمين والمتابعين للأحداث من قبل من ينتمون للديانة اليهودية وغيرها.
(&) من المعروف تاريخيا أن الحروب الدينية من أطول الحروب أمدا، ولهذا فقد تشير تصريحات وسياسات المسئولين الغربيين إلى أن الحرب في الراهنة في غزة، والقصف الإسرائيلي الوحشي على القطاع قد يستمر لفترة أطول مقارنة بالحروب السابقة بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال.
(&) ما سبق، يشير في مجمله إلى التخبط الحاصل في دوائر صنع القرار بالولايات المتحدة، وحجم النفوذ الذي يملكه اللوبي اليهودي، وهو واضح من خلال الدعم السياسي والعسكري والإعلامي لإسرائيل. بل وثبُت مدى تأثير الدعاية الإسرائيلية في المشهد السياسي في الولايات المتحدة، وأيضا في توجهات الرأي العام الأمريكي، والتي تزيد من الاحتقان والعنصرية تجاه كل ما هو عربي أو مسلم، مقابل تعاطف كامل مع إسرائيل.
وقد ساعد علي ذلك، وجود ضحايا أمريكيين جراء عملية طوفان الأقصى، من قتلى وجرحي وأسرى، فوفق ما أعلنه المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي، إن ” نحو ٢٢ أمريكيا قتلوا ، وهناك ١٧ آخرين في عداد المفقودين “. وقس على ذلك بقية الدول الغربية التي أعلنت عن ضحايا لها جراء أعمال القتال.
وهكذا، حولت القوى الغربية المشهد المأسوي الراهن في غزة إلى حرب دينية بين الإسلام واليهودية في تزييف تام للوقائع الجارية والتاريخية، وفي إحياء جديد لمقولات نظرية صدام الحضارات والأديان لصمويل هنتنجتون، التي كان ولازال يؤمن بها الغرب أجمع، ويجعلها منطلقا أول لسياساته الداخلية والخارجية، مهما أنكروا ذلك أو ادعوا التحضر.