أولويات وتحديات.. من أين يبدأ برلمان تونس؟
بعد انتخاب إبراهيم بودربالة (العميد السابق للمحامين) على رأس البرلمان التونسي الجديد يوم 13 مارس 2023 عادت الوظيفة التشريعية لمجلس النواب من جديد وبدأت تظهر ملامح المشهد السياسي القادم بنظام رئاسي وبرلمان، يعملان في شراكة وليس في تَبعيّة، وذلك من أجل مصلحة البلاد. ويتكوّن البرلمان الجديد من عدة تيارات: ليبراليون انتسبوا سابقا إلى حركة نداء تونس وحصلوا على حوالي ثلث المقاعد، وليبراليون قريبون من رئيس الجمهورية مثل “حراك 25 يوليو” رغم مواقفهم النقدية تجاهه أحيانا، وقوميون عُرُوبيون قريبون من الرئيس قيس سعيد مُنْضوون تحت مجموعة “لينتصر الشعب” و”حركة الشعب”، ومستقلون وبعض الإسلاميين والقريبين منهم الذين ترشحوا بصفة مستقلة وحصلوا كلهم على حوالي عشرة مقاعد. ويعود الحضور الضعيف للإسلاميين في البرلمان الجديد إلى قرار مقاطعة “حركة النهضة” للانتخابات. وتجدر الإشارة أن “حراك 25 يوليو” وبعد صدور نتائج الانتخابات، شهد مؤخرا انشقاقا في 31 مارس 2023 نتيجة خلافات داخلية، فما هو مستقبل تيار الإسلام السياسي بتونس بعد هذه الانتخابات؟ وما هو تأثير المنظمات النقابية وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل (له 7 نواب من مجموع 154 نائبا بالبرلمان الحالي) في المشهد السياسي الجديد؟ وما هي أولويات هذا البرلمان الجديد؟ وهل هناك حاجة لتأهيل النواب الجدد؟ وهل من الضروري إعادة النظر في القانون الانتخابي وتقديم تصور جديد للأحزاب السياسية؟
تيار الإسلام السياسي في دوّامة المحاسبة:
اختار الإسلاميون مقاطعة الانتخابات لاعتقادهم أن حظوظ نجاحهم محدودة جدا في ظل القانون الانتخابي الجديد القائم على انتخاب الأفراد وليس على القائمات. وهم يعرفون أنّ الاحتجاجات الشعبية الموجهة ضدهم يوم 25 يوليو 2021 كانت تَدْفَع إلى فَتْح ملفات قضائية ضد قيادات من حركة النهضة تتعلق بالإرهاب والفساد المالي وأُضيفَ إليها مؤخرا تهمة التآمر على أمن الدولة. ويرى كثير من المحللين أنّ مَا أَضْعَفَ تيار الإسلام السياسي قبل الانتخابات حُدوث انشقاقات بداخله في الأشهر الأخيرة ومثول العديد من قياداته المركزية والجهوية مؤخرا أمام القضاء في التهم المشار إليها. ويمكن القول إن هذا التيار استنفد أغراضه في تونس لعدة أسباب، أولا، أنه لم تَعُدْ له تلك الجاذبية القائمة على خطاب المظلومية، وثانيا، أنّ حصيلته في الحكم كانت كارثية أدت بالبلاد إلى أزمة خانقة اقتصاديا واجتماعيا، وثالثا، أنّ تَدْجينه للإدارات المركزية والجهوية بكوادر تنقصها الكفاءة والخبرة أضَرَّتْ بمردوديتها، ورابعا، أنّ البرلمان في عهد حكمهم أصبح حَلَبَة صراع وعنف وشراء للأصوات لتمرير قوانين تخدم لوبيات مشبوهة، وخامسا، لأن حركة النهضة مورطة طيلة العشرية الأخيرة في قضايا تتعلق بالإرهاب والفساد وتبييض الأموال، وهي تواجه اليوم قضايا أمام المحاكم ربما تؤدي بها لاحقا إلى حّلها كهيكل تنظيمي. وحتى إذا لم يقع حلُّها فهي لن تكون ممثلة في الحكومة طيلة عقد أو عقدين من الزمن.
العمل النقابي.. مصاعب بالجملة وعلاقة سيّئة بالسلطة التنفيذية:
أدرك الاتحاد العام التونسي للشغل أكبر منظمة نقابية بالبلاد، أنّ موازين القوى تغيّرتْ بوضوح بعد انطلاق البرلمان الجديد في نشاطه في مارس 2023، وهو برلمان في أغلبية أعضائه لهم احترازات تجاه مواقف اتحاد الشغل، مما يعني أنّ السلطتين التنفيذية والتشريعية متفقتان على ضرورة بقاء المنظمة النقابية في مربّع الدفاع عن مطالب منظوريها في الجانب الاجتماعي والاقتصادي فقط دون الخوض في المسائل السياسية، وهو ما يعني أن مبادرة اتحاد الشغل وشركائه في الحوار الوطني لم يعد لها أي مبرر، ولذلك رأيْنا أن كثيرا من الإضرابات المبرمجة خلال شهر مارس 2023 تمّ تأجيلها وأخرى تمّ إلغاؤها. وربما يمهّد ذلك إلى تفاهمات جديدة تؤدي إلى عقد اجتماعي جديد يمنع الإضرابات لمدة محددة لا تقل عن ثلاث سنوات على أن يقع البت لاحقا في منع الإضرابات بشكل دائم في بعض القطاعات الاستراتيجية كالفوسفات والبترول. وهكذا تكون الحكومة خلال هذه السنوات الثلاث قد تمكنت من إعادة عجلة الاقتصاد إلى الدوران وتكون أيضا قد قطعت أشواطا هامة في معالجة ملفات الفساد في الإدارات والوزارات والأحزاب والجمعيات.
أية أولويات للبرلمان الجديد؟:
تأسيسا على ما سبق، يمكن التأكيد على أن البرلمان التونسي يضع أمامه أجندة محملة بالعمل خلال الفترة المقبلة، ويعد من أبرز أولوياته خمس في غاية الأهمية هم كالتالي:
(*) الأولوية الأولى: بناء علاقة تشاركية قوية بين البرلمان والسلطة التنفيذية، وهي مُتاحة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، وذلك لسببين، أولهما، انخراط الأغلبية البرلمانية في برنامج الرئيس قيس سعيّد، وثانيهما دَعْمُ البرلمان للحكومة لاستكمال مسار المحاسبة الذي أصبح مطلبا شعبيا بامتياز.
(*) الأولوية الثانية: الإسراع بتحديد طبيعة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية من خلال تشريعات في مقدمتها الإسراع بالترفيع في صادرات الفوسفات وضبط خطة للوصول إلى الاكتفاء الذاتي الغذائي والطاقي، والتحكم في التضخم وارتفاع الأسعار، وتحرير الرخص في إسناد المشاريع الاستثمارية ومراجعة مجلة الاستثمار بشكل جذري بما يُحَفّز المستثمر المحلي والأجنبي على الاستثمار في كل القطاعات بما في ذلك البنية التحتية، والشروع في وضع آليات لتطبيق الإصلاحات الكبرى التي التزمت بها تونس مع صندوق النقد الدولي بوضع جدول مفصل للتدرّج في رفع الدعم وتخفيض كتلة الأجور وحل ملف الشركات العمومية الخاسرة.
(*) الأولوية الثالثة: رَقْمَنةُ الحكومة والإدارة عموما وتأمين مواقع الإنتاج الهامة مثل الفوسفات وحقول النفط والغاز عن طريق الجيش.
(*) الأولوية الرابعة: إصلاح جذري لمرفق القضاء نظرا لأهميته القصوى في جلب الاستثمار وحفظ حقوق المواطنين وتركيز دولة القانون. وسنتحدث لا حقا عن طبيعة هذا الإصلاح الذي سيكون عميقا ومتدرجا.
(*) الأولوية الخامسة: رَبْطُ علاقات متينة مع البرلمانات العربية والأجنبية، وضبط استراتيجية ناجعة للدبلوماسية الاقتصادية.
النواب الجدد.. ضرورة التأهيل:
لا نُذيع سرّا إذا قلنا أنّ هناك حاجة ملحة لتأهيل عدد هام من النواب في البرلمان الجديد. فقد استمعنا إلى مداخلات البعض منهم في وسائل الإعلام أثناء الحملة الانتخابية، وهي مداخلات وحوارات تفتقد للدقة والخبرة أحيانا. وأقترحُ على رئاسة البرلمان تنظيم ورشات تكوين للنواب في أقرب وقت يُنَشّطها خبراء ومختصون من داخل البرلمان وخارجه تتمحور حول قضايا تخص المالية العمومية وميزانية الدولة والآليات التي تحقق العدالة الاجتماعية والعدالة الجبائية ووضع خارطة طريق لإصلاح وتطوير البُنْية التحتية وضبط إستراتيجية لمعالجة مسألة الشّحّ المائي، وكيفية النهوض بالقطاعات الاستراتيجية مثل النقل والصحة والتعليم، وكيفية انخراط تونس في مجتمع المعرفة والذكاء الاصطناعي إلخ، لأن مثل هذه الورشات ستجعل الحوار بين النواب والحكومة أكثر جدوى، وستجعل الرأي العام مُهْتمّا أكثر بمضمون الإصلاحات المطروحة. ولكي تنجح هذه الورشات لا بد من تخصيص اعتمادات مالية في ميزانية البرلمان.
ونشير هنا، أنّ تَوَفُّر العزيمة والإرادة السياسية لإنجاح هذه الورشات سيُجنّبنا المهازل التي كانت تحصل في برلمانات ما بعد 2011.
عودة الأحزاب في ثوب جديد:
رغم الجدل الحاد الذي صَاحَبَ دَوْر الأجسام الوسيطة، وخاصة دور الأحزاب في الحياة السياسية وفي العمليات الانتخابية فإنّ التجربة أكدت مبدئيا بعد إجراء الدور الأول والدور الثاني للانتخابات التشريعية في ديسمبر 2022 فبراير 2023 أنّ الضعف الكبير في المشاركة في الانتخابات (11 بالمائة مع فواصل صغيرة) لا يُفسَّرُ بعامل واحد فقط مثل انعدام الثقة في الأحزاب وهذا عامل هام، لكن هناك عوامل أخرى ساهمت أيضا في الإقبال الضعيف على صناديق الاقتراع، منها حالة الإحباط لدى الرأي العام نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة بشكل كبير، وضبابية في ذهن الناخب حول القانون الانتخابي الجديد، والبطء المُسَجّل في مسار المحاسبة والذي تمّ تداركه بعد الانتخابات.
ويرى بعض المحللين أنّ التباسا كبيرا حصل في ذهن الناخب بخصوص دور الأحزاب في العملية الانتخابية ودور الكتل البرلمانية فيما بعد، والذي كان محل جدل أيضا. واعْتَبَر بعض المحللين أنه كان بالإمكان وَضْع شروط وضوابط صارمة لمنظومة الأحزاب، وكان من الضروري في الحالة التونسية تنقية المشهد الحزبي المُتضخّم، (أكثر من 200 حزب) وتشديد المراقبة على تمويل الأحزاب وعلى مبادئها التأسيسية ومَنْع الخلط بين الدين والسياسة، والتزام الأحزاب بمدنيّة الدولة وبما تمّ إقراره من إجراءات تحديثية في قانون الأحوال الشخصية وغيره. وبالتالي كان من الأفضل بعد 25 يوليو 2021إصدار تشريع جديد بالمراسيم لقانون جديد للأحزاب بالشروط المشار إليها. وكان بإمكان السلطة القضائية حلّ أو تجميد الأحزاب المورطة في تجاوزات خطيرة، ومَنْع تَرشّح أيّ قيادي حزبي على المستوى الجهوي أو المركزي للانتخابات الرئاسية والتشريعية والبلدية لمدة عشر سنوات إذا كان مُدَانا في قضايا إرهاب أو فساد أو تبييض أموال. صحيح أن التمثيلية الحزبية بمقاييس الديمقراطية الغربية تشكو أزمة اليوم، ولكن لا يزال الجدل قائما بين مَنْ يُدخل إصلاحات هامة وجذرية على المنظومة الحزبية في التمويل والمبادئ التأسيسية وعدم انفصالها عن ناخبيها ومَنْع السياحة الحزبية في البرلمان إلخ، وبين من ينادي بابتكار أشكال جديدة. مع الإشارة إلى أنّ الغالبية العظمى من الدول بما فيها المتباينة إيديولوجيا كالولايات المتحدة والصين وروسيا والهند لم تتخلّ لحدّ عن النظام الحزبي، لأنّ ذلك يحتاج إلى تقييم كبير قبل الانتقال إلى تجربة مغايرة تماما.
اتجاهات للمستقبل التونسي:
- مع انطلاق البرلمان الجديد في نشاطه، يُتَوقّع أن يقع الاهتمام بشكل أكبر بالملف الاقتصادي. وهناك معطيات إيجابية بقرب موافقة صندوق النقد الدولي على القرض الذي طلبتْه الحكومة التونسية.
- نُحَذّر من الصراعات الداخلية داخل الكتل البرلمانية الحالية التي بدأت تطفو على الساحة خاصة الكتلة المُقرّبة من الرئيس قيس سعيد حول مسألة رئاسة البرلمان وهل تكون سنويّا أو لكامل المدة البرلمانية، مما يُبْعد البرلمان عن الاهتمام بالمسائل الحارقة والمستعجلة.
- يُتَوَقّع أن تكون هناك دبلوماسية اقتصادية جديدة من خلال بناء شراكات متنوعة مع القارة الآسيوية والإفريقية مع الحفاظ على الشراكات التقليدية مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
- كل ما يتمناه التونسيون أنْ تصبح علاقات التعاون والشراكة الاقتصادية والسياسية والثقافية أكثر قوة مع الدول المغاربية (ولا ينسى التونسيون موقف التعاون والدعم مؤخرا من طرف الجزائر وليبيا) ومع الدول الخليجية وخاصة السعودية والإمارات، والدول العربية مثل مصر والعراق وغيرها.
- يُتَوقّعُ صدور قوانين جديدة لجلب الاستثمار الداخلي والخارجي وتحرير الرخص في إسناد المشاريع حتى لا تبقى حكرا على عائلات محدودة، وهذا ممكن في ظل التناغم بين الحكومة والبرلمان الجديد.
- يُتَوَقّع أن يكون تيار الإسلام السياسي غائبا لمدة عقد أو عقدين من الزمن عن ردهات السلطة، وهو ما سيسمح بتشكل مشهد سياسي جديد يقطع مع كثير من الرموز القديمة.
- يُتوقّع أنْ يكون المشهد النقابي القادم أقل توترا بكثير، فالحكومات القادمة لن تسمح بإضرابات عشوائية ولن تسمح بإرباك العمل خاصة في القطاعات الاستراتيجية وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع نسبة النمو بشكل ملحوظ وتصبح الزيادة في الأجور مرتبطة بارتفاع الإنتاجية. وأعتقد أن المنظمات النقابية المتعددة أصبحت مدركة أن طبيعة العمل النقابي في القرن الواحد والعشرين ليست هي نفسها في القرن الماضى، وأنّ قانون اللعبة تَغَيّر خاصة بعد أن أصبح معظم الاقتصاد الوطني مُخَصَصا، وبالتالي يصبح ترشيد المطالب والبحث عن توافق أفضل بكثير من المواجهة مع الحكومات.
- لا نخطئ القول إذا قلنا أنه لولا إصرار الرئيس قيس سعيد على تطبيق هذه الإصلاحات وخاصة المحاسبة لدخلتْ تونس نَفَقا مظلما، وهو الذي خاض حربا ضروسا ضد الفساد المالي لم تحدث منذ عقود في تونس. كما أنه هو الذي أبْعَد الإسلام السياسي عن الحكم دون حصول أيّ شكل من أشكال العنف، وهو الذي في عهده تكاد تكون العمليات الإرهابية قد غابت تماما بفضل الأداء الجيد للمؤسسات الأمنية والعسكرية، وهو الذي تعامل بذكاء مع النقابات وألْزَمَها بالدفاع عن المطالب الاجتماعية والاقتصادية فقط دون التّدخّل في الشّأن السياسي، وهذا ما يفسر رفْضه ضمنيا لمبادرة الحوار الوطني التي طرحها اتحاد الشغل وشركاؤه.
وختاما نقول إنّ مستقبل تونس واعدً بحكم موقعها الاستراتيجي فهي بوابة أوروبا وإفريقيا في نفس الوقت. وهي قادرة أن تكون سويسرا العرب بعد أن تنجز الإصلاحات التي ذكرناها وقد شرعتْ فيها. وهذا ما سيجعل الانتقال الديمقراطي فيها سليما، والأمن الشامل فيها مُسْتَتَبّا.