كيف تتغير السعودية بعد صندوق الاستثمار الثقافي؟

بعد الاستثمار في الاقتصاد المتنوع بما في ذلك الطاقات البديلة والاقتصاد الأخضر تتجه السعودية اليوم إلى الاستثمار أكثر في الثقافة والترفيه والسياحة والرياضة عَبْر صندوق استثماري جديد، أُحْدث لهذا الغرض باستثمارات تبلغ سبعة فاصل أربعة مليار دولار. هذا الاستثمار الجديد خاصة في الثقافة يعطي انطباعا أنّ السعودية، بدَفْع من وليّ العهد رئيس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، مُقْبلة على تغيير جذري تدريجي في الانفتاح على المقاربات الفكرية والرؤى الثقافية الإنسانية.
وعليه، يحاول هذا التحليل قراءة تداعيات ما سبق ذكره على مستقبل المملكة كوجهة ثقافية وسياحية ورياضية واعدة؟ وما هي تأثيراتها المحلية والإقليمية؟
ترتيبات جديدة:
في البداية نُذَكّر بأنّ السعودية، منذ حوالي السنتين إلى اليوم اتّخذتْ إجراءات هامة في اتجاه عَقْلَنَة الفكر والخطاب الديني. ونزعَتْ عن بعض الجمعيات فَرْضَ بعض الاجتهادات الدينية المتشددة، وسمحَتْ بإنشاء لجنة لتنقية الحديث النبوي الشريف من الروايات الراديكالية، وأشركَتْ المرأة في الدورة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بجُرْعات أكبر، وألْغَت القيود التي تمنع المرأة من قيادة السيارات. وانخرطت المملكة في الحملة العالمية لمكافحة الإرهاب والتطرف عَبْر التحالف الإسلامي العالمي لمكافحة الإرهاب، وأنشَأتْ مراكز علمية لفهم ظاهرة التشدد الديني وأسبابه، ومراكز لتأهيل مساجين الإرهاب، كل هذه الإجراءات تندرج في إطار نَحْت نموذج ثقافي جديد قوامُه العقلانية والوسطية والانفتاح على الآخر الإنساني.
كما نشير أيضا إلى أنّ الترفيه الذي يندرج الاستثمار فيه ضمن الصندوق الاستثماري الجديد هام جدا للشعوب، لأن الترفيه أحد المُحفّزات للإبداع الثقافي والاستقرار النفسي والأُسري، فعندما يجد المواطن السعودي حركية كبيرة في مجال السينما والمسرح والفنون الجميلة وفي النوادي الفكرية التي تُقدَّم فيها منتجات ثقافية ثرية ومتنوعة، فإنه يصبح مُقْبلا أكثر على الحياة لا على الموت كما يفعل المتطرفون، ويصبح متلهّفا على الاستزادة من المعرفة الإنسانية في مختلف الاختصاصات، وهو ما يُمَكّنه من توسيع آفاقه الفكرية والعلمية، ويجعله يمزج بين المتعة الترفيهية والاستفادة الثقافية.
أما السياحة فسيكون الاستثمار فيها فرصة هامة لتثمين القطاع الأثري والطبيعي والمناخي بالسعودية، علما بأنّ السياحة عامل هام في تقارب الحضارات. وبخصوص الرياضة، فإنّ المملكة تعمل منذ مدة، وبخطى حثيثة، على إنشاء بُنْية تحتية كبيرة في مختلف الاختصاصات الرياضية وهو ما مكّنها من تقديم وجه مُشرّف في كرة القدم في كأس العالم الأخير بقطر.
كل الإجراءات المذكورة أعلاه ستجعل من السعودية وجهة ثقافية بامتياز تَزامُنا مع النهضة الاقتصادية الكبرى التي تخطط لها المملكة في مشروع 2030. ولكيْ تنجح السعودية في إثراء البُعد الثقافي والترفيهي والسياحي والرياضي بالبلاد، فإنّه بإمكانها التركيز على ثلاثة أشياء: أولا، التخطيط الجيد مُسْبَقا لكل قطاع بالاستعانة ببعض مكاتب الدراسات، ثانيا، المتابعة الدورية لكل الأنشطة مع التحديث المستمر إذا اقتضى الأمر، وحبذا لو تكون هذه المتابعة تحت إشراف مجلس أعلى للثقافة والترفيه والسياحة والرياضة تتمّ الاستعانة فيه بكفاءات من داخل المملكة ومن خارجها، ثالثا، السماح بمساحة أكبر ولو تدريجيا في مجال حرية الإبداع والتعبير بعيدا عن الابتذال والاستفزاز وهو ما سيجعل القطاع الثقافي بالمملكة جذّابا للشباب والنُّخَب وعامة الناس.
انعكاسات محلية وإقليمية محتملة:
لا شك أنّ المملكة بحجمها الاقتصادي والعسكري الهام، وبخطواتها الجديدة في المجال الثقافي والترفيهي والسياحي والرياضي، ستُصبح وجهة مُفَضّلة لعدد كبير من البلدان في مقدمتها منطقة الخليج التي قطعت فيها مثلا دولة الإمارات العربية المتحدة خطوات هامة في المجال الثقافي والترفيهي. كما أنّ السعودية يمكن أنْ تصبح أيضا قبلة هامة لسياح ورجال أعمال عرب وأجانب يمكنهم أنْ يجمعوا أثناء زيارتهم للمملكة بين متعة الأعمال والترفيه والسياحة الثقافية.
ولا نُخطئ القول إذا قلنا أنّ المشروع الثقافي، هو البَصْمة التي تُعطي للبلدان الديمومة والريادة. فالثورةُ الفرنسية لم تكن لتنجح ويبقى ذكرُها إلى اليوم لولا ثقافة الحداثة عَبْر فلاسفة الأنوار، لذلك أعتقد أنّ وليّ العهد الشاب الطموح محمد بن سلمان يعرف أنه من خلال الاستثمار في الثقافة سيطبع المملكة بطابع الحداثة وسيُشجّع على التألق الفكري والثقافي في كل المجالات.
خطوات مثل هذه ستجعله أحد الرواد الكبار في تاريخ المملكة العربية السعودية التي ستُحلّق عاليا في مجال الاقتصاد والرقمنة والثقافة وتجعل منه أيضا أحد الزعماء البارزين القادر على لعب أدوار هامة عربيا وإقليميا.
في النهاية، يمكن القول أن تأسيس المملكة العربية السعودية لصندوق الاستثمار الثقافي والسياحي، سيكون له ثمة انعكاسات محلية وإقليميةـ يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:
(*) تعزيز البيئة الاستثمارية في تمويل المشروعات الثقافية، حيث يمثل هذا الصندوق قاطرة لجذب دخول القطاع الخاص السعودي والعربي في القطاع الثقافي.
(*) قد يخلق الصندوق السعودي لتنمية الثقافة بيئة تنافسية في مجال الإبداع الفني السعودي، سواء ما يتعلق بالسينما أو المسرح وكذلك الإنتاج الدرامي الهادف، بالإضافة إلى خلق جيل جديد من المواهب الناشئة والقدرات الشبابية والمحتوى الثقافي والإبداعي؛ وبالتالي تمكين العاملين في المجال الثقافي من أدوات (الابتكار الثقافي) التي تساعد في بلورة أفكار جديدة قادرة على المنافسة وتمنح إضافة نوعية للناتج المحلي.
(*) أما على المستوى العربي والإقليمي، قد يمثل هذا الصندوق الضلع الثالث مع الدورين المصري والإماراتي في دعمهما للأعمال الفنية سواء الدراما أو السينما الهادفة إلى مكافحة التطرف والإرهاب، وبالتالي قد يوجه جزء كبير من استثمارات الصندوق السعودي في إنتاج دراما وسينما تواجه مهددات المنطقة العربية، وتكون بمثابة آليات في تحجيم التيارات المتشددة التي ربما تحول تشويه صوره ما تقوم به السعودية.
(*) قد تؤدى ضخامة تمويل الصندوق السعودي للثقافة، والذي تمّ تأسيسه برأسمال يبلغ نصف مليار ريال (نحو 133.32 مليون دولار)، مع وجود صندوق التنمية الثقافية الإماراتي إلى وجود إنتاج فني عربي مشترك، بل تنشيط وإعادة إحياء الصناديق العربية الشبيهة، فربما تصبح تجربة الصناديق العربية لدعم وتنمية الثقافة على شاكلة تجربة الصندوق الثقافي الأوروبي، والذي كان هدفه 1945 إعادة بناء أوروبا بعد الحرب، وتعزيز دور الثقافة والمحبة والسلام في المجتمعات. وبالتالي قد تتمكن الصناديق العربية مثل التنمية الثقافية في مصر، وصندوق دعم الثقافة الفلسطيني، وصندوق التراث والتنمية اليمني- من تكوين تحالفات فنية عربية-عربية، وتشبيك إنتاجها الفني، وبالتالي مد جسور التحاور العربي –العربي الهادفة إلى مكافحة الظواهر المهددة للمجتمعات منها مقاومة التيارات التي تنسب نفسها للإسلام وإعادة إحياء مفهوم العروبة بين الأجيال الجديدة.