مخاوف متنوعة: تداعيات أزمة الهجرة غير النظامية في تونس

تشهد تونس في الأسابيع الأخيرة موجة متصاعدة من الهجرة غير النظامية، وصَلَتْ إلى مشاركة عائلات بأكملها من الأب والأم والأطفال بمَنْ فيهم الرضع. وقد استَرْعتْ هذه الهجرات انتباه الرأي العام الداخلي والخارجي وأفاضت في الحديث عن أسبابها الاقتصادية. وفي المقابل التقط الإعلام المحلي، بروايات متعددة، خلفيات هذه الهجرة.

ولئن كان من الضروري التأكيد على الظروف الاقتصادية القاسية في تونس في الفترة الأخيرة، كأحد الأسباب في تصاعد الهجرة غير النظامية، فإنّ ذلك لم يمنع العديد من الأحزاب من توظيف هذه الظاهرة لأهداف سياسية، في فترة تتّسم بالاستعداد للانتخابات البرلمانية بعد أقل من شهرين من الآن. ويمكن القول إنّ هناك تداعيات اقتصادية وسياسية وانتخابية وراء ملف الهجرة السرية التي تشغل الرأي العام التونسي هذه الأيام.

التداعيات الاقتصادية:

الوضع الاقتصادي في تونس منذ 2011 إلى اليوم شهد تدهورا لا مثيل له، كان من ذلك أنّ نسبة البطالة بلغتْ أكثر من 16 بالمائة في 2021، وقارَبَتْ سبعمائة ألف عاطل عن العمل منهم حوالي 40 بالمائة من أصحاب الشهائد المعطلين. بالإضافة إلى فشل كل الحكومات السابقة التي كانت تسيطر عليها حركة النهضة الإسلامية بدرجات متفاوتة مع بعض الليبراليين قليلي الخبرة في القيام بإصلاحات اقتصادية عميقة في مجال التنمية والجباية وتوزيع الثروة. وعندما تَسَلّم الرئيس قيس سعيد الحكم بعد انتخابات 2019 وَجَدَ تَركة ثقيلة من المشاكل الاقتصادية. وتحدّثَ الرئيس عن ملفات فساد حارقة، لكن لحدّ الآن لم تتمّ محاسبة المسؤولين عن ذلك مما غذّى مشاعر الإحباط . وهو ما دفع العديد من الشباب إلى خوض تجربة الوصول إلى أوروبا بكل ما تحمله من مغامرات خطيرة، لأنّ هؤلاء المهاجرين غير النظاميين فَقَدُوا الثقة في الحصول على شغل كريم كانت انتفاضة الربيع العربي في 2011 قد قامت من أجله.

وفي الحقيقة، يمكن القول إنّ الرئيس قيس سعيّد، لا يتحمّل هذه التركة الاقتصادية الثقيلة، لكنّ بُطء الإجراءات في الوصول إلى الحلول المستعجَلة جعل فئة هامة من العاطلين يُفَضّلون تجربة الارتماء في قوارب الموت أملا في الوصول إلى شواطئ أوروبا، لكنّ تداعيات الحرب الروسية الأكرانية ومجيء حكومة إيطالية جديدة من أقصى اليمين بقيادة ميلوني منذ يومين والمعروفة بمقاومتها الشديدة للهجرة غير النظامية، ستجعل مغامراتهم في هذه الهجرة مستقبلا أكثر صعوبة، وهو ما سينعكس سلبا على المناخ الاجتماعي داخل تونس باعتبار صعوبات التوظيف في القطاع العام والخاص، أضفْ إلى ذلك ارتفاع عدد الوافدين من الأفارقة على تونس، باعتبارها مركز عبور نحو أوروبا، الذين فشلوا في عبور البحر، وقد فضّل الكثير منهم الاستقرار في تونس علّه يكرر محاولة الهجرة مرات أخرى. وقد تحدثت عديد الصحف عن أن عدد الأفارقة جنوب الصحراء كاد يقارب المليون شخص الآن في 2022  ويتمركزون في المدن الاقتصادية الأربع الكبرى في صفاقس وسوسة ونابل وتونس الكبرى ويعملون في عديد القطاعات الفلاحية والخَدَمية، ويتقاضون أجورا متدنّية، وهو ما أدّى حسب بعض المحللين إلى تقليل فرص التشغيل للسكان المحليين الذين لا يرضون بتلك الأجور المتدنّية. وبالتالي لم يعُدْ المهاجرالتونسي غير النظامي يأبه كثيرا بمخاطر الهجرة السرية لأن آماله في تحسين أوضاعه الاقتصادية ضعيفة.

تداعيات سياسية:

ثمة تداعيات سياسية للهجرة الشبابية من تونس، يمكن رصدهم كالتالي:

(*) أولا- إجبار الحكومة الحالية، حكومة نجلاء بودن، على اتخاذ إجراءات عاجلة لإحداث مشاريع صغرى للشباب في مناطقهم المحلية، ويمكن للحكومة الحصول على مساعدات هامة من منظمات دولية. وقد بادرت مثلا بعض الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وفرنسا وسويسرا بإحداث مشاريع صغرى في المناطق الحدودية والجبلية. والمطلوب من الحكومة توسيع هذه التجربة مع دول أخرى.

(*) ثانيا- إجبار الطبقة السياسية، وخاصة المعارضة التي تندد هذه الأيام بقوة بعجز الحكومة عن حلّ مشكلة الهجرة غير النظامية، وذلك بتقديم مقترحات عملية للوصول إلى الحلول. علما وأنّ معظم أحزاب المعارضة كانت مشاركة في الحكومات السابقة، وتركت الحبل على الغارب في خصوص ارتفاع نسبة أعداد المهاجرين غير النظاميين.

(*) ثالثا- ستكون الهجرة غير النظامية، في هذه الأيام بمثابة محرار للسلطة الحاكمة للإعلان عن خارطة طريق قابلة للتنفيذ لتقليص هذه الظاهرة، وإلا فإن المعارضين سيجدون الفرصة سانحة لتوظيفها سياسيا بما يُقَوّي من حظوظها ويمس كذلك من مصداقية السلطة التنفيذية.

التداعيات الانتخابية:

نشير أنه إذا لم يحدث تفاعل حقيقي بين السلطة الحاكمة وهؤلاء المتحفزين للهجرة غير النظامية، فإنّ المناخ الانتخابي سيكون مشحونا. وربما تكون نسبة الإقبال على الاقتراع متدنّية. وهنا تصبح التجربة الانتخابية الجديدة التي يريد لها الرئيس سعيد أنْ تتحقق (برلمان بغرفتين) على المحك. ولا أعتقد أنّ معظم التونسيين سيقبلون بتواصل الانسداد السياسي لحل معظم الملفات الاقتصادية الحارقة بما في ذلك ملف الهجرة غير النظامية.

في النهاية، تُعْتبر الهجرة غير النظامية في تونس إحدى المحاور الرئيسية في خطاب المرشحين للانتخابات البرلمانية القادمة في 17 ديسمبر 2022، لأنها تجلب انتباه مئات الآلاف من العائلات. وبقدر ما تكون الحلول والمقترحات عقلانية وناجعة بقدر ما تدعم مُخْرَجات الجمهورية الثالثة الجديدة التي من بين مضامينها إرجاع الأمل للشباب في الحصول على عيش كريم لا يدفعه لركوب البحر ومخاطره. ولن يكون ذلك مُتاحا إلا بسياسة اتصالية جديدة. وعلى السلطة الحالية أن تطور سياستها الاتصالية التي ما تزال تفتقر للنجاعة. وفي الأخير نَاْمَل أن تُفْضي أزمة الهجرة غير النظامية إلى تحسيس السلطة والمعارضة للبحث عن خيارات جديدة لمعالجة هذه الظاهرة بدْءا بإقناع الأوروبيين توفير مخابر عصرية باهظة التكلفة لتحليل الجينات للموتى غرقا نتيجة هذه الهجرات وانتهاء بتفادي ما حصل في جرجيس وغيرها من المحافظات. وبإمكان الحكومة التونسية أن تطلب من شركائها الأوروبيين حزمة من المساعدات الاقتصادية والمالية لتشجيع الشباب على إقامة مشاريع صغرى في مناطقهم وتساعدهم على الاستقرار في بلادهم. ونتمنى من أشقائنا العرب والخليجيين تكثيف الاستثمار في تونس لأنها منطقة واعدة ومُربحة للجميع، وستُثْبت الأيام ذلك.

د. أعلية علاني

أستاذ وخبير مشارك بالمركز، هو مؤرخ تونسي وباحث في القضايا الاستراتيجية والتيارات المتشددة دينيا، حاصل على التأهيل الجامعي جامعة منوبة- تونس، ويعمل نائب رئيس المركز التونسي لدراسات الأمن الشامل، وعضو بوحدة البحث المجتمع والمجتمع الموازي كلية الآداب منوبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى