ثنائية المركز والهامش .. هل تنجح الأموية الجديدة في بناء الدولة الوطنية السورية؟

في ظل محاولة الحكومة الانتقالية في سوريا بقيادة أحمد الشرع تجاوز حالة الشتات في الهوية السورية، برز اتجاه جديد في الخطاب الرسمي يقوم على توظيف واستلهام النموذج الأموي كمرجعية تاريخية رمزية لإعادة بناء الشرعية وصياغة مشروع سياسي بديل عن النظام البعثي، ما يمثل رهانًا سياسيًا استراتيجيًا، متقاطعًا مع المشروعات الإقليمية وخاصًة الخليجية، ويتطلب قراءة متعمقة في السياق والدوافع، والفرص والتحديات داخل سوريا وفي إطار الخارطة الجيوسياسية المحيطة.
ولا يمكن قراءة استدعاء النموذج الأموي في الخطاب الرسمي بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي المضطرب، لتزامن القرار مع حالة الفراغ الإستراتيجي في المنطقة ومحاولات بعض الفوى الإقليمية لإعادة تشكيل ملامح الخارطة السياسية. ولذلك، يبدو أن الحكومة السورية تعول على هذا النموذج لقوته الرمزية وامتداده الحضاري في منحها الشرعية التاريخية، ما يتوقف على قدرة القيادة السورية على تحويل الرمزية التاريخية إلى مشروع سياسي واقتصادي ملموس، ليتجاوز الأمر الطابع الدعائي إلى بناء مؤسسات قوية وصياغة سياسات شاملة، وإلا فقد يحول ذلك دون تحقيق الاستقرار، بل ويشكل عبئًا يثير انقسامات جديدة في البلاد.
تأسيسًا على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى تفكيك أبعاد استدعاء حكومة دمشق للنموذج الأموي في خطابها السياسي والإعلامي، من خلال دراسة هذا الطرح سياسيًا وثقافيًا، وقدرته على تشكيل استراتيجية حقيقية لإعادة بناء الهوية الوطنية وتحقيق الاستقرار في الدولة، أو أن يبقى مجرد أداة رمزية لجذب التأييد الشعبي وتكريس الشرعية بما يمثل فرصة لكسب الوقت في مواجهة التحديات بالداخل والخارج.
الأموية السياسية.. من الهامش إلى المركز
سعت الحكومة السورية الجديدة منذ الوصول إلى السلطة لإحياء رمزية الدولة الأموية وتوظيفها كمرحلة تشكل نموذجًا للقوة والهيمنة الإقليمية، وذروة التوسع السياسي والعسكري لسوريا كمركز ثقل بالعالم الإسلامي والعربي، في محاولة لإعادة إنتاج هذه الصورة سياسيًا وثقافيًا. حيث يتيح هذا الرمز خاصًة في مرحلة ما بعد الحرب قدرة على تشكيل وبناء هوية وطنية جديدة، عبر تجاوز الانقسامات العرقية والطائفية، وربط السوريين بفكرة الدولة القوية المركزية التي كانت قادرة على بسط نفوذها حتى خارج حدودها[1]، ما يعكس الرغبة في مواجهة الصورة النمطية لسوريا كدولة ضعيفة أو منهارة، بإعادة ربطها بتاريخ عابر للحدود.
يمكن تحليل ذلك التوجه في سياق فكرة العودة إلى دمشق الأموية كسردية تاريخية تعد السوريين باستعادة قوة المركز وهيبة الدولة، ولو كان ذلك عبر إسقاطات انتقائية على التاريخ، بما يتناسب مع توازنات القوى القائمة وضرورات الخطاب السياسي من جهة وأخرى. فالخطاب الأموي المعاصر يتم توظيفه لإعادة صياغة هوية السلطة السورية على نحو يربط بين قوة الدولة ككل ومركزية العاصمة دمشق، خاصًة مع قدرة هذا النموذج على جذب شرعية تاريخية قد تضمن وحدة البلاد. ويتضح ذلك في أنماط الخطاب السياسي والإعلامي الذي يبرز دمشق بوصفها قلب العروبة وحامية الهوية، في مقابل الهوامش التي ينظر إليها كتهديد أو منابع للفوضى[2].
في هذا السياق، تستفيد هذه الخطابات الرسمية من إرث رمزي قوي لدمشق متميزًا بالمركز الحضاري والثقافي، في حين يُدفع بالهامش إلى صورة الآخر المهدِد للاستقرار، وهي تتقاطع تمامًا مع تاريخ الصراع بين المركز والهوامش في المقاومة السياسية العربية، حيث أن المركز يعيد إنتاجه لشرعيته عبر تمثيل الهوية الجامعة وممارسة دور ضامن وحدة الأمة، مقابل هوامش تتقدم للتحدي[3]. ومن أبرز ملامح هذا الخطاب، الإحالة الانتقائية للتاريخ الأموي على أساس الولاء الشخصي والسياسي، مع توظيف الرموز والشعارات التي تعكس القوة والسيادة المركزية[4].
كما يظهر البعد التعبوي بشدة في خطاب الرئيس السوري “أحمد الشرع”، الذي يستثمر الإيحاءات الرمزية للتاريخ الأموي في صياغة رسائل التعبئة وكسب التأييد والشرعية، خاصًة في اختياره المسجد الأموي في دمشق لإدلاء أول حديث للشعب السوري بعد دخوله دمشق، ما أكد خبراء بأنه يحمل رسائل أخرى أيضًا مثل نجاح الدولة الأموية الجديدة في طرد إيران “الشيعية” من دمشق واستعادة حضارة الشام[5]. ومن منظور العلاقات الإقليمية، يمكن قراءة ذلك الطرح كرسالة مضادة للمشاريع الإقليمية المنافسة، لإعادة التموضع كمركز مرجعي للعروبة والإسلام السياسي “المعتدل” بعيدًا عن الخطابات الطائفية رغم الممارسات العنيفة ضد الطوائف الأخرى.
الفرص والتحديات
يتوقف نجاح هذا الطرح على إمكانية تشييد سياسات ملموسة تعيد الثقة بين السلطة والمجتمع، والموازنة الحقيقية مع متطلبات الحاضر، وهو تحدي شديد الخطورة وسط بيئة مليئة بالتجاذبات في الداخل وعلى المستوى الإقليمي. وعلى الرغم مما يوفره ذلك النموذج من إطار تاريخي قادر على تجاوز الانقسامات باستدعاء لحظة في التاريخ السوري، وفرص بناء سردية وطنية جديدة لجمع السوريين وفق الهوية في بعدها الإسلامي[6]، يظل الاستقرار السياسي مرهونًا بوجود مركز قوي قادر على إدارة الأقاليم وضبط توازناتها.
وبالتالي، فإن تبني حكومة دمشق للخطاب الأموي يفتح أمامها فرصة نادرة. ومع ذلك، يتطلب تحويل هذه الفرصة من إطارها الرمزي إلى أداة فاعلة التعامل مع الواقع المعقد، والبيئة المتغيرة، والمجتمع المنهك، بسياسات أكثر حكمة ومرونة، والتغلب على كافة العقبات والتحديات التي تعيق تحقيق هذه الخطوة، والتي يمكن توضيحها على النحو التالي:
(1) مخاطر الإفراط في إعادة إنتاج المركزية: قد يدفع موقف الحكومة الانتقالية إلى إعادة إحياء مركزية حكم دمشق بشكل مفرط، بما يتعارض مع المطالب المتزايدة باللامركزية من قبل تنظيمات وقوى تتبع مكونات عديدة على رأسها الأكراد شمالًا والدروز جنوبًا. وفي التاريخ الأموي، كانت السلطة المركزية قوية، لكنها تحكم بيئة أقل تشظيًا على المستوى السياسي مما هو عليه الوضع في سوريا اليوم[7]. لكن في السياق القائم، يمكن النظر إلى أي محاولة لاستعادة هذا النمط من الحكم كتهديد لمكتسبات الحكم المحلي، مما قد يولد مقاومة عنيفة أو عزلة لبعض المناطق، وكنتيجة متوقعة إشعال النزاعات الداخلية بدلًا من بناء تماسك وطني.
(2) إثارة حساسيات طائفية ومناطقية: رغم ارتباط الدولة الأموية بفكرة القوة والتوسع، فإن تاريخها مثير للجدل ببعض الأوساط، خاصًة لدى جماعات ترى في تلك الحقبة فترة إقصاء وتهميش لمكونات بعينها، وبالتحديد المسلمين من غير العرب.[8] وإذا لم يتم تقديم ذلك الطرح بأسلوب جامع وموازن، فقد يُفهم على أنه خطر متضاعف في مجتمع مثل سوريا اليوم، الذي خرج من حرب غدتها الانقسامات، وبحاجة ملحة إلى التوحيد لا التفرقة.
(3) توجس الفواعل الإقليميين: قد يُقرأ تبني الخطاب الأموي إقليميًا كدلالة على طموح جيوسياسي بتجاوز حدود سوريا، خصوصًا في ظل التوترات مع بعض القوى المجاورة. وهذه التوجسات قد تدفع نحو سياسات احتواء أو تهميش، بدلًا من دعم الحكومة الانتقالية في هذه المرحلة، مما قد يؤدي إلى إضعاف فرص التعاون الإقليمي، في وقت تحتاج فيه سوريا للانفتاح والدعم الاقتصادي والسياسي. كما أن القوى الدولية وخاصًة الغربية، قد ترى في ذلك الطرح خطوة تجاه أسلمة المشروع السياسي على نحو غير مريح[9].
(4) صعوبة التوفيق بين التاريخ ومتطلبات الواقع المعاصر: إن الاكتفاء بالشعارات الأموية دون تقديم إصلاحات سياسية واقتصادية ملموسة، مع عدم توفير ضمانات حقيقية للأقليات السورية على أسس المواطنة الكاملة، قد يجعل المشروع مجرد دعاية مفرغة من المضمون، وسرعان ما قد تفقد تأثيرها على الشارع السوري[10].
(5) التحولات الثقافية والاجتماعية: شهدت المجتمعات العربية، بما يشمل المجتمع السوري أيضًا، تحولات جذرية في أنماط التفكير والقيم المجتمعية والهوية، بفعل العولمة والتعليم الحديث، ووسائل الإعلام، والتطورات التكنولوجية. فقد أنتج ذلك أجيالًا تعرف نفسها بطرق أكثر تعددًا، وتجمع بين الانتماءات المحلية والعربية والعالمية، ما قد يشكل عائقًا أمام التجربة الأموية الصاعدة، فتحول دون إيجاد صدى قوي لدى هذه الأجيال، خاصًة إذا لم يُعاد صياغته بما يتوافق مع رؤاها للحريات، والمواطنة، والتنوع الثقافي. فبدون تحقق هذا التكيف، قد يبدو المشروع خارجًا عن السياق، أو محاولة لفرض هوية أحادية على واقع متعدد[11].
واقع معقد
يعتمد نجاح الحكومة السورية في استثمار النموذج الأموي على قدرتها في دمجه ضمن مشروع وطني جامع لكافة مكونات المجتمع السوري، بما يتجاوز الانقسامات التي خلفتها الحرب، إذا استطاعت الحكومة كسب الثقة بضمانات ملموسة. وبالتالي فإن النجاح هنا مرتبط أيضًا بإمكانية توظيف هذا الإرث في تعزيز مؤسسات الدولة، وتطوير الإدارة المحلية، وربط الهوية الوطنية برؤية تنموية لا بالشعارات التاريخية فقط.
فالتباين الديمغرافي القائم في سوريا أعمق وأشد تعقيدًا من العصر الأموي، حيث باتت الانقسامات الطائفية والعرقية مترسخة في الواقع الاجتماعي والسياسي[12]. والمستقبل المحتمل للمشروع الأموي الذي تطرحه حكومة دمشق يتراوح بين ثلاث مسارات رئيسية، أولها: النجاح جزئيًا في دمج الرمزية الأموية بمشروع وطني إصلاحي متدرج، ما يعزز الاستقرار ويعيد بعض الحضور السوري إقليميًا. أما الثاني: الفشل المبكر مع طغيان الرمزية على المضمون وعدم معالجة التحديات المعيشية والأمنية، فيظل المشروع أداة دعاية لا أكثر. وثالث تلك المسارات: الانزلاق نحو انقسامات جديدة إذا جرى استخدام الطرح الأموي في إطار إقصائي أو تعبوي ضد مكونات معينة. والحسم بين هذه المسارات الثلاث يتوقف على مدى مرونة الحكومة الانتقالية، وقدرتها على تحليل وتوظيف اللحظة السورية بواقعية لا بعاطفة تاريخية أو رغبة في توظيف سياسة المركز والهامش أو الأغلبية والأقلية.
وختامُا، يبقى مشروع حكومة دمشق نحو الأموية الجديدة اختبارًا حقيقيًا لقدرتها على إعادة تعريف ذاتها في ظل واقع سياسي واجتماعي شديد التعقيد. فالمعادلة هنا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بكيفية تحويل هذا المجد إلى قوة معاصرة تستطيع توحيد السوريين على أساس وطني لا تقسيمهم، ولا يمكن ذلك دون ترسيخ عقد اجتماعي شامل يحترم التعددية. والتجربة الراهنة تستدعي دعم العواصم العربية وعدم ترك الساحة السورية دون تنسيق مباشر، وإلا فقد يفتح ذلك المجال أمام اختراقات إقليمية ودولية تُعيد إنتاج الأزمات بدلًا من حلها، والاستثمار العربي اليوم في استقرار دمشق هو استثمار في أمن المنطقة ككل.
[1] أنيس زكريا النصولي، الدولة الأموية في الشام، (دمشق: دار التنوع الثقافي، ط1، 2020، ص31).
[2] رضوان السيد، الجماعة والمجتمع والدولة، (بيروت: دار الكتاب العربي، ط2، 2007، ص37-47).
[3] رضوان السيد، المرجع السابق.
[4] خلود بنت سالم باحشوان، العوامل المؤثرة في تشكيل القرار السياسي في العصر الأموي: ولاة العهد والأمراء الأمويين نموذجًا، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، جامعة الكويت، المجلد41، العدد 136، صيف 2023، ص189-220.
[5] مصطفى عيد إبراهيم، الرسائل المستهدفة: تحليل مضمون لخطابات الجولاني الأربعة، مركز رع للدراسات الاستراتيجية، 12 ديسمبر 2024.
[6] أمل بنت سليم بن سالم العتيبي، الهوية الإسلامية والتحديات التي تواجهها، شبكة الألوكة، 18 إبريل 2012.
[7] بشير البكر، الهوية الأموية كتعويض عن الفشل، جريدة المدن، 28 يوليو 2025.
[8] ممدوح مكرم، الموالي والأمويون: حكايات التهميش والثورة، إضاءات، 25 مايو 2022.
[9] بشير البكر، مرجع سابق.
[10] مالك العبدة، اجعل سوريا عظيمة مرة أخرى … استعادة أموية بعد الحرب، المجلة، 13 مايو 2025.
[11] عبد الله تركماني، إشكالية الهوية والمواطنة في سورية، سوريا المستقبل، 22 نوفمبر 2024.
[12] مصطفى عيد إبراهيم، مرجع سابق.