نجاح مرهون: هل يُنهي اتفاق كازامانس الحرب في السنغال؟

في خطوة تاريخية، أبرمت الحكومة السنغالية وحركة القوات الديمقراطية لكازامانس the Movement des Forces Démocratiques de la Casamance (MFDC) اتفاق سلام في 25 فبراير 2025، منهيةً بذلك نزاعًا دام 43 عامًا، خلّف وراءه خسائر بشرية فادحة وأضرارًا اقتصادية جسيمة في المنطقة. وعلى الرغم من المسار الطويل الذي ينتظر الأطراف لتفعيل بنود الاتفاق، يمثل هذا التوقيع منعطفًا حاسمًا في مسيرة إنهاء العنف وتحقيق الاستقرار المنشود.
جاء هذا الاتفاق ثمرة لسنوات من المفاوضات المضنية والمتواصلة، والتي شهدت مشاركة فاعلة من الرئيس السنغالي باشيرو فاي ورئيس الوزراء عثمان سونكو. كما لعبت غينيا بيساو، بقيادة الرئيس عمر سيسوكو إمبالو، دورًا محوريًا في الوساطة، مستفيدة من الروابط التاريخية والجوار الجغرافي مع كازامانس. وتُعد هذه المحادثات هي الأولى من نوعها التي تجري بين الانفصاليين والسلطات السنغالية منذ الانتخابات التي أجريت في مارس من العام الماضي، والتي أتت بالسلطة الجديدة.
جذور النزاع:

يتميز الإقليم بتنوعه الثقافي وجماله الطبيعي، ولكنه يعاني من حالة عدم استقرار أمني وتهميش مزمن. يتميز إقليم كازامانس بموقع جغرافي فريد جنوبي السنغال، حيث يعاني من عزلة نسبية عن باقي أنحاء البلاد. وتفصل جمهورية غامبيا الجزء الأكبر من أراضيه عن بقية الأراضي السنغالية، بينما تحدّه غينيا بيساو من الجنوب.يستأثر إقليم كازامانس، المعروف بتنوعه البيئي الفريد، بنحو 15% من المساحة الإجمالية للجمهورية السنغالية، التي تبلغ مساحتها التقريبية 200 ألف كيلومتر مربع. ويتخلل الإقليم نهر كازامانس، الذي يمتد لمسافة 300 كيلومتر، ويُعد بمثابة شريان الحياة الرئيسي للمنطقة، حيث يعتمد عليه السكان في الزراعة والصيد والنقل.
يتركز غالبية السكان في مدينة زيغينشور، عاصمة الإقليم. وتتميز التركيبة السكانية في كازامانس بالتنوع العرقي والثقافي، حيث تضم مجموعات عرقية مختلفة وأهمها جيولا ومانجاكو وبالنتي والفُلّان والبمبارا.ولا تزال العديد من هذه القوميات متمسكة بأنظمتها الاجتماعية الفريدة وبنيتها الهرمية، حيث يلعب الزعماء التقليديون دورًا أساسيًا في حل النزاعات الداخلية وتوجيه شؤون مجتمعاتهم.
خضع كازامانس للاستعمار الفرنسي، وتميز بوضع إداري خاص نتيجة اختلافات ثقافية. تمتع بحكم ذاتي حتى 1889، ثم أُعيد دمج الإقليم تحت إدارة حاكم السنغال، واستمر هذا الوضع حتى استقلال السنغال عام 1960، حيث أصبح كازامانس أحد أقاليمها.أدى التمييز الاستعماري، واستخدام جنود شماليين ضد سكان كازامانس، إلى توليد مشاعر كراهية، تفاقمت بسبب الفوارق الدينية والثقافية والاجتماعية.
يشهد إقليم كازامانس السنغالي تصاعدًا تدريجيًا للتوترات منذ أواخر السبعينيات، حيث تفاقمت حالة الاستياء الشعبي نتيجة لعدة عوامل، من بينها التهميش الاقتصادي والاجتماعي. وفي عام 1980، كانت نقطة التحول الحاسمة، عندما قُتل طالب خلال مظاهرة طلابية في مدينة زيغينشور على يد قوات الأمن السنغالية. أدى هذا الحادث المأساوي إلى تأجيج الغضب الشعبي وتصعيد التوتر في المنطقة بشكل ملحوظ. وفي 26 ديسمبر 1982، انفجرت الأوضاع بشكل كامل، حيث خرجت مظاهرات حاشدة عمت أرجاء كازامانس، مما أدى إلى ظهور حركة القوات الديمقراطية بزعامة القس أوغسطين دياماكون سنجورمنادية بانفصال “كازمانس” عن السنغال، فدارت رحا الحرب الأهلية في الإقليم، وتوالت الصدامات بين الحركة والحكومة المركزية.بعد قرابة عقد من الصراع، استجاب الطرفان لدعوات السلام، وشهد عام 1991 أول اتفاق لوقف إطلاق النار، لكنه سرعان ما انهار. تبعه اتفاق آخر عام 1993، لم يكتب له الدوام أيضًا. وتوالت الاتفاقيات التي لم تلتزم بها الأطراف، مما أدى إلى استمرار الصراع، الذي شهد فترات من الهدوء وأخرى من التصعيد حتى عامنا الحالي.
انعكاسات الداخل:

ينقسم أطراف نزاع كازامانس إلى فئتين رئيسيتين: أطراف مباشرة تشمل الحكومة السنغالية وحركة القوى الديمقراطية، وأطراف غير مباشرة كدول الجوار غامبيا وغينيا بيساو، بالإضافة إلى أطراف هامشية تشمل سكان المنطقة وبعض المسؤولين الحكوميين.
انقسمت حركة القوى الديمقراطية في كازامانس إلى جناحين رئيسيين: جناح سياسي يسعى لتحقيق الأهداف عبر الوسائل السلمية، وجناح عسكري يتبنى الكفاح المسلح.قاد الجناح السياسي لحركة القوى الديمقراطية في كازامانس القس الكاثوليكي أوجستين دياماكون سنغور، الذي كان شخصية محورية في تاريخ الحركة. تميزت قيادته بالانخراط في مفاوضات متكررة مع الحكومة السنغالية، وتوقيع عدة اتفاقيات لوقف إطلاق النار، سعيًا إلى تحقيق أهداف الحركة عبر الوسائل السلمية. ومع ذلك، شهدت الحركة انقسامات داخلية، أبرزها الخلاف مع سيدي بادجي، قائد الجناح العسكري، الذي وقع اتفاقًا منفردًا لوقف إطلاق النار مع الحكومة عام 1999.
أدى هذا الخلاف إلى انقسام الحركة إلى جبهتين رئيسيتين: جبهة الشمال وجبهة الجنوب، مما أضعف موقف الحركة وتماسكها. تفاقمت الانقسامات داخل الجناح السياسيبعد وفاة القس أوجستين، حيث انقسم إلى مجموعتين رئيسيتين: مجموعة الداخل، التي تمثل الفصائل الموجودة في كازامانس، ومجموعة الخارج، التي تتخذ من فرنسا مقرًا لها. اشتد التنافس على قيادة هاتين المجموعتين، مما أدى إلى انقسام كل مجموعة إلى عدة فروع يصعب حصرها. يشهد الجناح السياسي حاليًا صراعًا مستمرًا على القيادة، ويتنافس عدة أشخاص على منصب الأمين العام للحركة، من بينهم مامادو نكروما ساني، المقيم في فرنسا منذ عدة سنوات.
قاد الجناح العسكري “أتيكا” سيدي بادجي، الذي وقع اتفاق وقف إطلاق النار مع الحكومة عام 1999. أدى هذا الاتفاق إلى انقسام الحركة، حيث انضم بادجي إلى جبهة الشمال والتزم بالاتفاق، ووضع أسلحته، لكنه احتفظ بها وبالسيطرة على مناطق نفوذه. في المقابل، انضم باقي الجناح العسكري إلى جبهة الجنوب المتشددة، بقيادة ليوبولد ساجنا، ومعه ساليف ساديو كنائب له. سرعان ما ذاع صيت ساديو، وبدأ ينافس ساجنا على القيادة. عندما تفاوض ساجنا مع الرئيس عبده ضيوف، تم القبض عليه عند عودته وقتله على يد ساديو وأنصاره، مما أدى إلى تفكك قوات “أتيكا” إلى ثلاث مجموعات متنافسة.
دور مزدوج:
على الرغم من إظهار حكومة جامبيا، تحت قيادة الرئيس يحيى جامع، موقفًا محايدًا رسميًا، وتدخلها في بعض الأحيان كوسيط في النزاع، إلا أن تقارير موثوقة كشفت عن دعم خفي قدمته لحركة القوى الديمقراطية في كازامانس.”تجلّى هذا الدعم الخفي في تقديم التمويل والإمدادات العسكرية واللوجستية، مما ساعد الحركة على الاستمرار في صراعها مع الحكومة السنغالية.
على الرغم من الدور الذي لعبته غينيا بيساو في الوساطة بين الحكومة السنغالية وحركة القوات الديمقراطية في كازامانس، إلا أن هناك تقارير تشير إلى دور خفي لعبته بعض الحكومات في بيساو في تأجيج الصراع. يتجلى هذا الدور الخفي في تورط بعض المسؤولين الحكوميين، وخاصةً في مجال تجارة الأسلحة، حيث تشير التقارير إلى تورط الرئيس جواو برناردو فييرا وقادة كبار في الجيش في تجارة الأسلحة مع متمردي كازامانس. تُعد غينيا بيساو ملاذًا آمنًا لمتمردي كازامانس، بسبب العلاقات العرقية والثقافية التي تربط بين سكان المنطقتين، حيث تنتشر عرقيات الديولا والبالانتيس والماندينجو في كل من شمال غينيا بيساو وكازامانس.
دلالات الاتفاق:
على مدى أربعة عقود، عاش سكان كازامانس في ظل صراع مدمر، أدى إلى تدهور النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمنطقة، وتشريد الآلاف. ومع ذلك، يمثل الاتفاق الأخير بصيص أمل لإنهاء هذه المعاناة وبناء مستقبل أفضل. حيث ينص الاتفاق على وقف دائم لإطلاق النار، ما يشكل خطوة حاسمة نحو إعادة بناء الثقة بين الحكومة والمتمردين السابقين الذين التزموا كلاً بتسليم أسلحتهم والاندماج في المجتمع من خلال برامج إعادة التأهيل، وهي خطوة تتطلب عملاً دقيقاً لضمان نجاحها.
تعهدت الحكومة السنغالية بتنفيذ مشاريع تنموية شاملة في كازامانس، تشمل تحسين البنية التحتية وتعزيز الخدمات الأساسية، وذلك بهدف معالجة مظالم السكان وإعادة بناء الثقة. ومع ذلك، يواجه تنفيذ الاتفاق تحديات جمة، أبرزها بناء الثقة المتآكلة بين السكان والحكومة، وإقناع الفصائل المترددة بالانخراط في العملية السلمية.
يتوقف نجاح اتفاق السلام في كازامانس على قدرة الحكومة على تأمين التمويل اللازم لتنفيذ المشاريع التنموية، وعلى إقناع جميع الفصائل المتمردة بالالتزام بالاتفاق. فاستمرار وجود فصائل غير راضية يشكل تهديدًا جديًا لعملية السلام. تحتاج السنغال إلى دعم مالي وتقني من شركائها الدوليين والمؤسسات المالية لتمويل مشاريع التنمية في كازامانس، وتوفير فرص اقتصادية واجتماعية للسكان المحليين. فالدعم الدولي يلعب دورًا حاسمًا في تحقيق الاستقرار والتنمية في المنطقة.
ختامًا، يمثل اتفاق السلام في كازامانس خطوة أولى نحو تحقيق الاستقرار الدائم، ولكنه لا يعني نهاية الصراع. فالتحدي الحقيقي يكمن في تنفيذ بنود الاتفاق بدقة وشفافية، ومتابعة التطورات على أرض الواقع بشكل مستمر.كما لا تقتصر أهمية اتفاق كازامانس على السنغال وحدها، بل تتجاوزها إلى منطقة غرب أفريقيا بأكملها. فنجاح هذا الاتفاق يمكن أن يشكل نموذجًا يحتذى به في حل النزاعات، وتعزيز الاستقرار في منطقة تواجه تحديات أمنية متزايدة، مثل انتشار الجماعات المسلحة في منطقة الساحل والصحراء.
يبقى اختبار اتفاق السلام في كازامانس رهنًا بالأيام المقبلة، حيث ستكشف الممارسة العملية عن مدى التزام الأطراف بتنفيذ بنوده. ومع ذلك، يظل الأمل معقودًا على أن يشهد سكان كازامانس تحولًا حقيقيًا نحو مستقبل يسوده السلام والاستقرار، وأن يتحقق حلمهم في العيش بأمان وازدهار.