سياقات توظيف الخطاب الحضاري في السياسة الدولية

حفزت بيئة الصراعات الدولية واستمرار الحرب الروسية الأوكرانية دون أفق واضح للحل، الحديث عن تسارع التحولات في هيكل النظام العالمي الذي تأسس على ركائز ليبرالية تعددية لم تغني العديد من القوى المتوسطة والكبرى عن المطالبة بتمثيل عادل في منظومة صنع القرار الأممي خاصة في مجلس الأمن على قدم المساواة مع الدول دائمة العضوية. وعلى ضوء التطورات المتسارعة في المشهد الدولية والتي أفردت مساحة من المرونة لعدد من القوى الكبرى التي تسعى لممارسة دور فاعل في الشئون الإقليمية والدولية، ظهر البعد الحضاري كقاسم مشترك حاضر في خطابات وممارسات تلك القوى في إطار إعادة صياغة دورها في نظام دولي متحول

دوائر الاهتمام:

برز الاهتمام باستدعاء الخطابين الحضاري والقومي في مواجهة احتواء ثقافي غربي يعد أحد أدوات استمرار الهيمنة بنظر القوى العالمية الصاعدة، في ظل تعارض منظومة القيم الغربية مع الثقافات المحلية والموروث الحضاري لها، في مقابل مراجعات استراتيجية داخل المنظومة الغربية ذاتها تمثلت في صعود اليمين المتطرف في عدد من البلدان الرئيسية في أوروبا في مواجات متتالية يقابلها على النقيض خطاب أوروبي يسعى للاستقلال الاستراتيجي والتحول إلى قوة عالمية موازية للولايات المتحدة والصين في عالم متعدد الأقطاب. وعلى ما سبق يمكن رؤية تصاعد الخطاب الحضاري على النحو التالي:

(*) القطبية الحضارية الروسية: أظهرت وثيقة مفهوم السياسة الخارجية الروسية التي أقرها الرئيس فلاديمير بوتين في 31 مارس 2023، تكثيفًا في استخدام الخطاب الحضاري في سياق التعاون بين الحضارات الرئيسية خاصة الصديقة لبلاده باعتبارها مراكز ثقل محورية في نظام دولي متعدد الأقطاب تمثلها كل من الهند والصين والحضارة الإسلامية (تركيا وإيران والسعودية ومصر وسوريا).

(*) المبادرات الصينية: منذ عام 2013، اتبع الرئيس شي جين بينج خطوات عدة لترسيخ دور بلاده كقوة عظمى اتسمت بإظهار الندية للأطر الغربية انطلاقًا من تحديث مؤسسات الدولة والحزب الشيوعي ورؤى التنمية وحتى دور مراكز الفكر وإصباغها بمفهوم “الخصائص الصينية”، وصولًا إلى ما يمكن تسميته بالاستراتيجية الكبرى للصين والتي برزت سماتها في تحركات الصين الخارجية عقب الحرب الروسية الأوكرانية وأولها اتباع نهج التواصل بين الحضارات على أساس الحوار متعدد الأطراف بين الصين والتكتلات الحضارية الرئيسية ومنها الحوار الصيني العربي والحوار بين الصين ودول آسيا الوسطى.

(*) المجتمع السياسي الأوروبي: جاءت دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بناء مجتمع سياسي أوروبي في مايو 2022، لتعزيز التواصل مع القوى الساعية لدخول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا ودول غرب البلقان، وعلى الرغم من كون تلك الدعوة جاءت لمعالجة الإجراءات المعقدة للانضمام في ظل نزاعات حدودية ووجود بؤر انفصالية موالية لروسيا، إلا أنها عبرت عن نهج فرنسي واضح لبناء “أوروبا الجيوسياسية” بهدف تحقيق التوازن في علاقات القارة مع كل من الولايات المتحدة وروسيا رغم الخلافات الداخلية بين الدول الأعضاء.

اتجاهات التوظيف:

على الرغم من قدم السجال المعرفي حول الجانب الثقافي من العولمة والصدام بين تياري “التغريب” و”التحديث” في مختلف بقاع العالم، إلا أن استدعاء ذلك الصراع في أعقاب التطورات الراهنة في السياسة العالمية يشي بتحولات هامة في تشكيل السلوك الخارجي لعدد من القوى المتوسطة والكبرى مدفوعًا بالمصالح الجيوسياسية المستندة ليس فقط على التنافس الاقتصادي، وإنما كذلك على منظومة قيم فريدة تعبر عن مجموعة ثقافية متمايزة على أساس جغرافي.

تختلف آليات التوظيف والتعبئة السياسية للمقولات الحضارية تبعًا لمدى ارتباطها بمقومات تلك الحضارات والتي تنعكس بدورها على رؤيتها لموقعها على الصعيد العالمي وعلاقاتها بدول الجوارفي اتجاهين يبدوان متناقضين ظاهريًا، وذلك على النحو التالي:

(#) الاتجاه الضيق؛ القومية المتطرفة: ويعكس قولبة أو تمركز حول مكون ثقافي أو عرقي وحيد يبرز تمايزه عن غيره من المكونات العرقية في ذات الدولة أو الإقليم الجغرافي الأوسع، أو في المقابل تراجع الحجج والسرديات المؤسسة للروابط والتكتلات الكبرى على غرار تحديات صعود اليمين المتطرف في دول الاتحاد الأوروبي في خضم أزمة منطقة اليورو في 2010، وموجات الهجرة واللجوء التي اجتاحت القارة في 2015 و2016، مما دعى لإعادة بناء أوروبا الجيوسياسية، واشتقاق مفهوم “أسلوب الحياة الأوروبي” كجزء من مشروع للاستقلال الاستراتيجي وإعادة صياغة هوية الاتحاد كفاعل حضاري، وذلك في أعقاب الأزمة الروسية الأوكرانية وتداعياتها الاقتصادية الضخمة على دول التكتل.

وفي الحالة الأوروبية يمثل بروز التيارات اليمينية تأكيدًا على جوهر الحضارة الأوروبية بمكوناتها الإثنية الأصلية وتركيبها الديني المسيحي، ومن ثم فهو موجه بالأساس لقيم الانفتاح الأوروبي على حركة الهجرة واللجوء، أكثر من رفضها للتكتل الأوروبي. وارتبط ذلك الموقف جزئيًا بالتداعيات الاقتصادية للحرب الروسية الأوكرانية على الأوضاع المعيشية في أوروبا.

كما يمكن أن تفضي تطورات الحرب واستدعاء التاريخ في الخطاب السياسي القومي الروسي وردود الفعل المحتملة عليه في الخطاب الأوكراني إلى بروز قوي لتيارات يمين متطرف أكثر تشددًا من نظيرتها الأوروبية، نظرًا لوحدة المكون الإثني (السولافيين الشرقيين) وما يمكن أن ينشأ من تنازع حول قيادة ذلك المكون ضمن المعسكر الروسي المسيحي الأرثوذوكسي الذي تتموضع فيه موسكو باعتبارها “روما الثالثة”، ونظيره الأوكراني المسيحي بانتماء وهوية كاثوليكية أوروبية، استنادًا إلى تاريخ إمارة روس كييف أول دولة روسية في التاريخ.

(#) الاتجاه الواسع؛ القطبية الحضارية: ويتمركز على أسس ثقافية ودينية ومقولات جيوسياسية لحضارات كبرى، يعد العامل المشترك بينها هو الوعاء المكاني أو الحيز الجغرافي الذي يحتوي تلك الحضارة، حيث برزت التقسيمات الحضارية مع عصر النهضة الأوروبية وما أعقبها من حركة استعمار واسعة من “العالم المتحضر”، وارتبطت تلك الرؤية الأوروبية بإرث الحضارة الإغريقية والتي توارثتها الإمبراطورية الرومانية، ثم أوروبا المسيحية انتهاءًا بالحضارة الغربية العابرة للأطلسي.

وعلى الرغم من دور العولمة في تقريب المسافات بين الشعوب، إلا أن الجانب الثقافي منها ظل موضع انتقاد، وحال دون مزيد من التقارب في إطار سيادة القيم الغربية حتى مع استمرار نموذج الدولة القومية، ومن ثم عززت العولمة وحركة التحديث من دعم الحضارات والثقافات الرئيسية وأعادت الاعتبار للحضارة كوحدة تحليل في العلاقات الدولية من خلال التبادل الثقافي بين الحضارات الرئيسية ومنها الصين والهند، وتبني حوار الحضارات بديلًا عن سيناريو صراع الحضارات الذي قدمه صامويل هنتنجتون في تسعينيات القرن الماضي.

وفي إطار تحويل ذلك الاحتقان الثقافي المناهض للتغريب إلى توجه جماعي للتكتلات الحضارية في نظام عالمي متعدد الأقطاب، تزايد الاهتمام بتعزيز الشراكات الاستراتيجية الشاملة التي تعيد رسم الخريطة الجيواقتصادية الدولية وخلق مراكز ثقل اقتصادية وتكنولوجية موازنة للمنظومة الغربية من خلال بناء مسارات بديلة للتجارة وخطوط الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجية الحرجة، بجانب آليات وجهات تمويل دولية جديدة.

وتنظر الأدبيات الغربية إلى “نموذج دولة الحضارة” باعتبارها نموذج مناهض للدولة الوطنية الحديثة التي تأسست في أعقاب صلح ويستفاليا ويتم الإشارة للنموذج الإسرائيلي في التركيز على فكرة “الاستثنائية الحضارية” وصعود اليمين في بعض الدول، ويمثل رد فعل طبيعي على التقسيم الثنائي الغربي للعالم بين دول ديمقراطية وأخرى دكتاتورية.

وفي المقابل يبرز نموذج بديل يميل للموازنة بين المصالح الجيوسياسية والتفاعل الإيجابي في عالم متعدد الثقافات يقوم على مبدأ المساواة في السيادة ويرفض استقطابه على أسس أيديولوجية أو ثقافية بعينها، بالنظر لطبيعة تكوينه والرغبة في الاستفادة من رصيده الحضاري المتنوع لتدعيم أسس بناء الدولة الوطنية والأهم هو القابلية على التعايش المشترك مع مختلف حضارات العالم بالاستناد إلى آليات تكامل إقليمي تقلص مساحات الانكشافة على تبعات صراع القوى الكبرى، وهو ما يعبر عن موقف القوى المتوسطة مثل مصر.

إجمالًا؛ على الرغم من الدور الذي تلعبه القوى المتوسطة في تخفيف حدة الاستقطاب الدولي بين الصين وروسيا من جهة والولايات المتحدة والغرب من جهة أخرى ويمثل ضمانًا لهم بالتوازن، إلا أن الضغوط المتزايدة ونمط الحروب التجارية والعقوبات الاقتصادية قد تدفع المشهد الاقتصادي العالمي إلى مرحلة الانقسام والتفتت بين مجموعة من التكتلات المنعزلة.

ضياء نوح

ضياء نوح- باحث أول بمركز رع للدراسات الاستراتيجية وهو المنسق الأكاديمي للمركز. الباحث خبير بوحدة الدراسات الاستراتيجية بقطاع القنوات الإخبارية بالشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، وهو حاصل علي بكالوريوس العلوم السياسية، وباحث ماجستير في ذات التخصص، له العديد من الدراسات والأبحاث المنشورة في مراكز الفكر والمجلات العلمية، متخصص في شئون الخليج وإيران.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى