كيف تبدو الأسس الفكرية للصراع الروسي الأوكراني؟ (1)

استيقظ العالم فجر الرابع والعشرين من فبراير2022، علي حدث من الأحداث الجسام في تاريخ العالم التي لايشبه ما قبلها مابعدها؛ حيث بدأ هجوم القوات الروسية علي حدود أوكرانيا الجارة الغربية لروسيا، ومنذ ذلك التاريخ بدأ المحللون والسياسيون محاولات تفسير ذلك الحدث، في سبيل التعرف على الأسباب والأصول الفكرية التي تدفع إلى هذا الصراع؟، وهو ما يسعى هذا التحليل إلى الإجابة عنه.

قراءة أولية:

في محاولة لتفسير الدوافع الفكرة للحرب الروسية على أوكرانيا، انقسم الباحثين والمفكرين إلى مدرستين رئيسيتين؛ ركزت المدرسة الأولي علي شخصية الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”وحالته النفسية والعقلية، وفهمه ورؤيته للتاريخ والعلاقات الدولية، وكذلك ماضيه في المخابرات الروسية، بينما استدعت المدرسة الثانية التطورات الدولية والإقليميةفيما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في 26 ديسمبر 1991م، وما تلاه من توسع لحلف الناتو شرقا عقب ذلك، وتكشف لنا القراءة المتأنية والمتعمقة للصراع الروسي الأوكراني عن جذوره وأسبابه، والأسس الفكرية والثقافية التي تتحكم فيه، حيث نلاحظ ثلاثةأبعاد ومنطلقات فكرية، تمثل العقد الحاكمة والمتحكمة في هذا الصراع، وهي:

أولاً: الأساس الجغرافي.

ثانياً: الأساس التاريخي.

ثالثاً: الأساس الديني.

ونظراً لما تمثله هذه الأسس والأبعاد في محاولة فهم وتفسيروالتنبؤ بمستقبل هذا الصراع وما سيؤول إليه وكذلك النتائج المترتبة عليه يركز هذا التحليل على الأساس الجغرافي على أن يتم تناول الأسس الأخرى في تحليلات منفصلة.

المعضلة الجغرافية:

في كتابه الشهر “سجناء الجغرافيا” يذكر المؤرخ “تيم مارشال” أن جميع القادة والحكام مقيدون ومكبلون بالجغرافيا وخيارتهم محدودة إزاء الجبال والأنهار والبحار وإذا لم يكونوا على دراية كاملة بالجغرافيا فلن تكتمل الصورة لديهم، ويتساءل الرئيس “بوتين كل ليلة، لماذا لم يكن هناك بعض الجبال في أوكرانيا؟، والتي كان بإمكانها فيما سبق، الحيلولة دون تمكنالغزاة من غزو روسيا مراراً وتكراراً عبر التاريخ حيث تعرضت روسيا خلال الخمسمائة عاماً الماضية للغزو من الغرب (أوكرانيا)، حيث جاء البولنديون عام 1605م، ثم السويديون عام 1707م، بقيادة تشارلز الثاني عشر والفرنسيون بقيادة نابليون عام 1812م وكذلك الألمان عام 1914م، وأضاف هتلر مسار كييف عام 1941م، والحصار الأشهر في التاريخ الروسي ستالينجراد.

واستناداً إلى تلك الرؤية الفكرية، لم يتخذ الرئيس الروسي قرار التدخل في أوكرانيا بشكل مفاجئ،إذ أن أهم مفكر روسي معاصر، وهو “إلكسندر دوجين” والذي يعرف في الغرب “بعقل بوتين”، قد حدد مسار الصراع بشكل حاكم ومتحكم في كتابه الأشهر “أسس البجيوبولوتيكا ومستقبل روسيا الجيوبوليتيكي “والصادر عام 1991م -وهونفس عام انهيار الاتحاد السوفيتي- حيث حدد مسار الصراع علي النحو التالي :

(*) أن النزعة الاستقلالية لأوكرانيا سوف تتسبب في نزاعاً مسلحاً مع روسيا.

(*) أن سيطرة الناتو علي البسفور والدردنيل يجعل من السيطرة علي البحر الأسود أمراً لاقيمة له لتحقيق الوصول الي المياه الدافئة في البحر المتوسط .

(*) أن محاولة الانضمام الي حلف الناتو من قبل أوكرانيا؛ تمثل شذوذاً مطلقا يتم خلال خطوات غير مسئولة.

(*) إن النزعة الاستقلالية لأوكرانيا تمثل تهديداً خطيراً للإمبراطورية الأوراسية، الهدف الاستراتيجي لروسيا.

(*) يجب السيطرة الروسية علي شواطئ البحر الأسود الشمالية امتداداً من الأراضي الأوكرانية حتي أبخازيا

(*) إبعاد تام للنفوذ الغربي عموماً والأمريكي علي وجه الخصوص عن هذه المنطقة .

(*) إن الواقع الجيوبلوتيكي والإثني لأوكرانيا لا يسمح لها إلا أن تكون محايدة لا غربية ولا شرقية.

(*) إن وجود أوكرانيا بحدودها الحالية وتوجهاتها السيادية هو ضربة قاصمة إلى الأمن الجيوبلوتيكي لروسيا يعادل إختراق حدودها وأراضيها.

الاستراتيجية الفكرية الحاكمة:

لم تكن الوثيقة التي وقعها الرئيس “بوتين” عام 2015م إلا تطويراً لنفس تلك التوصيات التي أوردها السيد “دوجين” في كتابه المشار إليه، وللوثيقة الي وقعها “بوتين” عام 2009م،والمتضمنة تحديد استراتيجية روسيا، والتي تمثل إعادة صياغة لسياسات تم التعبير عنها عام 2002م، وتشير في جوهرها الي نفس أفكار السيد “دوجين”.

وتشير الاستراتيجية الحاكمة لروسيا إلى الحيلولة دون أي توسع لحلف الناتو في الجوار القريب من الحدود الروسية، وخاصة الغرب الأوكراني، كما تشير تلك الوثيقة إلى الدور الذي لعبته أمريكا والغرب في الانقلاب علي الحكومة الأوكرانية الموالية لروسيا عام 2014م، ونشر شبكة من المختبرات البيولوجية ونصب صواريخ مضادة في الجوار الروسي المباشر، وبخاصة في أوكرانيا .

وقد بدأت خطط إعادة توحيد أوكرانيا ودول ما بعد الاتحاد السوفيتي الأخرى في قوة عظمي عابرة للقارات في روسيا منذ التسعينات من القرن الماضي، وعقب انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث أعاد الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” تنشيط نظرية الإمبراطورية الأوراسية والتي كانت من أكثر المفاهيم جاذبية عقب انهيار الإمبراطورية الروسية بعد ثورة البلاشفة عام 1917م.

وكان “الكسندر دوجين” قد دعا إلى تقسيم أوكرانيا إلى:

أولاً-أوكرانيا الشرقية:(من شرق نهر الدنيبرإلى بحر ازوف)، وتغلب عليها القومية الروسية لتصبح جزءاً من روسيا مستقبلاً .

ثانياً- القرم: وهي منطقة متنوعة من الناحية الاثنية، ولبعض مجموعاتها ارتباطات معادية للجيبولوتيك الروسي (مثل التتار)؛ لذلك يجب السيطرة التامة عليها وجعلها تابعة للسيادة الروسية وهو ماحدث عام 2014م.

ثالثاً- الوسط الأوكراني: من تشيرتيجوف الي أوديسيا، وهي منطقة أقرب الي أوكرانيا الشرقية وتدخل إلى الجيبيولوتيك الروسي دون شروط أو تنازلات.

رابعاً- الغرب الأوكراني:وهي المنطقة الأكثر عداءً لروسيا، ويجب اجتثاث تبعيتها لحلف الناتو، ويقام فيها المجمع الدفاعي القاري للإمبراطورية الأوراسية، التي يتعاون فيها القلب الأوراسي (روسيا) مع القلب الأوروبي (ألمانيا)، لاستكمال فك الارتباطبين أوروبا والولايات المتحدة على المدى البعيد؛ لأن وجود أوكرانيا مستقلة، هو إعلان حرب جيبوبولتيكية علي روسيا.

خامساً-تجنب روسيا لضربة غربية من حلف الناتو، والذي يستوجب اجراءات روسية فورية في أوكرانيا.

محاولات تنفيذ الاستراتيجية:

منذ التسعينات من القرن الماضي وعقب انهيار الاتحاد السوفيتي، بدأت محاولات إعادة توحيد أوكرانيا ودول ما بعد الاتحاد السوفيتي الأخرى في قوة عظمى عابرة للقارات في روسيا، فقد أعاد الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” تنشيط نظرية إمبراطورية أوراسيا، التي كانت من أكثر المفاهيم جاذبية بعد انهيار الإمبراطورية الروسية عقب ثورة البلاشفة في عام 1917م، حيث افترضت روسيا أنها نظام حكم أوراسي؛ يتكون من تاريخ عميق من التبادلات الثقافية بين أشخاص من أصول سلافية ومنغولية وأسيوية أخرى، تلك النظرية التي نقلها السيد “دوجين”، إلى عقل وخيال الاستراتيجيين الروس، وعلى رأسهم الرئيس “بوتين”، الذي أعلن في عام 2013م، أن أوراسيا؛ كانت منطقة جيوسياسية رئيسية، حيث سيتم الدفاع عن الشفرة الجينية لروسيا وشعوبهاالمتعددة ضد الليبرالية الغربية المتطرفة، كما أعلن “بوتين”، في يوليو 2021،  أن الروس والأوكرانيين شعب واحد، وعشية الهجوم على أوكرانيا وصف الأخيرة بأنها مستعمرة من نظام دمية، مما يعني أن الهدف بوضوح هو الإمبراطورية الأوراسية وأن خط النهاية لن يكون في أوكرانيا.

استنادا إلى ما سبق، يتضح أنالجغرافيا السياسية الأوربية الأسيوية،شكلت صورة روسيا الذاتية تحت قيادة الرئيس “فلاديمير بوتين” حيث تم نشر موضعات المجد الإمبراطوري والظلم الغربي في جميع أنحاء البلاد وفي عام 2017م، تم عزف الطبول في معرض ضخم، أبرز فلسفة روسيا واستشهاد عائلة “رومانوف” بشكل قرباني وكذلك الشرور التي ألحقها الغرب بروسيا.

وبهذا فإن ما حدث في الرابع والعشرين من فبراير2022، يأتي ضمن الاستراتيجية النظرية والفكرية لروسيا، والتي تبلورت منذ تسعينات القرن الماضي، وبدأ تنفيذهافي الواقع منذ ثلاثة وعشرين عاماً، وقد وضعت خطط تنفيذه منذ سنوات، وتحديداً منذ بداية حرب جورجيا،مروراً بالقرم وليس انتهاءً بحرب أوكرانيا، وبالتالي، كان السيد “دوجين” أكثر مباشرة في أن السيادة الأوكرانية تمثل خطراً هائلاً على كل أوراسيا، وأنه يجب السيطرة العسكرية والسياسية الروسية على أوكرانيا، التي يجب أن تصبح قطاعا إدارياً بحتا للدولة المركزية الروسية.

د. حسام البقيعي

رئيس وحدة دراسات العالم، الباحث حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة القاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى