تكتيكات ضاغطة وخيارات صعبة: سيناريوهات الانسداد السياسي في العراق
فشلت حتى الآن كافة المحاولات وكافة المبادرات التي تقدمت بها بعض القوى السياسية وبعض الشخصيات الوطنية العراقية لإيجاد مخرج لحالة الانسداد السياسي الراهن في العراق، ويبدو أن الموقف السياسي الداخلي في العراق يدور في حلقة مفرغة، حيث لا تزال أزمة تشكيل الحكومة الجديدة دون حل، كذلك أزمة اختيار رئيس الجمهورية الجديد، تنفيذاً للاستحقاقات الدستورية المترتبة على نتائج الانتخابات الأخيرة.
يسعى هذا التحليل للوقوف على أبعاد الموقف الراهن في العراق، وفرص حل مشكلة تشكيل الحكومة واختيار رئيس الجمهورية الجديد، وكيفية استعادة الاستقرار داخل وبين الكتل والمكونات السياسية المختلفة، التي دخلت في حالة استقطاب وتجاذبات ربما تكون غير مسبوقة ، قياساً بالانتخابات السابقة في العراق.
ملامح الإنسداد السياسي الراهن وحلقاته المفرغة:
من الواضح بعد كل هذه المحاولات التي شاهدناها من أجل تشكيل الحكومة في العراق أن هذه المعركة قد دخلت في نفق مسدود، ولا يبدو في الأفق أي فرص لحلها، دون حدوث تراجعات وتنازلات جوهرية من اللاعبين السياسيين الرئيسيين داخل الكتل الكبرى ( الشيعية والسنية والكردية). وصعوبة هذه التراجعات – إن حدثت- تكمن في أنها ستقود لانهيار معظم التحالفات والتكتلات السياسية التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة. من هنا نقول أن النجاح في الخروج من هذه المعضلة صعب، ومحكوم بعدة اعتبارات أهمها ما يلي:
(*) اتساع مساحة الاستقطاب السياسي داخل العراق وتعقد الخريطة الداخلية الخاصة بكل استقطاب على حدة، على نحو يجعل مسألة فهم حركة هذه المكونات وقراءة توجهاتها أمراً في غاية الصعوبة، حتى بالنسبة للمراقبين من داخل العراق أنفسهم، فلأول مرة في تاريخ العراق بعد 2003 نشهد هذا الفسيفساء من الأطياف السياسية المختلفة التي تتجمع تحت مظلة واحدة. مع محاولة تغيير بعض قواعد اللعبة السياسية المستقرة ولو بشكل عرفي في الممارسة السياسية ، خاصة فيما يتعلق بمسألة توزيع المناصب السيادية ( رئاسة الحكومة – رئاسة الجمهورية- رئاسة البرلمان) على الشيعة والسنة والكرد، بالإضافة للاتفاق العرفي بين الحزبين الكرديين الكبيرين فيما يخص رئاسة إقليم كردستان وتسمية رئيس الجمهورية.
(*) ظهور مشكلة ” الثلث المعطل” لأول مرة في تاريخ الحياة البرلمانية العراقية، وبشكل يقترب نسبياً من الحالة البرلمانية اللبنانية، فعلى الرغم من امتلاك الكتلة الصدرية والتحالف الذي شكله مع المكون السني وجزء من المكون الكردي تحت مسمى تحالف ” إنقاذ وطن” للأغلبية إلا أنه لم يتمكن من تمرير تشكيل الحكومة خلال 3 جلسات برلمانية متتالية وحسب المهلة المحددة سلفاً من جانب الدستور العراقي، وأكدتها المحكمة الاتحادية العليا في أكثر من مناسبة.
(*) وضوح عدم قدرة أي من الطرفين الرئيسين في المعادلة السياسية التي أفرزتها نتائج الانتخابات الأخيرة ( تيار إنقاذ وطن بزعامة الصدر بالإضافة للتكتل السني والحزب الديمقراطي الكردستاني وتيار ” الإطار التنسيقي ” الذي يضم داخله معظم المكونات السياسية الشيعية عدا التيار الصدري وهم ائتلاف دولة الــقــانــون بــزعــامــة نـــوري المـالـكـي، وتــحــالــف الــفــتــح بــزعــامــة هــادي العامري، وعصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي، وتـيـار الحكمة بزعامة عـمـار الـحـكـيـم، وتيار الــنــصــر بـزعـامـة حـيـدر الـعـبـادي) على الإنفراد وحده بالقرار السياسي والبرلماني فيما يخص تسمية الحكومة الجديدة وتسمية رئيس الجمهورية المقبلة.
التكتيكات الراهنة وأدوات كسب الأوراق:
الكمون النسبي للتيار الصدري وابتعاده الاختياري المؤقت عن معركة تشكيل الحكومة، وإلقاء الكرة في ملعب قوى الإطار التنسيقي، بعد أن أعلن اعتكافه لمدة 40 يوم، تــاركــاً المــجــال لـخـصـومـه فــي الـبـيـت الـشـيـعـي، لتشكيل الحكومة بدون الكتلة الصدرية.
(&) استمرار رفض تكتل “الإطار التنسيقي” للمدة التي منحها مقتدى الصدر للتكتل لتشكيل الحكومة خلال 40 يوم، واعتباره أن هذه المهلة ستقود لإطـالة الأزمة وليس حلحلتها.
(&) بروز خلافات داخل أطــراف تـحـالـف “إنــقــاذ وطــن” الـذي من يـضـم الـكـتـلـة الــصــدريــة وكـــلا تحالف السيادة السني والحزب الديمقراطي الكردستاني، لا سيما الـخـلاف الــذي بـدأ بالظهور بـين رئيس الـبـرلمـان الـعـراقـي محمد الحلبوسي ونـائـبـه الأول الـقـيـادي فــي الـتـيـار الـصـدري “حاكم الزاملي” بخصوص رئاسة البرلمان. وعدم تدخل الصدر في منع هذه الخلافات أو حلها ، بحجة الاعتكاف .
(&) محاولة قوى الإطار التنسيقي خلال هذه الفترة تفكيك طلاسم معادلة التحالفات الحالية، باعتبارها ساهمت في تعقيد المشهد، وذلك بالرجوع للقواعد المستقرة في الممارسة السياسية خلال الانتخابات السابقة، والمعروفة للكافة داخل العراق وخارجه، حيث أجرىت قوى الإطار التنسيقي حواراً مع الاتـحـاد الوطني الكردستاني وتحالف عزم السني وعدد من الـنـواب المستقلين وقــوى تشرين) التي تمكنت من الصعود إلى البرلمان)، لإقناع هذه الكتل بحق الكتل الشيعية مجتمعة (التيار الصدري والإطـار التنسيقي) في تشكيل الكتلة البرلمانية الأكثر عدداً، وأن يتم العودة لجعل منصبي رئيس البرلمان والجمهورية محسومان للمكونين السني والكردي من دون تدخل من كتلة سياسية أو بـرلمـانـيـة أخــرى .
(&) محاولة قوى الإطار التنسيقي إقناع الصدر بالعودة للأسس الخاصة بتشكيل الحكومة في العراق، وفق لمعادلة الكتلة البرلمانية الأكبر (الكتلة الشيعية) وليس طبقاً للمفهوم الذي طرحه الصدر وحاول تمريره ولم ينجح وهو مفهوم كتلة الأغلبية الوطنية، وضمن هذه المحاولات تم تسريب أن قوى الإطار قد أبلغت مقتدى الصدر عدم اعتراضها على مرشحه لرئاسة الوزراء (جعفر الصدر)، لكن الخلاف يتمحور حــول مـا الكتلة البرلمانية التي تقدم المرشح لرئاسة الـوزراء، حيث ترفض قوى الإطار التنسيقي أن يقدم المرشح لرئاسة الحكومة من جانب كتلة إنقاذ وطن.
(&) محاولة الإيرانيون فتح ثغرة كردية في جدار تحالف إنقاذ وطن، من خلال استثمار الملل الكردي من حالة الانسداد السياسي الراهنة، من أجل الوصول لتفاهمات بين الحزبين الكرديين الكبيرين على منصب رئيس الجمهورية يقوم على إمكانية الاتفاق بين الحزبين على التجديد لـبـرهـم صـالـح، أو الاتفاق على مـرشـح آخــر يسميه حــزب طالباني حصراً.
(&) محاولة الإيرانيون إضعاف تحالف إنقاذ وطن بزعامة مقتدى الصدر، بفتح ثغرة سنية في جدار هذا التحالف من خلال تسريب معلومات تفيد بأن الصدر قد يذهب إلى المعارضة، ويترك حلفاءه دون ظهير سياسي قوي، مما قد يفتح الباب لمزيد من الانقسامات فيما بينها ، خاصة وأن قوى الإطار التنسيقي لا تزال تراهن على ظهور انقسامات داخل التكتل السني بين محمد الحلبوسي وخميس الخنجر على تحالف السيادة، كما أن قرار القضاء العراقي الإفراج عن السياسي السني الـبـارز رافـع الـعـيـسـاوي، قد يفتح الباب لاستقطاب جـديـد داخل المكون السني، وقد يصعب من مهمة الصدر في جمع الكتل السنية في تحالف واحد معه.
الخيارات المتوقعة:
من الواضح من جملة ما تم استعراضه أعلاه من تعقيدات كثيرة في المشهد العراقي، وما تم طرحه من تكتيكات يجري محاولة تمريرها خلال الفترة الراهنة، من جانب القوى السياسية المختلفة وبعض الأطراف الخارجية المؤثرة على الداخل العراقي ومنها إيران، أن هناك حالة من الإنهاك السياسي قد أصابت معظم أطراف اللعبة السياسية الحالية، خاصة الأطراف التي حققت الأغلبية في الانتخابات الأخيرة وكانت تأمل في أن تتاح لها الفرصة لتشكيل الحكومة وتنفيذ أجنداتها الحزبية والوطنية.
ولذلك نرى من واقع المؤشرات السابقة أن المشهد العراقي الداخلي ينتظر ثلاثة سيناريوهات وهي كما يلي:
(*) السيناريو الأول: حل البرلمان والذهاب لإجراء انتخابات نيابية جديدة. وهذا السيناريو قد يجري تمريره من خلال قرار من المحكمة الاتحادية العليا، خاصة بعد أن اخفق البرلمان الحالي في تنفيذ الاستحقاقات المطلوبة واستكمال الهياكل السياسية والمناصب المختلفة، وفق التوقيتات الدستورية المحددة سلفاً ( انتهت في 6 ابريل الجاري). وربما نشاهد هذا السيناريو في حال اتخذ مقتدى الصدر ( المعتكف حالياً لمدة 40 يوماً) بحكم أنه الفائز بالأغلبية في الانتخابات الأخيرة قرار بحل البرلمان.
(*) السيناريو الثاني: انسحاب الصدر من معركة تشكيل الحكومة والانتقال لمقعد المعارضة، بقصد رمي الكرة في ملعب القوى الشيعية التي رفضت دوره وعطلت تشكيل الحكومة وتسمية رئيس الجمهورية ، وربما يراهن الصدر على الشارع العراقي، الذي سبق وان رفض بعض الوجوه السياسية الحالية والتي تسيطر على المشهد خاصة داخل قوى الإطار التنسيقي.
(*) السيناريو الثالث: تمرير الحكومة الجديدة وفق تفاهمات جديدة. يعتمد ظهور هذا السيناريو على قرار من المحكمة الاتحادية أولاً بإعطاء فرصة إضافية للقوى السياسية لتشكيل الحكومة ، كما أن نجاحه يرتبط بمدى رغبة الصدر بالتمسك بتشكيل الحكومة وعدم الاستجابة لأي محاولات من الإطار التنسيقي لإثنائه عن ذلك، مع قدرته على الحفاظ على تماسك تحالفه (إنقاذ وطن)، مع الرهان على نواب وكتل المستقلين.
(*) السيناريو الرابع: استمرار وضع تسيير الأعمال لحين حسم الموقف: أو حالة تيسير الأعمال، وهو ما يعني دخول البلاد في حالة فراغ سياسي من جديد.
وفي التقدير، أن الوضع السياسي الراهن في العراق يظل مفتوحاً على سيناريوهات عدة، وهو بلا شك وضع يكتنفه الغموض والقلق، خاصة للدول التي لها مصالح في العراق، أو تلك التي كانت تراهن على استقرار العراق وعودته كقوة إقليمية مؤثرة. إن خطورة هذا الانسداد السياسي ليست قاصرة على الوضع الداخلي بالعراق فقط، بل قد تمتد لإبعاد إقليمية أيضاً، فعلى المستوى الداخلي تقترب الحالة السياسية العراقية من نفس مسار الحالة السياسية اللبنانية، من ذاويتين الأولى احتمالات الفراغ الدستوري وتعطل مؤسسات الدولة، والزاوية الثانية الانعكاسات على الوضع الاقتصادي والمعيشي للمواطنين، ما قد يقود للانفجار الداخلي واشتعال المظاهرات مرة أخرى، أما على المستوى الخارجي فإن بقاء العراق دون حكومة جديدة والاكتفاء بوضع تيسير الأعمال في منصبي رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية يعني أيضاً تعطيل أية مشروعات تعاون إقليمي خلال هذه الفترة، خاصة وأن الفترة التي سبقت الانتخابات نجحت حكومة الكاظمي في إعادة تعريف دور العراق الإقليمي وقدمت العراق بمنظور إيجابي لدول الجوار ولبعض القوى الدولية.