مؤشرات دالة: كيف أنقذت مصر مكانة الذهب الأبيض؟

جهود حثيثة تبذلها الحكومة المصرية من أجل عودة القطن المصرى لتربع عرش الأقطان العالمية، فقد أعلنت مصر فى منتصف عام 2020 عن الإطلاق الرسمي لبرنامج ( مبادرة القطن الأفضل في مصر)، والذي يهدف إلى تحسين استدامة القطن المصري من أجل اندماج أفضل مع سلاسل القيمة العالمية، ودعم سبل معيشة المزارعين من خلال تبني ممارسات زراعة القطن أكثر استدامة.
كما أمر الرئيس السيسي بمواصلة خطة الدولة للنهوض بمنظومة القطن المصري التى وضعت عام 2017، من أجل إعادته إلى سابق عهده واستعادة مكانته العالمية، التي يمكن أن يتحقق من خلال التطوير المتكامل لمنظومة القطن بجميع محاورها الزراعية والتجارية والصناعية بهدف تحقيق أفضل استغلال لما تمتلكه مصر من ميزات تنافسية في إنتاج القطن على مستوى العالم. وكان نتاج ذلك طفرة في إنتاج وأسعار القطن لعام 2021 أعادت للذهب الأبيض مكانته العالمية.
تأسيساً على ما سبق، نستعرض المؤشرات الدالة على تحسن أداء زراعة القطن المصري، وطبيعة المشكلات التى كانت تواجهه وكيف تصدت لها الحكومة المصرية.
مؤشرات التحسين:
شهد القطن المصرى زيادة في مساحة الأراضي المزروعة هذا العام 2021 تتراوح من 27- 30%، من182 ألف فدان الموسم الماضي إلى 236 ألف فدان موسم، لينتج عنها زيادة في الإنتاج بقيمة 40%- أى نحو 240 مليون دولار، مقارنة بالموسم الماضي 2020، كما حققت زراعات القطن قصير التيلة شرق العوينات أعلى إنتاجية فى العالم للفدان، حيث بلغت إنتاجية الفدان في بعض المناطق نحو 19.3 قنطار، بالإضافة إلى التوسعات الحالية في زراعات القطن طويل التيلة، الذي تتميز به مصر ويمثل 2% من حجم الأقطان العالمية الذى يتزايد عليه الطلب العالمي؛ وبالتالي يكون العائد الاقتصادي لصناعته كبير.
وتعد مصر أكبر الدول العربية إنتاجا وتصديرًا واستيرادًا للقطن، وبلغت حجم تجارة مصر من القطن على مدار الفترة من 2016 وحتى 2020 نحو 6 مليارات دولار، كما هو موضح فى الجدول رقم (1)، حيث حققت تذبذبًا في قيمة الصادرات من عامً لآخر، فسجلت أعلى قيمها في 2018 بقيمة 482.6 مليون دولار، وحققت أقل قيمها في الخمس سنوات خلال عام 2020 بقيمة 403.09 مليون دولار نتيجة تفشى تداعيات جائحة كورونا على حركة التجارة الدولية والصناعة، ولكن ظلت مصر تحتل المرتبة الـ 17 عالميا في قيمة صادرات القطن خلال 2020.
ومع تخطى الدول لأثار وباء كورونا، تُظهر بيانات اتحاد مصدّري الأقطان في مصر ارتفاعاً في الطلب على الأقطان المصرية، خلال الموسم التصديري 2020-2021، تجاوزت نسبته 25 %، ومن المتوقع استمرار زيادة الطلب في العام الجديد 2021-2022. ويعود ذلك إلى تراجع الإنتاج العالمي وتحسن جودة الأقطان المصرية بصفة عامة على مدار الموسمين الماضيين بشكل خاص، فتستورد حوالى 21 دولة الأقطان المصرية، تتصدرها الهند ثم باكستان ثم بنجلاديش بنسب تصل إلى 63.7%، 17.3% و 7.2% على التوالى، وتبلغ نسبة صادرات الأقطان فائقة الطول من الصادرات 5.3% مقابل الأقطان الطويلة التي تبلغ نسبتها 94.6%. وقد بلغ حجم صادرات القطن المصري في السوق العالمي في الفترة من أكتوبر 2020 حتى يونيو 2021، نحو 88452.58 طن- أى نحو 1.8 مليون قنطار قطن شعر كما هو موضح فى الشكل رقم (2).
ولأول مرة فى تاريخ البلاد يصل سعر قنطار القطن فى وجه قبلى أكثر من 3800 جنيه، مقارنة بأكثر من 4 آلاف جنيه لقطن وجه بحرى، وذلك عبر تطبيق الآلية الجديدة التى تطبق على مستوى الجمهورية الموسم الحالى، فى حين تم تطبيقها جزئيا الموسمين الماضيين، تحت إشراف وزارة قطاع الأعمال العام ومن خلال شركات القابضة للقطن والغزل والنسيج. هذا بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار العالمية للقطن محققة أرباح للفلاح بقيمة 110% وهو ما يعني زيادة العملة الصعبة للدولة، ويتماشى مع مخططات الدولة في التوسع في الإنتاج، حيث أن الزيادة في الأرباح للمزارع عامل تشجيعي لغيره على خوض التجربة وزراعة القطن لمردوده الاقتصادي العالي.
تحديات زراعة قديمة:
عانت مصر على مدى العقود الثلاثة الماضية من فقدان جزء من ريادتها في إنتاج وتصدير القطن عالي الجودة والمشهور عالميا، لعدة أسباب أهمها ما يلى:
(*) المنافسة فى السوق العالمى: حيث جاء ذلك كنتيجة طبيعية لانتقال صناعة الغزل والنسيج من أوروبا والتي كانت السوق الأساسي بالنسبة للقطن المصري إلى دول جنوب شرق آسيا، مما كان له تأثير كبير على تصدير القطن؛ لأن الصين والهند تحديدا تنتجان ما يقارب نصف الإنتاج العالمي، وبذلك أصبحت الصناعة والإنتاج في جنوب شرق آسيا، وأدى ذلك إلى أن يفقد القطن المصري أسواقا كثيرة.
(*) ضعف الأسعار: تعتمد مصر طوال السنوات الماضية على بيع القطن “خام” غير المصنع، والمستورد كان دائما هو المستفيد من القيمة المضافة، لذلك كانت الأسعار ضعيفة ولا تستطيع الحكومة تعويض المزارعين بالسعر المجزي الذي يشجعهم على الاستمرار في الزراعة. كذلك التباطؤ فى حصول المزارعين على مستحقاتهم من بيع المحصول لدى التجار. حيث إن المزارع من خلال نظام التسويق الحر يكون فريسة للتجار، ولا يستطيع الحصول على الثمن الحقيقى لمحصوله. هذا فضلا عن ضعف إمكانيات تصنيع المنسوجات، والخسائر التى تواجه شركات القطاع العام التى تقوم بصناعة منسوجات القطن المصرى.
(*) تناقص المساحات المنزرعة: إن مشكلة تناقص المساحة المزروعة بالقطن تعود بالأساس إلى ضعف أسعاره، وعدم وجود صندوق لدعم المحاصيل الزراعية، كما أن زراعة القطن أصبحت تكبد المزارعين خسائر فادحة، بسبب تدنى العائد من المحصول مع ارتفاع تكاليف الإنتاج والخدمة والعمالة، وضعف التسويق.
جهود مصرية:
عملت الحكومة المصرية منذ عام 2015 تحديدا على إتباع عدة خطط واتخاذ العديد من الخطوات لتحسين إنتاجية وتنافسية القطن المصري، ويتضح ذلك من خلال ما يلى:
(&) خطط استراتيجية: تتبع الدولة المصرية استراتيجية الزراعة لعام 2030، والتى تتضمن خطة طموحة للوصول بالمساحة المزروعة قطناً بمصر إلى 450 ألف فدان بحلول عام 2025، والوصول بها إلى 700 – 800 ألف فدان قطناً بحلول عام 2030. هذا بالإضافة إلى الخطة التي وضعتها الدولة لتوسيع مساحات زراعة القطن بإصدار قرار جمهوري حمل رقم 14 لسنة 2015، بإنشاء مركز الزراعات التعاقدية، وينظم قانون “الزراعة التعاقدية” عمليات بيع الإنتاج الزراعي والحيواني أو الداجني أو السمكي الذي يتم استنادا إلى عقد بيع المنتج بالتوريد طبقا للكميات والأصناف والجودة والسعر.
(&) التوسع فى المدن الصناعية النسيجية: حيث توجهت الحكومة المصرية نحو إنشاء مصانع جديدة وبأحدث التقنيات الموجودة في العالم، من أجل أن يكون لديها تصنيع وتكنولوجيا تليق بالقطن المصري، وهذا بالإضافة إلى تطوير المصانع القديمة. كما وضعت الحكومة خطة لتطوير شركات الغزل والنسيج بقيمة مليار و300 مليون دولار، ذلك الأمر يعظم من قيمة القطن المصري الذي يصدر معظمه إلى الخارج في صورة مواد خام، فكان لابد من استغلال القطن المصري المشهورة عالمياً فى صناعات نسيجية والوصول إلى مستوى تنافسي فى الأسواق العالمي.
هذا إلى جانب توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسى بالتوسع فى المدن النسيجية، ومنها مدينة النسيج التى ستقام بمحافظة المنيا وبمدينة السادات، إلى جانب المصانع التى افتتحها سيادة الرئيس فى منطقة الروبيكى، كما تم تطوير وتعديل الكثير من المحالج والمغازل، وإنشاء أكبر مصنع في الشرق الأوسط للغزل والنسيج في مدينة المحلة على مساحة 62.5 ألف فدان. وذلك لغزل القطن محلياً وزيادة قيمة مضافة إليه، وعدم تصدير القطن المصرى خام إطلاقاً، وتصديره إما فى صورة غزول أو منسوجات، وذلك للحفاظ على قيمة القطن المصرى.
(&) خطط تسعيرية وتسويقية: استعادت مصر جزءاً كبيراً من سيطرتها على سوق القطن الداخلية، مع التحكم التام في عملية التجارة، من خلال تطبيق منظومة التسويق الجديدة، حيث قامت الدولة بتشكيل لجنة وزارية تعمل على هذا الأمر منذ عام 2018، وتقوم بتنفيذ منظومة جديدة يجرى تطبيقها على كافة المحافظات للموسم 2021-2022، حيث تعتمد على بيع الأقطان من خلال نظام المزاد فى مراكز للتجميع بكل مركز إدارى فى المحافظات، بحيث يحصل المزارع على 70% مستحقاته المالية من الشركة الراسى عليها المزاد في اليوم التالي لإجراء المزاد، والـ30ـ% المتبقية خلال أسبوع من إجراء المزاد بعد الفرز وتحديد معدل التصافي والرتب، ويتم التحصيل من خلال أحد البنوك التي يتم التعاون معها في تفعيل هذه المنظومة ,وبالتالي يكون ما قامت به منظومة تداول الأقطان هذا العام من تنظيم مزادات علنية لبيع المحصول وارتفاع الأسعار إلى مبالغ عالية قياسًا بالعام الماضي- تسبب في زيادة الرغبة لدى المزارعين في التوسع في المساحات المنزرعة بالقطن، وأعاد إلى الأذهان الارتباط التاريخي بين الفلاح المصري ومحصول القطن.
في النهاية، يتضح نجاح الخطط المصرية من أجل إنهاء عصر انهيار القطن، فعاد الذهب الأبيض يتصدر قوائم أجود أنواع الأقطان، كما أن زيادة المساحات المنزرعة يساهم في تلبية الاحتياجات الصناعية وتعظيم القيمة المضافة للقطن المصري على المستوى المحلى والدولي، إضافة إلى إقامة صناعات وطنية تعتمد على القطن المصري وتوفر منتجات قطنية عالية الجودة بأسعار ملائمة للمواطنين.فضلاً عن العمل على تقديم التيسيرات المختلفة للفلاحين، ليستمر لقطن المصري يحتل الصدارة بالنسبة للأقطان على مستوى العالم.