د. أبوالفضل الإسناوي يكتب: دكتورة سميرة جمجوم… سيرة بيتٍ أنار أجيالًا

وأنا أتصفّح كتاب بيت آل جمجوم ضمن موسوعة البيوت الحجازية، متنقّلًا بين صفحاته التي توثّق تاريخ بيتٍ عريقٍ في العلم والعمل والريادة، توقّفت طويلًا عند الصفحة 206. لم يكن التوقف مخططًا، ولا بدافع بحثٍ مسبق، بل لأن اسمًا واحدًا شدّ الانتباه بهدوءٍ لافت: الدكتورة سميرة محمد عمر عبدالرووف جمجوم.
لم يكن الاسم مصحوبًا بضجيج أو مبالغة، لكن السطور القليلة المحيطة به كانت كافية لتثير فضول القارئ؛ سيدةٌ من بيتٍ حجازي عريق، اختارت طريق العلم الشرعي، وبلغت فيه أعلى مراتبه، وفي الوقت ذاته لم تنفصل عن أسرتها ولا عن مجتمعها ولا عن واقعها الإنساني.
من تلك الصفحة، بدأ يتشكّل السؤال: ما الذي يجعل شخصية ما، وسط هذا الزخم من الأسماء والسير، قادرة على جذب الانتباه من قراءة عابرة؟ ولماذا بدت سيرة الدكتورة سميرة مختلفة، لا لأنها الأولى أو الوحيدة، بل لأنها تُجسّد نموذجًا متكاملًا لامرأة صاغها بيت العلم، فصاغت بدورها أجيالًا بالمعرفة والتربية والالتزام؟
فبحسب ما توثّقه موسوعة البيوت الحجازية، لم يكن بيت آل جمجوم مجرد انتماء عائلي، بل بيئة ثقافية واجتماعية تشكّلت داخلها قيم حب العلم، والترقي في مراتبه، مقرونة بروح العمل والاستقلال والاعتماد على الذات. وقد انعكس هذا المناخ على رجال البيت ونسائه، فبرز منهم علماء وأطباء ومهندسون وتربويون، وأسهموا في بناء المجتمع السعودي الحديث.
في هذا السياق العام، تبرز الدكتورة سميرة جمجوم بوصفها ثمرةً طبيعية لهذا البيت، لا حالة فردية معزولة. فقد نشأت في بيئة ترى العلم قيمة يومية، وتتعامل مع المعرفة باعتبارها وسيلة لبناء الإنسان وخدمة المجتمع، لا مجرد أداة للوجاهة أو التفوق الشكلي. ومن هنا، كان اختيارها لمسار الدراسات الإسلامية والفقهية اختيارًا واعيًا، جمع بين الالتزام الديني والرؤية العقلية المتزنة.
في زمنٍ لم يكن فيه وصول المرأة إلى أعلى الدرجات العلمية في هذا التخصص أمرًا شائعًا، اختارت سميرة جمجوم أن تمضي في طريق العلم بثبات وصبر. تزوجت في سن مبكرة، وقامت بمسؤولياتها الأسرية كاملة، دون أن تتخلّى عن طموحها العلمي، فمثّلت نموذجًا مبكرًا للتوازن بين الأسرة والإنجاز الأكاديمي. وقد آمنت منذ بداياتها أن العلم لا يثمر دون تربية، وأن المعرفة إن لم تُهذّب السلوك وتبني الوعي، تظل ناقصة الأثر.
حصلت على درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية والفقهية والتشريعية سنة 1396هـ (1976م)، ثم نالت درجة الأستاذية سنة 1411هـ (1991م)، وعملت أستاذة للغة العربية والشريعة الإسلامية بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة. وهناك، لم تقتصر رسالتها على قاعة الدرس، بل امتدت إلى بناء الشخصية، وصقل التفكير، وربط العلم بالمسؤولية المجتمعية، وهو ما جعل أثرها واضحًا في أجيال من الطالبات.
وتنسجم هذه التجربة مع ما تشير إليه الموسوعة في فصل “أعلام سيدات بيت آل جمجوم”، حيث تؤكد أن نساء هذا البيت دخلن مبكرًا مجالات التعليم والعمل العام، وأسهمن في مختلف قطاعات العلم الحديث، ليصبحن نموذجًا للسيدة الحجازية السعودية القادرة على الجمع بين الكفاءة المهنية والالتزام القيمي.
وامتد دور الدكتورة سميرة إلى المجال المجتمعي والإنساني، فكانت عضوًا في مجلس إدارة الجمعية النسائية التابعة لهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية بجدة، وأسهمت في دعم العمل الخيري المؤسسي، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن العالم والمربي لا ينعزل عن قضايا مجتمعه، بل يكون جزءًا من حلها.
وفي مؤلفاتها، مثل “أثر العقيدة في الفرد والمجتمع” و”المعوِّقون للدعوة الإسلامية في عصر النبوة وموقف الإسلام منهم”، قدّمت خطابًا علميًا يجمع بين الأصالة والوعي بالواقع، ويؤكد أن التنوير لا يتناقض مع الإيمان، بل ينطلق منه، ولا يعادي التراث، بل يعيد قراءته بعقل واعٍ ومنهج منضبط.
ولم يتوقف أثرها عند حدود الجامعة أو الكتاب، بل امتد حيًّا في تلاميذها وأبنائها. فقد كانت ترى أن أعظم ما يتركه المربي ليس المعلومة، بل المنهج، وليس الدرس، بل طريقة التفكير. ويأتي من بين أبنائها الدكتور مازن بترجي مثالًا لهذا الامتداد التربوي، حيث يعكس مساره العلمي والمهني أثر بيئة نشأت على احترام العلم وربط النجاح بالمسؤولية المجتمعية. فقد برز في القطاع الصحي والصناعي، وأسهم في دعم مبادرات تتعلق بتوطين الصناعات الدوائية، وتعزيز الأمن الصحي، والمشاركة في مشروعات ذات بعد إنساني وتنموي، في تجسيد عملي للقيم التي نشأ عليها داخل هذا البيت.
إن قراءة سيرة الدكتورة سميرة جمجوم في ضوء السياق الذي تقدّمه موسوعة البيوت الحجازية تكشف بوضوح أن تنوير الشخصية يبدأ من البيت، ويترسخ بالعلم، ويكتمل بخدمة المجتمع. وهو ما يجعل تجربتها نموذجًا حيًا لكيف يمكن للمرأة السعودية، حين تنشأ في بيئة تقدّر المعرفة وتمنح الثقة، أن تصنع أثرًا يتجاوز جيلها، ويظل حاضرًا في الوعي والمسار.
رحم الله الدكتورة سميرة محمد عمر عبدالرووف جمجوم، وأسكنها فسيح جناته، وجعل ما قدّمته من علمٍ وتربيةٍ وخدمةٍ للإنسان في ميزان حسناتها، وجزاها عن أجيالٍ أنارت عقولها وربّت وعيها خير الجزاء.