د. أبو الفضل الإسناوي يكتب.. أين اتفقا مالك بن نبي وعلي محمد الشرفاء الحمادي؟

قد تبدو المسافة بين مفكرٍ جزائري عاش في منتصف القرن العشرين، وآخرٍ إماراتي يعيش في مطلع القرن الحادي والعشرين بعيدة زمنًا ومكانًا، لكنّها في جوهر الفكر ليست كذلك. فمالك بن نبي الذي جعل من “الإنسان” محور الحضارة، وعلي محمد الشرفاء الحمادي الذي جعل من “الإنسان المؤمن” محور الوعي والنهضة، كلاهما التقيا على أرضٍ واحدة هي الإيمان بالعقل، واليقين بأن أزمة الأمة ليست في المال ولا في السياسة، بل في الفكر الذي تعطّل وفي الوعي الذي ضلّ طريقه. أحدهما انطلق من همّ النهضة بعد الاستعمار، والآخر من همّ استعادة النور بعد عصور الجمود والانغلاق، لكن الاثنين التقيا عند نقطة واحدة تقول إن الخلل الأكبر في العالم الإسلامي هو غياب الفكرة المحرّكة، وضياع العلاقة السليمة بين الإنسان والخالق، وبين الفكر والواقع.

مالك بن نبي وعلي محمد الشرفاء الحمادي،- كلاهما أراد أن ينقذ الإنسان من عبودية الخارج ومن عبودية الداخل، وأن يعيد له قدرته على التفكير والتدبر والعمل. فإذا كان ابن نبي قد رسم الطريق نحو النهضة بالفكر والعمل، فإن الشرفاء يذكّرنا بأن هذا الطريق لا قيمة له ما لم يُضاء بنور الإيمان الصحيح.

مالك بن نبي لم يكن مجرد فيلسوف حضارة، بل طبيبًا لتاريخ أمةٍ أنهكها التبعية الفكرية. أراد أن يعرف لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم، ففتش عن الجواب في الإنسان قبل أن يبحث عنه في الأرض أو الزمن. وضع معادلته الشهيرة التي تقول إن الحضارة هي حاصل جمع الإنسان والأرض والزمن في علاقةٍ متوازنة، فإذا اختلّ أحد عناصرها تعطلت الحضارة كلها. وكان يرى أن كل انهيار حضاري يبدأ حين يفقد الإنسان فكرته الكبرى، فيتحول من فاعلٍ إلى تابع، ومن صانعٍ إلى مستهلك. وسمّى تلك الحالة “القابلية للاستعمار”، أي استعداد النفوس لقبول الهزيمة لأنها فقدت المناعة الفكرية التي تحميها من الاستعباد. في المقابل، يطلّ علي محمد الشرفاء من واقعٍ معاصر يعجّ بالصراعات والفتاوى والاختلافات المذهبية، ليرى أن الأمة اليوم واقعة تحت نوعٍ آخر من الاستعمار، ليس سياسيًا بل دينيًا، حيث احتكر رجال الدين مفاتيح الفهم، وأغلقوا باب العقل باسم القداسة، ففقد الإنسان المسلم حريته الروحية وقدرته على التفكير. لذلك يدعو الشرفاء إلى العودة للقرآن كمصدرٍ أوحد للهداية، لأنه الكتاب الذي يخاطب العقل والضمير في آنٍ واحد، ويرفض الوساطة بين الإنسان وربه.

ورغم أن ابن نبي ينتمي إلى المدرسة الفكرية التي تتعامل مع قضايا النهضة بآليات التحليل الاجتماعي والفلسفي، والشرفاء ينتمي إلى تيار إصلاحي يزاوج بين الدعوة والتنوير، فإن الرؤية النهائية واحدة. كلاهما يرى أن النهضة تبدأ من الوعي، وأن الوعي لا يُبنى إلا على حرية التفكير، وأن الحرية لا معنى لها ما لم تُقرن بالمسؤولية الأخلاقية والدينية. عند ابن نبي، الإنسان هو محور الحضارة لأنه يحمل الفكرة التي تحرك التاريخ. وعند الشرفاء، الإنسان هو خليفة الله في الأرض لأنه يحمل الأمانة التي تحرك الإيمان. الأول يتحدث عن “الإنسان الحضاري”، والثاني عن “الإنسان المؤمن”، وكلاهما يتحدث عن إنسانٍ واحد هو الذي فقد ذاته حين استسلم للخرافة أو التبعية أو الجمود.

في كتب مالك بن نبي مثل شروط النهضة ومشكلة الثقافة وميلاد مجتمع نجد دعوة صريحة لإعادة بناء الفكرة الإسلامية على أسسٍ عقلية وروحية متوازنة، إذ يرى أن الثقافة ليست معلوماتٍ تحفظ بل سلوكٌ يعيش، وأن الحضارة لا تنمو بالصدفة بل بوعيٍ منظم. أما علي محمد الشرفاء فيكتب في مقالاته وكتبه مثل القرآن دستور المسلمين ورسائل السلام والقرآن مفتاح العزة وبوابة النصر، مؤكدًا أن الأمة لا يمكن أن تنهض ما دامت تحيا على روايات متناقضة وخطابٍ ديني موروث فقد بوصلة الرحمة والحرية التي جاء بها الإسلام. فكلاهما يدعو إلى التجديد، لا بمعناه الشكلي، بل بمعناه الجوهري الذي يعيد للإنسان حريته في التفكير والتعبير والإيمان.

تتجلى وحدة الرؤية بين الرجلين في موقفهما من علاقة الدين بالحياة. فمالك بن نبي رأى أن الإسلام في جوهره رسالة حضارية تدعو إلى العمل والعلم والعقل، وليست مجرد طقوسٍ وشعائر. وقد كتب يقول: “الإسلام فكرة دافعة إلى العمل، لا شعارٌ يُرفع في المناسبات.” وعلي محمد الشرفاء يردّد المعنى نفسه بصياغةٍ معاصرة حين يقول إن الدين الذي لا يصنع سلوكًا لا قيمة له، وإن العبادة بلا وعي لا تقرب إلى الله بل تكرّس الجهل. فكلاهما يرفض الانفصال بين الإيمان والعقل، لأن العقل عندهما طريق الإيمان لا نقيضه. ولذلك، فإنهما يشتركان في موقفٍ مضاد لكل أشكال التعصب والانغلاق، فمالك بن نبي حذّر من “الانحباس الثقافي” الذي يجعل الأمة تعيد إنتاج نفسها دون تجديد، والشرفاء حذّر من “الانغلاق الديني” الذي يجعل الناس يعبدون النصوص دون أن يفهموا مقاصدها.

لكن التقاء الفكرين لا يعني تطابقهما، فبينهما اختلافٌ في زاوية الرؤية أكثر منه في الهدف. فمالك بن نبي اهتم بالتحليل التاريخي والاجتماعي لظاهرة التخلف، وتحدث بلغة المفاهيم والنظريات، بينما علي محمد الشرفاء يتحدث بلغة الوجدان والإصلاح العملي، يخاطب العامة والنخبة معًا، ويدعو إلى ثورة هادئة تبدأ من القلب وتنتهي إلى السلوك. ابن نبي يقدّم تشخيصًا حضاريًا لمرض الأمة، والشرفاء يصف العلاج الروحي والفكري الذي يعيد التوازن بين الإيمان والفكر. كلاهما في الحقيقة يُكمل الآخر، فلو اجتمع فكر ابن نبي التحليلي مع روح الشرفاء الإصلاحية، لوجدت الأمة مشروعًا حضاريًا متكاملًا يعيد للعقل نوره وللروح صفاءها.

إنّ المشترك الأعمق بين المفكرين هو الإيمان بأن الإنسان هو غاية الرسالات ووسيلة النهضة في الوقت ذاته. فمالك بن نبي رأى أن الله لم يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم، وأن التغيير يبدأ من داخل الضمير قبل أن يظهر في السياسة أو الاقتصاد، وعلي محمد الشرفاء يرى أن الإسلام لم يأتِ ليفرض الوصاية على العقول بل ليحررها من الخوف. وكلاهما يستند في مشروعه إلى أصلٍ قرآني واحد هو الحرية التي هي جوهر التكليف. فابن نبي يجعل الحرية الفكرية شرطًا للإبداع الحضاري، والشرفاء يجعلها شرطًا لصحة الإيمان، لأن عبادة الله لا تكون عن إكراهٍ ولا تقليدٍ بل عن وعيٍ ومحبةٍ وإدراك. ومن هنا تتقاطع رسالتهما في أن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من السلطة بل من الإنسان، ولا يتحقق بالشعارات بل بالتربية الفكرية والروحية التي تُعيد للإنسان إنسانيته.

لقد واجه مالك بن نبي في زمانه مجتمعًا خرج من الاستعمار الجسدي لكنه بقي مستعمَرًا فكريًا، فكانت معركته مع الجهل والتبعية. ويواجه علي محمد الشرفاء اليوم مجتمعًا غارقًا في الانقسام الديني والمذهبي، فمعركته مع التحريف والتعصب. غير أن كليهما واجه عدوًّا واحدًا هو “الجمود”، ذلك العدو الذي يلبس أثوابًا متعددة: مرة باسم الحداثة المزيّفة، ومرة باسم الدين الموروث. في هذا السياق، يدعو ابن نبي إلى “تجديد الفكرة” التي تبعث الحياة في المجتمع، بينما يدعو الشرفاء إلى “تجديد الفهم” الذي يعيد للإيمان صفاءه. والنتيجة واحدة: أن الأمة لن تقوم إلا حين تجدد فكرها ودينها معًا في ضوء القرآن والعقل.

وحين نتأمل لغتهما، نجد أن ابن نبي يتحدث بلسان المفكر الذي ينظر من علٍ إلى حركة التاريخ، أما الشرفاء فيتحدث بلسان الداعية الذي يخاطب الضمير مباشرة، لكن كلا اللسانين يصدر عن قلبٍ واحد يؤمن بأن الإسلام مشروع حضاري عالمي لا يمكن حصره في حدود الطقوس أو القوانين. فمالك بن نبي يرى في الإسلام “منهج حياة” يربط السماء بالأرض، والشرفاء يرى فيه “ميثاقًا إنسانيًا” يربط الإنسان بخالقه على أساس الرحمة والعدل. كلاهما يرفض التوظيف السياسي أو المذهبي للدين، ويؤمن بأن الرسالة المحمدية جاءت لتحرير الإنسان لا لاستعباده.

إن المقارنة بين الرجلين تكشف أن كلًّا منهما قد أدرك وجهًا من أوجه الأزمة، وأن فكرهما في جوهره ليس متوازيًا بل متكاملًا. فمالك بن نبي يمدّ الأمة بخريطة طريق فكرية لفهم شروط الحضارة، والشرفاء يمدّها بالبوصلة الإيمانية التي تضبط الاتجاه. الأول يشعل العقل، والثاني يوقظ الضمير، والأمة تحتاج إلى كليهما معًا. ومن هنا يمكن القول إن اتفاقهما ليس مصادفة فكرية بل قدرٌ حضاري، لأن كل نهضة تحتاج إلى مفكرٍ يُعيد بناء العقل، ومصلحٍ يُعيد بناء الإيمان، وبدون هذا التكامل تظل الأمة تدور في حلقة مفرغة من التناقض بين الفكر الجامد والدين المنغلق.

لقد أراد مالك بن نبي أن يرى الإنسان المسلم وهو يصنع التاريخ بإيمانه وعقله، وأراد علي محمد الشرفاء أن يرى هذا الإنسان وهو يعود إلى ربه بالصدق والحرية. الأول كتب عن “الحضارة” كفعلٍ إنساني يتجلى في العمران والمعرفة، والثاني كتب عن “الإيمان” كفعلٍ روحي يتجلى في السلوك والأخلاق، لكن الاثنين التقت كلمتهما في أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. هذه الآية كانت محور فكر ابن نبي في تفسير حركة التاريخ، ومحور فكر الشرفاء في تفسير حركة القلب. وهكذا التقت الحضارة بالعبادة، والفكر بالعقيدة، والعقل بالروح، ليقول الاثنان للأمة رسالة واحدة بلُغتين مختلفتين: عودوا إلى الإنسان الذي بداخلكم، لأنه هو مفتاح النهوض والعزة.

وفي نهاية المطاف، فإن لقاء مالك بن نبي وعلي محمد الشرفاء الحمادي ليس مجرد تقاطع بين مفكرين من عصرين، بل هو لقاء بين عقلٍ بنى معادلة الحضارة وروحٍ أرادت أن تزرع فيها الإيمان. كلاهما أراد أن ينقذ الإنسان من عبودية الخارج ومن عبودية الداخل، وأن يعيد له قدرته على التفكير والتدبر والعمل. فإذا كان ابن نبي قد رسم الطريق نحو النهضة بالفكر والعمل، فإن الشرفاء يذكّرنا بأن هذا الطريق لا قيمة له ما لم يُضاء بنور الإيمان الصحيح. وعندما يتلاقى فكر ابن نبي الذي يُحيي العقل مع فكر الشرفاء الذي يُوقظ الضمير، يمكن للأمة أن تخرج من ظلمات التخلف إلى نور النهضة، لأن الحضارة لا تُبنى بالحجر بل بالإنسان، ولا يحيا الإنسان إلا بالفكر والإيمان معًا.

د.أبو الفضل الاسناوي

المدير الأكاديمي لمركز رع للدراسات الاستراتيجية -حاصل على دكتوراه في النظم السياسية من جامعة القاهرة في موضوع الأداء البرلماني في دول الشمال الأفريقي. -حاصل على ماجستير في النظم السياسية عن موضوع النظام السياسي والحركات الإسلامية في الجزائر. -مدير تحرير مجلة السياسة الدولية بالأهرام. - مدير وحدة الدراسات بقطاع القنوات الإخبارية بالشركة المتحدة للخدمات الإعلامية. - أستاذ العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والإدارة ونظم المعلومات بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا. -كاتب في العديد من المجلات العلمية وخبير مشارك في العديد من مراكز الدرسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى