د. أبو الفضل الإسناوي يكتب.. مبدأ النزاهة واحترام النفس في فكر الشرفاء الحمادي

كنت أبحث عن ذاتي بين مستويات اليقين والصدق النفسي، أتنقّل بين العديد من الأوراق التي كتبها مفكرون وعلماء، منهم المفكر الدكتور أحمد عمر هاشم، والمفكر الجزائري العميق مالك بن نبي، والمفكر الإماراتي وصاحب مدرسة الإصلاح الديني علي محمد الشرفاء الحمادي، ومن جيل الشباب الحبيب علي الجغري.
هؤلاء المفكرون، وغيرهم من أجيال عربية مختلفة، اتفقوا على أن مبدأ النزاهة واحترام النفس لا يتجزأ؛ فهو في فكرهم أشبه بمبنى له جدران وأساس، فإذا سقط الأصل سقط الكل، وإذا بُني الأساس من مواد خام رديئة فَسقوطه وارد ومؤكد.

في ليلةٍ صاحبني فيها المرض، وكان الألم صديقًا غير مرغوبٍ فيه، طال فيها سهري، فاضطررت إلى أن أجمع أوراق هؤلاء المفكرين وما كتبوه عن مبدأ النزاهة واحترام النفس.
استمتعت كثيرًا، وكلما قرأتُ وقارنتُ بين رؤى هؤلاء المفكرين حول احترام النفس، تعمّقتُ في معنى المفهوم والمبدأ، وحاولتُ أن أحدّد موضع نفسي بين درجات النفس الصالحة.
لكنّني تخوّفت من أن يكون إعلاني عن حقيقة نفسي ودرجتها بين الصالحين غير موضوعي، ولا عجب في ذلك لمن يتابعني.
وللهروب من “قال وقيل”، اضطررتُ أولًا إلى أن أشرح للقراء كيف تموضع مبدأ النزاهة واحترام النفس عند كل المفكرين السابقين.
وللتوضيح، وحتى أعقد مقارنةً رأسيةً بين جميع المفكرين، قسمتُ مقالي إلى عدد من الحلقات، فبدأتُ برؤية علي محمد الشرفاء الحمادي حول مبدأ النزاهة واحترام النفس.

القراءة المعمّقة لكتابات مفكرنا تجعلنا نستعرض أولًا أن فكر علي محمد الشرفاء الحمادي يتميّز بكونه مشروعًا إنسانيًّا قبل أن يكون تنظيرًا فكريًّا؛ مشروعًا يُعيد الاعتبار لقيمة الإنسان في ذاته، ويستنهض الضمير الإنساني ليعيد ترتيب العلاقة بين الدين والأخلاق والسلوك.
ومن بين ركائز هذا المشروع يبرز مبدأ النزاهة واحترام النفس باعتباره نقطة التقاء بين الإيمان الصادق والكرامة الإنسانية والمسؤولية الاجتماعية.

النزاهة.. التزام لا شعار:

المعادلة البسيطة للمشروع القيمي عند على محمد الشرفاء،- هي: “من صان نزاهته صان كرامته، ومن احترم نفسه احترمه الناس، ومن عاش بضميرٍ حيٍّ عاش في سلامٍ مع الله والناس.”

هذه المعادلة تختصر جوهر فكره الإصلاحي: الدين لا يكتمل بالعبادة وحدها، بل بالاستقامة والكرامة.

في رؤية الشرفاء الحمادي، النزاهة ليست قيمةً نظريةً ولا مجرّد وعظٍ أخلاقي، بل هي سلوكٌ يوميٌّ يعكس صدق الإيمان، لأنها تنبع من الداخل لا من سلطة الخارج.
النزاهة في فكره هي حالة من الاتساق بين القول والفعل، بين ما يُعلن الإنسان وما يُبطنه، وهي المعيار الحقيقي لجوهر التدين.

ويؤكد الحمادي في العديد من كتاباته أن الله تعالى لم يربط الإيمان بالمظاهر، بل بالاستقامة، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾.
فالاستقامة هنا — كما يشرح — هي أرقى درجات النزاهة، لأنها تعني أن يعيش الإنسان وفق ما يؤمن به دون رياء أو مصلحة.

ومن هذا المنطلق، تصبح النزاهة في فكر الحمادي موقفًا حضاريًا؛ فهي تعني مقاومة الكذب والنفاق والفساد، ورفض الانحياز على حساب الحقيقة، سواء في القول أو الفعل أو الفكر.
ولهذا يرى أن انهيار القيم في المجتمعات ليس أزمةً اقتصادية أو سياسية، بقدر ما هو أزمة نزاهة، حين يتجرّد الإنسان من ضميره ويتحوّل إلى تابعٍ يخشى الناس أكثر مما يخشى الله.

احترام النفس.. جوهر الكرامة الإنسانية:

يرى الحمادي أن احترام النفس ليس غرورًا ولا اعتدادًا بالذات، بل هو إدراكٌ لقيمة الإنسان وكرامته التي وهبها الله له، واستحضارٌ دائم لمسؤوليته عن أفعاله واختياراته.

ففي تفسيره لآية ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾، يشير إلى أن هذا التكريم ليس منحةً مطلقة، بل تكليفٌ بالوعي والسلوك الراقي؛ فمن يفقد احترامه لنفسه يفقد احترام الآخرين، ومن يتنازل عن ضميره يفقد إنسانيته.

ويعتبر الحمادي أن احترام النفس هو خط الدفاع الأول ضد الانحدار الأخلاقي والاجتماعي، لأن الإنسان الذي يوقّر ذاته لا يمكن أن يبيع ضميره ولا يشارك في ظلمٍ مهما كانت الإغراءات أو الضغوط.

احترام النفس في فكر الحمادي هو أيضًا تحررٌ من التبعية الفكرية؛ فالمؤمن الحقيقي لا يُسلِّم عقله لغيره ولا يقدّس الأشخاص، لأن التكريم الإلهي للعقل هو أعظم صور احترام النفس.
ومن هنا جاءت دعوته المتكررة إلى تحرير الفكر الديني من سلطة النقل الأعمى والتقليد الموروث، والعودة إلى نور القرآن باعتباره مصدر الهداية والحرية.

الترابط بين النزاهة واحترام النفس:

النزاهة واحترام النفس في فكر الحمادي وجهان لعملة واحدة؛ فالنزاهة هي الصدق مع الله، واحترام النفس هو الصدق مع الذات. ومن يجمع بينهما يعيش متوازنًا بين الإيمان الداخلي والمسؤولية الاجتماعية.

فالنزيه يحترم نفسه لأنه لا يخون ضميره، وصاحب النفس المحترمة لا يقبل أن يكون أداةً في يد من يضلّ الناس باسم الدين أو السياسة.
وهكذا تتكامل القيمتان في تشكيل ما يمكن تسميته بـ “الضمير الإنساني القرآني” الذي يدعو إليه الحمادي — ضمير لا يعرف المساومة على الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم.

في هذا السياق، يشير الحمادي إلى أن أولى خطوات الإصلاح تبدأ من تربية الضمير قبل تغيير الأنظمة، لأن المجتمع النزيه هو نتاج أفرادٍ أحرارٍ يحترمون ذواتهم ويؤدّون أماناتهم بإخلاص.
فحين تتجذر النزاهة في الفرد تزدهر في الجماعة، ويتحول احترام النفس إلى ثقافة عامة ترفض الانحراف وتحتقر النفاق.

البعد الإنساني والحضاري للمبدأين:

ينطلق فكر علي محمد الشرفاء الحمادي من رؤية شمولية للإنسان باعتباره محور البناء الإلهي في الأرض؛ فالإعمار لا يتحقق إلا بإنسانٍ نزيهٍ يحترم نفسه والآخرين، يؤمن بالعدل، ويصون الكلمة من التزييف.

وهو يربط بين فقدان النزاهة وبين تراجع الحضارات، مستشهدًا بتاريخ الأمم التي انهارت حين خانت مبادئها، وازدهرت حين جعلت من الصدق والكرامة قاعدةً للنهضة.

ويحذر من أن الشعوب التي تفقد احترامها لذاتها تُصبح عاجزةً عن مقاومة الظلم أو استعادة مكانتها، لأن فقدان الكرامة يسبق دائمًا فقدان الحرية.

من هنا يمكن القول إن مبدأ النزاهة واحترام النفس في فكر الحمادي ليس مجرد دعوةٍ أخلاقية، بل خريطة طريقٍ لإصلاح الإنسان والمجتمع. إنه مشروعٌ يعيد الإنسان إلى إنسانيته، ويجعل من الدين رسالةً للارتقاء لا وسيلةً للهيمنة.

خاتمة، يُلخّص علي محمد الشرفاء الحمادي مشروعه القيمي في معادلة بسيطة: “من صان نزاهته صان كرامته، ومن احترم نفسه احترمه الناس، ومن عاش بضميرٍ حيٍّ عاش في سلامٍ مع الله والناس.” هذه المعادلة تختصر جوهر فكره الإصلاحي: الدين لا يكتمل بالعبادة وحدها، بل بالاستقامة والكرامة.
فالنزاهة هي التعبير العملي عن الإيمان، واحترام النفس هو الدليل على نضج الوعي، وبينهما يتشكّل الإنسان الحر الذي يعبُد الله حقًّا، ويعمّر الأرض بصدقٍ وعدلٍ وسلام.

د.أبو الفضل الاسناوي

المدير الأكاديمي لمركز رع للدراسات الاستراتيجية -حاصل على دكتوراه في النظم السياسية من جامعة القاهرة في موضوع الأداء البرلماني في دول الشمال الأفريقي. -حاصل على ماجستير في النظم السياسية عن موضوع النظام السياسي والحركات الإسلامية في الجزائر. -مدير تحرير مجلة السياسة الدولية بالأهرام. - مدير وحدة الدراسات بقطاع القنوات الإخبارية بالشركة المتحدة للخدمات الإعلامية. - أستاذ العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والإدارة ونظم المعلومات بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا. -كاتب في العديد من المجلات العلمية وخبير مشارك في العديد من مراكز الدرسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى