الوجه الآخــــــــــر: الإدارة المصرية لأزمة جنوح حاوية “إيفر جيفن” بقناة السويس

تستمر الجهود المصرية الحثيثة في التعامل مع حادث جنوح السفينة “إيفر جيفن” بقناة السويس، وذلك وفق القواعد والاسترشادات المتعارف عليها دوليًا في التعامل مع مثل هذا النوع من الحوادث، وهي جهود محل تقدير واحترام من كافة دول العالم، حيث أكدت دول عديدة على رأسها الولايات المتحدة تقديرها لجهود الدولة المصرية على التعامل مع الأزمة، وثقتها في ما تمتلكه من خبرة طويلة في إدارة مثل هذه الأزمات.

كما أعربت كثير من الدول استعدادها للتعاون مع الدولة المصرية –حال رغبت مصر في ذلك- في تقديم المساعدة الاستشارية والفنية في عملية تعويم السفينة. لكن على ما يبدو حتى وقت كتابة هذا التحليل أن العملية بالفعل معقدة، ارتباطًا بحجم السفينة العملاق، ومدى سماح المجرى الملاحي لعملية تخفيف الحمولة من على متن تلك السفينة؛ لتسهيل عملية التعويم الجزئي لها، علاوة على تعقيدات فنية ولوجستية أخرى يدركها المتخصصون في مثل هذه الحوادث التي تجعل المدى الزمني المتوقع لإنهاء هذا الموقف غير معروف بدقة، وهو ما يجعلنا في هذا التحليل نتحدث عن توصيف أدق للموقف، خاصة أننا بالفعل أمام حالة أشبه بالأزمة، وهو ما يستوجب التعامل معها وفق استراتيجيات علم إدارة الأزمات، وهو بالفعل الجانب الخفي على كثيرين ممن يتابعون هذا الحادث.

تأسيسًا على ما سبق سنحاول إبرازه في هذا التحليل، فما نراه حتى الآن باختصار هو ملحمة وطنية تشارك فيها كافة أجهزة الدولة وعلى رأسها هيئة قناة السويس، الذين يواصلون الليل بالنهار للتعامل مع الموقف بكل تعقيداته، ليس فقط من أجل إعادة فتح المجرى الملاحي، لكن تحسبًا لسيناريوهات أخرى كثيرة قد تكون خافية على البعض.

تحليل التغطيات الإعلامية للحادث:

من خلال متابعة ورصد معظم ما تناولته وسائل الإعلام المحلية والدولية بخصوص هذا الحادث، سنجد تجاهل من جانبها لمسألة الإدارة المصرية الهادئة للأزمة، بل تعمد البعض تشويه الصورة، بينما وُجهت الأنظار وصوبت الأقلام للتركيز على ثلاث اتجاهات:

الإتجاه الأول: من خلال المبالغة في رصد أرقام وإحصائيات بخصوص تأثير إغلاق القناة على الاقتصاد الدولي وحركة التجارة وأسعار النفط، رغم أن الحادث لم يتجاوز مداه الزمني حتى الآن أقل من أسبوع تقريبًا، والأزمة قد تحل في أي وقت.

بالتالي، يصعب وضع مؤشرات كلية للإقتصاد الدولي وللتجارة الدولية أو حتى لأسعار بعض المشتقات الهيدركربونية وغيرها، في مدى زمنى صغير، لأن الفترة التي تم فيها تعطيل الملاحة في القناة يمكن تعويضها في مدى زمني لا يتجاوز أيام؛ لتخفيف عدد السفن المنتظرة في البحر الأحمر والبحر المتوسط، ولإعادة الإنسيابية للقناة كما كانت قبل الحادثة، خاصة أن الممر الملاحي نفسه لم يتأثر بالحادث، فقط السفينة التي تسببت في إغلاق عرضي للمر، نتيجة جنوحها في اتجاه إحدى جوانب القناة، وبمجرد تعويمها لمنطقة البحيرات المرة شمالًا ستنتهي الأزمة.

الإتجاه الثاني: ركزت عليه بعض وسائل الإعلام المعادية لمصر، والتي من ناحية حاولت استغلال الحادث للتقليل من إنجاز عملية إزدواج القناة، التي تمت في أجزاء من الممر الملاحي وليس كله، لإعتبارات جيولوجية بحته، يعرفها المتخصصون، ولم تكن بالطبع خافية عن تفكير الخبرات المصرية التي نفذت مشروع إزدواج القناة (القناة الجديدة). وبالقطع الهدف الأكبر لهم هو التأثير في شعبية القيادة السياسية، وشرعية منجزاتها في مجال البنية التحتية وغيرها والمشروعات القومية العملاقة، والذي كان مشروع قناة السويس الجديدة أحد علاماتها المضيئة.

الإتجاه الثالث: يحاول استغلال الحادث لإعادة ضخ بعض المفاهيم المغلوطة بخصوص التشكيك في مدى قدرة قناة السويس على الاستمرار في المنافسة كممر مائي دولي خلال السنوات القادمة، والترويج لمشروعات دولية أخرى، بعضها موجود بالفعل، وبعضها جاري تنفيذه مثل الممر الشمالي من روسيا عبر بحر البلطيق إلى أوروبا، ومشروع الصين العملاق (الحزام والطريق)، وبعضها لا يزال قيد الدراسات الفنية مثل مشروع قناة  البحر الميت. وهي محاولات مكشوفة، سبق تجربتها أكثر من مرة وفشلت، لسبب واحد وهو الموقع المتفرد لقناة السويس ولمصر في قلب العالم، والذي لا ينافسها فيه ممر دولي أخر، سواء كان قائم أو في طور الإنشاء. بالتالي يمكن القول، إن الحادثة أعادت تذكير العالم بأن قناة السويس ممر دولي لا بديل عنه للعالم، وأن استقرار مصر وقوة مصر مهم للعالم أيضًا للحفاظ على هذا الشريان الدولي وضمان بقاءه مفتوحًا أمام حركة التجارة والعبور الدوليين، وفق الاتفاقيات الدولية ذات الشأن.

حادث أم أزمة.. ضبط المصطلحات

بداية لابد أن نتفق على المصطلحات الخاصة بالتعامل مع هذا الموقف: هل هو حادثة أم أزمة، ولا نريد أن نستطرد كثيرًا في توضيح الفرق النظري بين المفهومين. فالحادثة، باختصار تعني وقوع حادث أو مشكلة في نطاق زمني محدد، ينتهي بزوال أسبابه، وبالرجوع لتاريخ الحوادث التي شهدتها قناة السويس عبر تاريخها سنجده قليل مقارنة بالفترة الطويلة لتشغيل القناة، وهي أربعة حوادث، الأولى: وقعت في  10 يونيو 1885، عندما اصطدمت كراكة مع سفينة، وأدّى ذلك إلى غرق الكراكة وتعطّلت الملاحة 11 يومًا. والحادثة الثانية: كانت في 2 سبتمبر 1905 عند الكيلو 18، عندما اصطدمت سفينتان، ما أدّى إلى اشتعال النار في إحداهما، وتسبّبت هذه الحادثة في تعطيل الملاحة 10 أيام. والحادثة الثالثة: كانت في سبتمبر 1952 بسبب غرق إحدى السفن عند الكيلو 85 في القطاع الشمالي بالقرب من مدينة بورسعيد. بينما تعرضت قناة السويس لفترات إغلاق طويلة أثناء الحرب العالمية الأولى والثانية وأثناء العدوان الثلاثي على مصر وأثناء حرب 1967. والحادث الرابع: كان في عام 1997 نتيجة جنوح ناقلة بترول بنفس وضعية سفينة الحاويات الجانحة حاليا بعرض القناة، وتم وقف الملاحة آنذاك ما يقرب من 3 أيام وعادت الملاحة  بشكل طبيعي.

أما الأزمة فهي تعبير عن وقوع مشكلة لمدى زمني طويل، ولها محددات كثيرة تتعلق بما يسمى بدورة حياة الأزمة بدءً من نشوءها مرورًا بتصاعدها إلى انحسارها ثم انتهائها. بالنظر للموقف الحالي فيما يتعلق بحادث جنوح السفينة في المجرى الملاحي، فإنها حتى الآن لا تزال تدور في مساحة وسط بين الحادث والأزمة، حيث يرجع ذلك للصعوبات الكثيرة التي تواجه عملية تعويم السفينة، وبعض التوقعات بأن هذه العملية قد تستغرق وقت غير معروف، قد يطول وقد يقصر، حسب مجريات الأحداث خلال الأيام القادمة.

لكن بالنظر لطبيعة قناة السويس كممر ملاحي دولي، وما تمثله من شريان حياة لدول العالم، وما يمكن أن يؤدي إليه طول فترة التعامل مع الحادث من تأثيرات سلبية على سلاسل التوريد التجاري والغذائي والصناعي حول العالم، ومن ارتفاع متوقع في تكلفة التأمين على المخاطر، في حال لجأت الدول لطرق بديلة، ذات كلفة ومعدل خطورة أعلى، بالتالي فإن الحادث يرقى لمستوى الأزمة المحلية التي ذات أبعاد دولية، ارتباطًا بعدة أمور منها جنسية السفينة المتسببة في الحادث، وحدود المسئولية القانونية فيما يتعلق بالتعويضات وإصلاح الضرر وغيرها، كذلك فيما يتعلق بالتعاون الدولي مع السلطات المصرية لحل الأزمة، من خلال الدفع بفرق استشارية متخصصة في التعامل مع مثل هذا النوع من الحوادث، والاستعانة كذلك ببعض المعدات المتقدمة التي تملكها بعض الدول الكبرى(كما شاهدنا في تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن بخصوص استعداد واشنطن للمساعدة بمعدات كبيرة، لا تملكها سوى قلة من الدول حول العالم، والحديث عن قدوم معدات من فرنسا للمساهمة في جهود تعويم السفينة الجانحة).

الإدارة المصرية للأزمة.. تضافر القدرات مع الخبرة الوطنية 

يتضح من المتابعة للجهود التي تقوم بها مصر للتعامل مع هذه الأزمة أن مصر تديرها بكفاءة واقتدار وفق كثير من القواعد العلمية المعروفة، ووفق الخبرات الفنية، واحتياطات الأمن والسلامة، وخطط الطواراىء.. وغيرها من العناصر ذات الارتباط. وأيضًا من خلال الاستفادة من الخبرات المصرية وما أكتسبته هيئة قناة السويس من خبرات عملية متراكمة في التعامل مع مثل هذا النوع من الحوادث العارضة، إلى جانب الدروس المستقاة من بعض الأزمات والحوادث التي تعرضت لها بعض الموانئ أو الممرات الدولية على مختلف المستويات سواًء كانت أزمات إقتصادية أو وبائية أو أزمات ناتجة عن عمليات التشغيل أو التداول أو التخزين، وربما كان أخرها ما حدث فى لبنان من إنفجار مرفأ بيروت، وما أبرزه من ضرورة وجود نظم إدارة للأزمات والمخاطر فى الممرات الحيوية والموانئ الاستراتيجية حول العالم، حيث أنشاءت مصر مبكرًا  هيئة السلامة البحرية لمواجهة الأزمات والحوادث البحرية، كما تملك القوات البحرية المصرية قدرات عالية فى إدارة الأزمات والحوادث البحرية بما لديها من استعدادات وجاهزية عالية لمواجهة الأزمات .

وبخصوص آليات إدارة الأزمة الخاصة بالسفينة إيفن جرين، كشف رئيس هيئة قناة السويس المصرية الفريق أسامة ربيع، تفاصيل الجهود وملامح إدارة الأزمة من جانب الفريق المشكل(فريق الأزمة) سواء على المستوى الفني الخاص بجهود التعويم الجزئي وشد السفينة من مكان الارتطام لمكان آمن، أو على المستوى الاستراتيجي الخاص بالتعامل مع بعض الأبعاد والسيناريوهات غير المتوقعة، كذلك في مرحلة ما بعد إنتهاء الأزمة، وهي على النحو التالي:

  • تشكيل لجنة أزمة، للتعامل مع الموقف، برئاسة رئيس هيئة قناة السويس وبمشاركة كافة مؤسسات الدولة المعنية.
  • الاستعانة بالخبرة الدولية لشركة الإنقاذ الهولندية “سميت” باعتبارها أكبر شركة عالمية في مجال تعويم السفن العالقة.
  • وضع خطط الإنقاذ، ومحاولة تنفيذ مراحل الخطة، مع التحسب لكل طارى (تعديلات على الخطة).
  • إجراء عمليات تكريك بمنطقة جنوح السفينة بالكيلومتر 151، تمهيدًا للبدء في أعمال الشد، عن طريق (الكراكة مشهور)، وهي إحدى الكراكات التابعة للهيئة، مع مراعاة طبيعة التربة بالمنطقة المحيطة بجنوح السفينة والمسافة الآمنة معها.
  • الدفع بـ9 قاطرات لإجراء محاولة شد السفينة.
  • دراسة أكثر من خطة لتعويم السفينة ومن بينها خطة تسمى خطط الرفع بالمخدات الهوائية، وتعد المخدات الهوائية أبرز وأحدث أساليب رفع السفن العالقة ويتم خلالها تمرير مخدات الهواء، وهي عبارة عن كيس قوى يتم تمريره أسفل السفينة بالمقدمة من خلال السحب بالقوة بواسطة القاطرات وبعد وضع المخدات بالأماكن المقرر الرفع من خلالها يتم ملء هذه المخدات بالهواء بواسطة معدات واجهزة عالية الجودة. كما يمكن أن يتم استخدام المخدات فى المرحلة الثانية فى حال فشل التعامل بالكراكات والحفر أسفل السفينة من الأمام.
  • توفير المعلومات الصحيحة لوسائل الإعلام المختلفة، المحلية والدولية، أولا بأول مع إيضاح خارطة طريق لحل الأزمة وبيان آثارها المختلفة، منعاً للتكهنات والتقديرات غير الدقيقة.
  • التأكيد على أن أعمال الإنقاذ والتعويم الجزئي للسفينة تتم بمراعاة أقصى معايير الأمان الملاحي، بالحفاظ على مسافة آمنة تقدر عند أقرب نقطة مسموح بها للاقتراب من السفينة بنحو 10 أمتار من السفينة.
  • مراعاة كافة الأبعاد الفنية وأبعاد السلامة الخاصة بالسفينة نفسها من خلال إجراءات منها قياس قوة تماسك بدن السفينة مع قاع القناة بعد الصدمة، لمعرفة مدي قدرة شد القاطرات وشمعات الرباط في عمليات قطر ورباط المركب.
  • إمكانية الاستفادة من مزايا القطاع الجنوبي للقناة فيما يتعلق بظاهرتي المد والجزر، والتي تصل إلي 6 ساعات لكل منهما، مما يساعد علي عمل خلخلة في جسم السفينة، لاسيما تترفع لأعلي قليلا من جراء المد.
  • إزالة الرمال المحيطة بمقدمة السفينة بكميات تكريك تتراوح من 15 إلى 20 ألف متر مكعب من الرمال ويتم طردها عبر خطوط طرد خارجية خاصة بالكراكة، للوصول للغاطس الملائم لتعويمها والذي يتراوح من 12 إلى 16 مترًا.
  • التعامل مع بعض المشكلات الجانبية للأزمة وجود سفن متكدسة عليها شحنات مواشى حية وعالقة فى قناة السويس بسبب مشكلة السفينة العملاقة “إيفر جيفين” وحفاظًا على صحة هذه المواشي القادمة من أوروبا إلى الأردن والسعودية، وجهت لجنة إدارة الأزمة بالتعاون مع هيئة الخدمات البيطرية من القاهرة والإسماعيلية وبورسعيد 3 فرق طبية بيطرية قاموا بفحص المواشي وتقديم الأعلاف إليها على ظهر السفن العالقة من خلال التنسيق والتعاون مع هيئة القناة مجانًا، لحين انتهاء الأزمة.
  • طرح سيناريوهات للتعامل مع مرحلة ما بعد الأزمة، لمعالجة موضوع تكدس السفن أمام الموانئ في البحر الأحمر وخليج السويس، وكذلك في مياه البحر المتوسط من خلال وضع خطة تشغيل طارئة على مدار 24 ساعة، وذلك لضمان التعامل مع الموقف وتسريع عمليات تسيير السفن في الاتجاهين، وصولًا للوضع الطبيعي للقناة.

في النهاية يمكن القول، إن الدولة المصرية تقوم بجهود كبيرة؛ لإعادة الملاحة لقناة السويس ولمعالجة تداعيات هذا الحادث، ولمنع تحويله من حادث عارض لأزمة تهدد سلاسل التوريد العالمية على كافة المستويات، وهي جهود محل تقدير واحترام من كافة دول العالم التي أشادت بالإدارة المصرية للأزمة وفق أعلى المستويات من المهنية والسلامة والتعامل مع كل الأبعاد على وجه السرعة. فلنثق في قدراتنا الوطنية على تجاوز الموقف مع أهمية الاستعداد لمثل هذه الحوادث مستقبلًا، واستيعاب الدروس المستفادة.

د.أكرم حسام

خبير في الشؤون الخليجية، دكتوراه علوم سياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة ٢٠١٣، عمل في عدة مراكز بحثية داخل مصر أخرها المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، وعمل خبير في الأمن الإقليمي بالعديد من مراكز الدراسات بدول الخليج. شارك بأوراق بحثية في بعض المؤتمرات الدولية، بدعوة من مركز نيسا بالولايات المتحدة الأمريكية بواشنطن (2017-2018)، ومعهد العلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية الإيطالية بروما (2019-2020).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى