د. محمد الجمال يكتب: صناعة التعدين.. ملف على مكتب الرئيس

منذ أن وضع الرئيس عبد الفتاح السيسى ملف التعدين على مكتب الأولويات، لم يعد القطاع هامشًا فى الاقتصاد المصرى، بل مشروع دولة لاقتناص قيمة مضافة كانت تتبدد فى صورة خامات تُصدَّر بثمن زهيد وتعود إلينا منتجات نهائية بأضعاف الثمن. اهتمام الرئيس لم يأت كشعار سياسى عابر، بل كتكليف مباشر بتحديث الإطار التشريعى، وتبسيط إجراءات التراخيص، وفتح السوق أمام المستثمرين المحليين والأجانب على أسس تنافسية واضحة، مع ربط الاستثمار بالتشغيل المحلى والتكنولوجيا ونقل المعرفة.

يعرف صُنّاع القرار أن التعدين ليس منجم ذهب فحسب؛ هو منظومة تمتد من الجيولوجيا والرصد والمسح إلى استخراج ومعالجة وصقل وتصنيع، ثم لوجستيات وتصدير وتمويل وتأمين مخاطر. لذا بدت اجتماعات الرئيس مع الحكومة ووزارة البترول والثروة المعدنية مختلفة فى لغتها ومخرجاتها: الحديث عن “الحوافز” لم يعد عموميًا، بل مرتبطًا بأهداف قابلة للقياس: تقليص زمن الدورة الاستثمارية، زيادة المساحة المكتشفة، رفع نسب التحويل الصناعى داخل البلد، وتوسيع قاعدة الشركات العاملة.

فى خلفية هذا الحراك سؤال جوهرى: لماذا التعدين الآن؟ لأن مصر تجلس على خريطة جيولوجية بثراء تنوعه لا يقل عن الذهب والفوسفات والرمال البيضاء والكاولين، ولأن الاقتصاد لا يكتفى اليوم بالنمو الكمى؛ بل يحتاج نوعية نمو تصنع سلاسل قيمة طويلة: زجاج ودوائر إلكترونية من رمال نقية، أسمدة فوسفاتية متخصصة بدل تصدير الفوسفات خامًا، ومصافي ومعالجات للذهب والمعادن المصاحبة تخلق وظائف عالية المهارة وتعمل كقواعد بيانات تكنولوجية للأجيال القادمة.

التوجيه الرئاسى تحوّل إلى ثلاثة مسارات عملية. الأول تشريعى: تثبيت قواعد تعاقدية عصرية (ضرائب وإتاوة وحصة مجانية محددة) تمنح المستثمر وضوحًا فى العائد والمخاطر وتُسهِّل التمويل. الثانى إجرائى: نافذة موحّدة للتراخيص والانتقال السلس بين مراحل الاستكشاف والتقييم والتطوير والإنتاج، وتقليل الاحتكاك البيروقراطى عبر رقمنة الخرائط والبيانات وتحديث معامل التحاليل المعتمدة. الثالث اقتصادى-صناعى: ربط منح الامتيازات بحوافز انتقائية مشروطة بنِسَب تصنيع محلى، ومكوِّنات مصرية فى المعدات والخدمات، وبرامج تدريب معتمدة للشباب فى المحافظات القريبة من مواقع التمعدن.

لكن الصناعة لا تنهض دون أرضية صلبة. هنا تأتى البنية التحتية بوصفها “عامل الحسم”: طرق تربط الصحراء الشرقية والغربية بموانئ البحر الأحمر والمتوسط، محطات كهرباء ومياه صناعية قريبة من المواقع، مناطق لوجستية للتخزين والفرز، وموانئ جافة تقلِّل تكلفة الطن وتُسرِّع دورة رأس المال. تتكامل هذه العناصر مع سياسة ترويج خارجى نشطة: المشاركة فى مؤتمرات التعدين الدولية، وعرض حزم امتيازات واضحة، وإظهار سجل استقرار سياسى وتشريعى يُطمئن المستثمر طويل الأجل.

اقتصاد التعدين أيضًا هو اقتصاد “بيئة”؛ السوق العالمية لم تعد تغفر آثارًا كربونية أو تلوثًا مائياً. لذلك تُصرّ الدولة — وفق التوجيهات — على معايير صارمة للصحة والسلامة وإدارة المخلفات وخطط إعادة التأهيل بعد الإغلاق، ليس فقط التزامًا أخلاقيًا، بل لأن المشترى العالمى يُسعِّر اليوم “نظافة السلسلة” ويمنح علاوات سعرية للمنتج منخفض البصمة. هذا يفتح بدوره نافذة تمويل خضراء لمشروعات التعدين النظيف، ويوسّع قاعدة المستثمرين لتشمل صناديق تستثمر وفق معايير الاستدامة.

على مستوى الفرص، تتصدر ثلاثة مسارات: الذهب بسلاسل قيمته من الحفر حتى السبائك والمشغولات، الفوسفات بتحويله إلى أحماض وأسمدة عالية القيمة للأسواق الأفريقية والآسيوية، والرمال البيضاء/الكاولين كمدخل للصناعات الزجاجية والسيراميك المتقدم وربما مكونات إلكترونية مستقبلًا. هذه المسارات قادرة — إذا استُكملت بحزمها التكميلية — على خلق “عناقيد صناعية” خارج الوادى، تدفع عمرات مدن الصعيد والواحات، وتفتح أسواق خدمات جديدة لمقاولى التعدين والمختبرات وشركات النقل والأمن الصناعى.

فى المقابل، هناك تحديات واقعية: دورات أسعار السلع عالميًا، واحتياجات تمويل مرتفعة فى مرحلة الاستكشاف عالية المخاطر، وفجوات مهارية تحتاج سدًا سريعًا. الحلول ليست لغزًا: عقود توريد آجلة تُخفِّف تقلب الأسعار، شراكات مع صناديق سيادية ومؤسسات تمويل تنموى لتغطية مخاطر المراحل الأولى، وبرامج تدريب مهنية متخصصة بالتعاون مع الجامعات والمعاهد الفنية؛ فالمسألة ليست معدات فقط، بل كوادر قادرة على إدارة مخاطر جيولوجية وتشغيلية وبيئية فى مواقع نائية.

ما يميز لحظة التعدين المصرية هو “الإشارة السياسية” الواضحة: رأس الدولة يتبنى القطاع كرافعة للتصنيع والتصدير، والحكومة تترجم ذلك إلى لوائح وإجراءات، والسوق يستجيب بمزيد من الاهتمام والتدفقات. هذه الثلاثية — إذا استمر اتساقها — تنقل مصر من اقتصاد المادة الخام إلى اقتصاد القيمة المضافة المعدنية، وتمنح ميزان المدفوعات متنفسًا حقيقيًا، وتفتح أمام الشباب خرائط عمل جديدة خارج المدار التقليدى للوظائف.

في النهاية، يمكن القول إن اهتمام الرئيس لم يكتفِ بوضع عنوان جذّاب على ملف التعدين؛ بل غيّر زاوية النظر من “المناجم” إلى “الصناعة”، ومن “التصاريح” إلى “سلاسل القيمة”، ومن “الفرص المشتتة” إلى “خريطة طريق” متكاملة. هكذا فقط تتحول الثروة الكامنة فى باطن الأرض إلى اقتصاد منتج فوقها—اقتصاد يُصنِّع ويُصدِّر ويُشغِّل، ويُراكم معرفة تكنولوجية مصرية فى قطاع ظل طويلًا خارج دائرة الضوء. الآن، يعود إلى المركز.

د. محمد الجمال

د. محمد الجمال، كبير الهيئة الاستشارية بمركز رع للدراسات، هو خبير في شئون الصناعات والاستثمار. حاصل على بكالوريوس في الهندسة الكهربائية – جامعة القاهرة، وحاصل على دكتوراه في الهندسة الكهربائية – أكاديمية فينكس، الولايات المتحدة الأمريكية. هو عضو في مجلس الأعمال المصري الفنلندي منذ عام 2013، ورئيس شعبة الألومنيوم باتحاد الصناعات المصرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى