محطات في حياتي: المحطة الرابعة.. قائدٌ آمن بقدراتي.. فانطلقت

ذكريات لا تُنسى من أولى خطواتي في الحياة العسكرية
منذ لحظة تخرّجي في الكلية الحربية، أدركت أن ما تعلّمته من انضباطٍ والتزامٍ وتدريبٍ شاقٍّ لم يكن إلا نقطة البداية في رحلةٍ طويلةٍ من المسؤولية والولاء والانتماء للوطن. وقد منَّ الله عليَّ بالتخرّج ضمن أوائل دفعتي – الثاني على سلاحي – وهو ما أهلني لاختيارٍ شرّفني كثيرًا، وهو الالتحاق بإحدى وحدات النخبة بالقوات المسلحة المصرية، التي يُشرف على تشكيلها واختيار ضباطها نخبةٌ من القادة الأكفاء.
كانت مشاعر الفخر والمسؤولية تختلط داخلي، فخدمة الوطن من خلال هذه الوحدة العريقة كانت حلمًا سعيتُ إليه بإخلاص، وآمنتُ دائمًا أنني في خدمته دون قيدٍ أو شرط.
البدايات •• والاختبار الحقيقي:
مع بدء التحاقي بالوحدة، خضنا – كضباطٍ جدد – اختبار تقييمٍ داخليٍّ دوريٍّ ضمن الإجراءات التنظيمية الروتينية، التي تهدف إلى الوقوف على مستوى الضباط القدامى وحديثي التخرّج وصقل قدراتهم بما يتناسب مع طبيعة الوحدة ومتطلباتها العالية.
كانت النتائج بالنسبة لي ولعددٍ من الزملاء غير مرضية بالشكل المأمول، وهو أمرٌ وارد مع بداية المسيرة، خاصة في بيئة عملٍ جديدة بمستوى احترافيٍّ عالٍ. وهنا بدأت نقطة التحوّل في مساري.
نظرة قائد •• أحدثت فرقًا:
من منطلق مسؤوليته المهنية والتربوية، وتطبيقًا لمبادئ القوات المسلحة في تنمية الكوادر، رأى قائدي المباشر أن هناك فرصة لتحسين مستواي من خلال خطة عملٍ منظّمة بهدف الاستعداد الجيّد للاختبار الدوري التالي. وبناءً على ذلك، كُلّفت بتكثيف وجودي داخل الوحدة في غير أوقات الخدمة الأساسية على مدار الشهر، عدا أيام الراحة الرسمية المحددة، بهدف التفرغ للمذاكرة والتدريب.
وقد تم إبلاغي بذلك من خلال أحد الضباط الأقدم، وذلك في إطار دعم القيادة لي وتوفير البيئة المناسبة للتحسّن والتفوّق. وكان هذا القرار – الذي التُزِم فيه بكامل الضوابط واللوائح العسكرية – جزءًا من سياسة القيادة في الرعاية المهنية، التي تقوم على منح الفرص الجادة للارتقاء، لا على أساس التمييز، بل وفق متطلبات الموقف التدريبي ومقتضيات التطوير الفردي.
الانعزال المؤقت •• والعودة القوية:
مرّت الأيام وكانت فترةً مختلفةً عن كل ما عايشته من قبل، إذ تطلّب الأمر مجهودًا مضاعفًا وتحمّلًا نفسيًّا حقيقيًّا.
كان شعور البقاء منفردًا داخل الوحدة في غير أوقات العمل الرسمية يمثل ضغطًا نفسيًا، خاصة مع رؤيتي لزملائي وهم يغادرون لقضاء فترات راحتهم وأنا باقٍ داخل الوحدة، لكن بفضل التوجيه المستمر من القيادة والدعم الذي لقيته من الضباط الأقدم في وحدتي، استطعت أن أركّز على تطوير أدائي من خلال المذاكرة المنظّمة، ورفع كفاءتي البدنية، والانخراط في التدريب الذاتي.
الاختبار •• والنقلة النوعية:
جاء موعد الاختبار التالي، والذي كان لحظةً فارقةً في مسيرتي. تم تنفيذه وفق الإجراءات الاعتيادية ووسط ترقّبٍ طبيعيٍّ بين جميع الضباط، وبفضل الله، ثم بفضل الجهد المبذول والتوجيه المستمر من قيادتي، حققت أعلى نتيجةٍ بين الضباط الأصاغر في الوحدة.
كان لهذه النتيجة أثرٌ بالغٌ في نفسي، وشكّلت بدايةً جديدة لمسيرتي داخل هذه الوحدة، حيث أصبحتُ أكثر اعتمادًا على نفسي، وأصبح أدائي محل تقديرٍ دائم.
واستمر هذا التفوق لاحقًا حتى بات يُشار إليَّ دائمًا على أنني من المتميّزين، وكان ذلك بفضل بيئة الانضباط والقيادة الحكيمة التي وضعتني على الطريق الصحيح منذ البداية.
القائد الذي آمن بي:
لا يمكنني أن أتحدث عن هذه المرحلة دون أن أُشيد بشخصيةٍ قياديةٍ كان لها بالغ الأثر في تكويني العسكري والمهني، وهو اللواء/ مدحت عواد الشريف، أحد القادة المشهود لهم بالكفاءة والانضباط، وكان قدوةً عمليةً في القيادة الحازمة الحكيمة.
وقد كان له دورٌ محوريٌّ في دعمي وتوجيهي، وأسهم بشكلٍ كبيرٍ في أن أضع أولى خطواتي بثباتٍ وثقةٍ داخل هذه الوحدة المتميزة.
وقد استأذنته في ذكر اسمه في هذه السطور التي تُعد من محطات حياتي الهامة، لأنني أفتخر دائمًا بمن كان سببًا في دفع عجلة نجاحي في بداياتي.
مسؤولية القائد تجاه مرؤوسيه •• بناء لا توجيه فقط:
ما مررتُ به لم يكن تجربةً فردية، بل هو نموذجٌ لما تعنيه القيادة العسكرية الناجحة: أن تتعرّف على إمكانيات من تعمل معهم، وأن تمنحهم فرصةً عادلةً للتطور، وأن تبني لا أن تُقيّم فقط، وأن تتابع وتصحّح وتوجّه وتصبر.
رسائل من قلب تجربة صادقة أوجّهها لمثلث النجاح: الرئيس والمرؤوس والمؤسسة:
للرئيس: ثقوا بمرؤوسيكم وامنحوهم من وقتكم وخبرتكم، فبعض النجاحات تبدأ من نظرة إيمانٍ واحدة.
للزملاء الجدد: لا تجعلوا من بدايةٍ غير موفقة نهايةً لطموحكم، فكل فرصةٍ تصنعونها قد تغيّر مساركم بالكامل.
للمؤسسة: الاستثمار في الكوادر من خلال التأهيل المستمر هو أحد أعمدة التفوق المؤسسي، وهذا ما عايشته بنفسي.
كلمة وفاء لكل رؤسائي وقادتي:
لكل من وقف بجانبي في بداياتي، ولكل قائدٍ لم يُقيّمني من لحظةٍ واحدة، ولكل زميلٍ ساندني، ولكل موقفٍ صعبٍ عبرتُ منه أقوى:
شكرًا لكم، فقد كنتم جزءًا من تشكيل شخصٍ يؤمن بأن لا شيء مستحيل في سبيل خدمة الوطن.