محطات في حياتي: المحطة الثالثة “أوبريت العبور.. حين نطق الأطفال بالوطن”

طفل على خشبة الوطن
عندما كنت تلميذًا لم أتجاوز العاشرة من عمري، لم أكن أدرك حينها أنني سأشارك في لحظة مفصلية تختصر مفاهيم الوطنية والانتماء، لا في كتاب مدرسي بل على خشبة مسرح صغير نصبه المعلمون في فناء المدرسة.
كانت مدرستنا “مدرسة العائلة المقدسة بنين بحلوان” مدرسة كاثوليكية تتبع منظومة الفاتيكان التعليمية، لكنها كانت في قلب مصر تنبض بحبها وتُخرج من جدرانها أبناءً أوفياء، زرع الوطن في نفوسهم جذورًا لا تقتلعها عواصف العالم.
عقب نصر أكتوبر المجيد قررت إدارة المدرسة تنفيذ عمل فني يجسد هذا الحدث التاريخي العظيم. صاحب الفكرة كان أستاذ الموسيقى الراحل توفيق النحاس، فنانًا بالفطرة، تربويًا بالإحساس، ومصريًا حتى النخاع. طرح فكرته على الإدارة المكوّنة من المدير الإيطالي فريدريكو، والناظر المصري القدوة مسيو إلياس صادق معوض رحمه الله.
تم الاتفاق على إنتاج أوبريت موسيقي درامي بعنوان “ستة أكتوبر يوم النصر” يشارك فيه الطلاب في تجسيد مشاهد العبور والقتال والانتصار.
الانتماء الفطري يسبق التمثيل:
بدأت الإشكالية حين طُلب من الطلاب أداء أدوار الجانبين: الجنود المصريين والإسرائيليين. هنا حدث ما لم يكن في الحسبان؛ رفض جميع التلاميذ، دون تنسيق مسبق أو توجيه، تجسيد دور الجندي الإسرائيلي.
لم يكن الرفض تمردًا، بل إعلان ولاء غير منطوق، أثبت أن الطفل المصري يولد وهو يعرف من عدوه ويختار دون تردد صفوف الشرف.
هذا الموقف أدى إلى توقف البروفات لأيام، وبقي العمل مقتصرًا على التدريب الغنائي على كلمات الأوبريت التي لا زلت أذكرها بكامل تفاصيلها: “ستة أكتوبر يوم النصر لما جنودنا.. قاصدين أسودنا لما عدّوا سعت العصر جايبين راية النصر.. لمصر”
أمام هذا الرفض تدخل أولياء الأمور، وتم التوصل إلى حل إبداعي: أن يتم تقديم العرض مرتين بحيث يتبادل التلاميذ الأدوار، كلٌّ مرة يكون جنديًا مصريًا وأخرى يمثل دور الجندي الإسرائيلي، لا تمجيدًا للعدو بل استكمالًا للبنية الدرامية للأوبريت.
تم تنفيذ العرض في فناء المدرسة بحضور قيادات من وزارة التربية والتعليم، وسفير الفاتيكان، ومسؤولي المدارس الكاثوليكية بمصر، وكانت النتيجة أكثر من مجرد نجاح؛ كانت رسالة وطنية تُترجم عبر مسرح الأطفال.
من المسرح إلى قناة السويس •• التمثيل يصبح واقعًا:
ما يجعل هذه التجربة استثنائية أن العمل لم يكن تمثيلًا رمزيًا فقط، بل شمل إنشاء مجسم واقعي لقناة السويس وزوارق لعب فيها الطلاب دور الجنود، مع مجسم رملي يحاكي خط بارليف تم عبوره وتمثيل عملية اقتحامه.
مشاهد الاشتباك بين “القوات المصرية” و”العدو الإسرائيلي” لم تكن مشاهد تمثيلية باردة، بل خرجت من وجدان الطلاب الذين عاشوا النصر في بيوتهم قبل أن يجسدوه في مدارسهم.
كنت فخورًا أن أكون أحد أبطال هذا العرض التاريخي، لا فقط من باب التمثيل، بل من باب تجربة انغرس فيها الوطن بداخلي منذ الصغر.
في العمق •• ماذا تعني هذه التجربة؟
هذه التجربة، رغم بساطتها الظاهرة، تكشف عن عمق تربوي وثقافي بالغ الأهمية، ويمكن قراءتها من عدة زوايا:
1. التربية الوطنية تبدأ بالفطرة: لم يُلقّنّا أحد أن نرفض تمثيل العدو، لكننا رفضنا لأننا كنا نعيش النصر كحق لا كسيناريو مكتوب.
2. الفن التربوي قوة ناعمة فاعلة: حين يُستثمر المسرح المدرسي في ترسيخ القيم الوطنية يصبح منصة حقيقية لتكوين الوعي، لا مجرد وسيلة للترفيه.
3. المدرسة كفاعل وطني: مدارسنا ليست فقط مؤسسات تعليمية، بل ينبغي أن تكون مؤسسات لصناعة المواطن الصالح الواعي.
4. التكامل بين الأسرة والمدرسة: تدخل أولياء الأمور لحل الأزمة لم يكن تدخلًا فنيًا، بل دعمًا لقيم الانتماء المغروس في نفوس أبنائهم.
التوصيات:
استنادًا إلى هذه التجربة الشخصية والمجتمعية أقدم التوصيات التالية لصُنّاع القرار التربوي والثقافي في مصر والعالم العربي:
1. تفعيل المسرح المدرسي الوطني: دعم الأنشطة الفنية ذات الطابع الوطني داخل المدارس، وتخصيص ميزانيات ومسابقات محلية وقومية لإنتاج أوبريتات وأعمال درامية وطنية بمشاركة الطلاب لتنمية الوعي التاريخي والانتماء.
2. تضمين قصص وتجارب واقعية في المناهج: دمج مثل هذه النماذج من المبادرات المدرسية ضمن المناهج الدراسية كأمثلة على المواطنة الفاعلة والولاء الوطني الحقيقي.
3. تدريب المعلمين على توظيف الفنون في التربية الوطنية: إقامة دورات تدريبية لمعلمي التربية الفنية والموسيقية حول كيفية استخدام الفن كوسيلة لترسيخ القيم والمفاهيم الوطنية.
4. إطلاق أرشيف وطني لتوثيق الإبداعات الطلابية الوطنية: إنشاء أرشيف رقمي وورقي لتجارب المدارس المصرية التي قدمت أعمالًا فنية وطنية منذ عقود وتوثيقها كمرجع تعليمي وثقافي.
5. تشجيع مبادرات الأسرة والمدرسة معًا: إعادة تفعيل لجان الأنشطة المدرسية التي تضم ممثلين من أولياء الأمور والمعلمين لضمان استمرار الشراكة المجتمعية في بناء وعي الجيل الجديد.
في النهاية، الوطن لا يُلقَّن بل يُعاش إن ما حدث في فناء مدرسة “العائلة المقدسة” لم يكن مجرد نشاط مدرسي، بل كان حجر أساس في بناء جيل يحمل وطنه في قلبه ويعرف عدوه منذ فطرته، لا من علومه التي يدرسها.
اليوم وأنا أكتب هذه السطور أستعيد تلك اللحظة كأنها الأمس، وأشعر أن الوطنية لم تكن شعارًا يومًا، بل إحساسًا يولد مع الإنسان، يُغذّيه الحب، وتنمّيه التجارب، وتثبّته المواقف.
ولذا •• علّموا أولادكم أن يكونوا على خشبة الوطن ممثلين، حتى يكونوا في فى ميادينه جنودا.