الجيش الشعبي في غزة.. وهمٌ مُسلّح أم ورقة حربٍ نفسية؟

بين أنقاض المدن المذبوحة بنيران الحرب، وفوق جراح الفلسطينيين على أطلال غزة، وُلد فصيلٌ جديد، أو ربما شُكِّلَ مشهدٌ درامي جديد عنوانه: “الجيش الشعبي – قوات الشمال”.

تسمياتٌ رنانة، وبيانٌ مصوَّر، وشخصٌ يزعم القيادة، وخطابٌ متمرّد، وتهديدٌ موجَّه لحركة حماس: لا تقتربوا من مناطقنا، نحن من يحمون الناس الآن. هكذا بدأ المشهد، وهكذا اشتعلت التساؤلات: من هم؟ ومن يقف خلفهم؟ وهل ما نراه تنظيمٌ شعبيٌّ حقيقي؟ أم صناعةٌ إعلامية استخباراتية بوجهٍ فلسطيني؟

لحظة ولادة الفصيل •• في منطقةٍ رمادية:

في بيانٍ ظهر فجأة عبر وسائل التواصل وبعض المنصات غير الرسمية، أعلن “الجيش الشعبي” انتشاره في شمال القطاع، متهمًا حماس بممارسة القمع ضد المدنيين، ومعلنًا أنه تشكَّل من أبناء غزة لحماية الناس وضمان عودتهم الآمنة.

رغم فداحة ما ورد، إلا أن شيئًا واحدًا كان مفقودًا: الدليل. فلا توجد مقاطع توثّق انتشارًا فعليًا، ولا وجود لتحركات منظَّمة على الأرض، ولا مؤشرات على سيطرةٍ عسكريةٍ حقيقية.

حماس تصمت •• لكنها تراقب:

فيما التزمت حماس الصمت رسميًا، شهدت بعض مناطق القطاع انتشارًا أمنيًا لعناصرها، خصوصًا في محيط الشمال.

ورغم عدم صدور بيان من كتائب القسام أو الأجهزة الأمنية التابعة للحركة، إلا أن رسائل غير مباشرة وصلت تفيد بأنها لن تسمح بفوضى داخلية تُسقط غزة من الداخل.

دعم خارجي؟ أصابع تشير نحو تل أبيب:

في السياقات المشابهة، لا يُمكن إغفال البعد الإقليمي والدولي في أي تحركٍ مفاجئ بهذا الحجم، خصوصًا إذا تزامن مع انسحابٍ تكتيكي لقوات الاحتلال من مناطق الشمال.

طرحت التحليلات الاستخباراتية والسياسية علامات استفهامٍ حول دورٍ إسرائيلي غير مباشر قد يهدف إلى إشعال فتيل الانقسام الداخلي داخل غزة عبر إنشاء فصائل بديلة ظاهرها محلي وباطنها ورقة ضغطٍ داخليةٍ مدعومة.

إضعاف شرعية حماس بوصفها المسيطر الوحيد على القطاع حتى الآن، تمهيدًا لاستعادة السلطة الفلسطينية وضعها الرسمي عبر مواجهتها بما يبدو “تمردًا شعبيًا”.

تهيئة الساحة لمشاريع ما بعد الحرب التي تسعى فيها بعض القوى الإقليمية والدولية إلى تفكيك البنية السياسية والأمنية للمقاومة، وتحويل غزة إلى كيانٍ هلاميٍّ ضعيف القرار.

لا دلائل دامغة حتى الآن على دعمٍ مباشر من إسرائيل، لكن التوقيت والمحتوى الخطابي وغياب الشفافية حول مصادر الفصيل تضعه موضع الريبة بلا شك.

بين الحقيقة والتوظيف السياسي:

الفرضيات حول طبيعة “الجيش الشعبي” تتأرجح بين ثلاث احتمالات:

1. فصيلٌ حقيقي ناشئ من رحم الغضب الشعبي والمعاناة، ربما تشكَّل تلقائيًا في غياب الأمان.

2. أداةُ حربٍ نفسية تُدار بعناية ضمن استراتيجية تفتيت الجبهة الداخلية لحماس.

3. واجهةٌ محليةٌ لجهةٍ خارجية تتقن لعبة الحرب بالوكالة داخل مجتمعاتٍ مدمَّرة ومنهكة.

أياً كانت الحقيقة، فإن الساحة الفلسطينية لا تحتمل مزيدًا من الانقسام، ولا تملك ترف فتح جبهاتٍ داخليةٍ موازية، بينما الجبهة الكبرى لم تُغلق بعد.

المشهد على مفترقٍ خطر:

إذا استمر “الجيش الشعبي” في التصعيد اللفظي دون وجودٍ ميداني فعلي، فقد يُصبح مجرد موجةٍ إعلاميةٍ عابرة.

أما إذا نجح في تجنيد عناصر أو استند إلى دعمٍ عشائري أو خارجي، أو حتى إلى تغطيةٍ إعلاميةٍ كثيفة، فربما نكون أمام محاولة لإعادة إنتاج نموذج الميليشيات المضادة ضمن بيئةٍ مشوّهةٍ سياديًا.

الخطر الأكبر أن يتحول هذا الفصيل إلى أداةٍ لاستدراج مواجهةٍ داخلية بين حماس ومجموعاتٍ غاضبة أو موجهة، وهو ما يُمكن أن يقود غزة إلى نفقٍ مظلمٍ لا رجعة منه.

الكلمة الأخيرة لوعي المجتمع الفلسطيني:

في زمن الفوضى، تبقى الكلمةُ الفيصل هي وعيَ المجتمع. هل يقبل أهل غزة أن تُزرع في خاصرتهم قنبلةٌ داخليةٌ جديدة؟، هل تصمت النخب والعشائر ومؤسسات المجتمع المدني على احتمالات اقتتالٍ فلسطيني–فلسطيني؟

إن الإبداع في المقاومة لا يعني فقط حمل السلاح، بل صيانة الجبهة الداخلية والتماسك من الاختراق، والفرز الدقيق بين الصادق والمندس، بين الشعبي والمُنقاد.

في النهاية، إن غزة التي واجهت الجيوش، وصمدت في وجه الحصار، وقدّمت من دمها وقودًا للحرية، لا يليق بها أن تسقط ضحيةَ خدعةٍ داخليةٍ أو مشروعٍ مشبوهٍ بلغةٍ وطنية.

وإن الفصائل، وعلى رأسها حماس، مطالَبةٌ بالحكمة في إدارة هذا التحدي، لا بالسلاح وحده، بل بالحوار وبحماية المواطن الفلسطيني من الفوضى والتضليل.

قد يكون “الجيش الشعبي” حقيقةً، وقد يكون سرابًا قاتلًا، لكن الأكيد أن وحدة الجبهة الداخلية أصبحت آخر خطوط الدفاع، ومن يعبث بها — أيًّا كان — يخدم خصوم القضية لا مصلحة الوطن.

وآن الأوان لإعمار الوطن، وتنضيد الجراح، والعيش في سلامٍ واستقرارٍ وأمان.

لواء أحمد زغلول

اللواء أحمد زغلول مهران، مساعد مدير المخابرات الحربية الأسبق، وعضو الهيئة الاستشارية العليا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية. كما أنه خبير متخصص في الشؤون العسكرية والأمنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى