الإعلام المصري.. ذاكرة وطن وصوت أمة

من الإرشاد القومي إلى الإعلام الرقمي •• بين الواقع والمأمول

حيت يتحدث الوطن بصوته…..

وفي مصر التي عرفت التنوير بالكلمة منذ القِدم، كان الإعلام دوماً شاهداً على العصر، وفاعلاً في صناعته السياسية والثقافية والاجتماعية.

من الصحف التي واكبت ثورة 1919، إلى الإذاعة التي أعلنت قيام الجمهورية، إلى التلفزيون الذي نقل نصر أكتوبر المجيد، إلى الإعلام الرقمي الذي يواجه تحديات العصر الجديد؛ ظل الإعلام المصري مرآةً للوطن وسلاحاً في يد الأمة حين يُحسن استخدامه.

وفي السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد المسؤولية، لم يكن تطوير الإعلام رفاهية أو خياراً هامشياً، بل أصبح ضرورة أمن قومي وركناً أساسياً من أركان مشروع “الجمهورية الجديدة”، حيث أكّد الرئيس في أكثر من مناسبة أن “الإعلام شريك في بناء الوعي ومواجهة الشائعات وتصحيح المفاهيم الخاطئة”، مؤمناً بأن المعركة الحقيقية لم تعد عسكرية فقط، بل أصبحت “على عقول وقلوب الناس”.

الإعلام في خدمة الوعي •• فلسفة الدور وأبعاده

الإعلام ليس فقط ناقلاً للحدث، بل هو جزء من صناعة هذا الحدث من خلال:

1. تشكيل الرأي العام: الإعلام يؤثر في كيفية إدراك المواطن للوقائع وتقييم رؤيته لما يدور حوله.

2. دعم الثقافة الوطنية: عبر إبراز الهوية المصرية وتاريخها وقيمها الحضارية.

3. تحقيق الرقابة الشعبية: عندما يكون حراً ومسؤولاً، يتحول الإعلام إلى عين الأمة على السلطة.

4. الرد على الشائعات والحرب النفسية: خصوصاً في زمن الحروب الرقمية والفتن المصطنعة.

5. التأثير في القرار السياسي: من خلال تهيئة المزاج العام ومساندة القضايا القومية.

ومن هذا المنطلق، جاءت توجيهات القيادة السياسية بضرورة إعادة صياغة الخطاب الإعلامي وتوفير أدوات مهنية وتكنولوجية قادرة على مخاطبة المواطن، خاصةً فئة الشباب، بلغته واهتماماته، في ظل عصر يشهد ثورة معلوماتية كبرى وتحديات متسارعة.

سرد تاريخي لتطور المؤسسات الإعلامية في مصر:

1. مرحلة التأسيس من “الإرشاد القومي” إلى “الثقافة”: تأسست وزارة الثقافة والإرشاد القومي عام 1958 في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لتكون المعنية بالشؤون الثقافية والإعلامية، وكان الهدف منها نشر الفكر القومي والوطني وتوجيه الرأي العام.

تولّت الوزارة آنذاك الإشراف على الإذاعة والصحافة والنشر، كما لعبت دوراً بارزاً في التعبئة خلال فترة الوحدة المصرية السورية.

2. وزارة الإعلام المستقلة (1965): أصبحت وزارة مستقلة لتتفرغ لمسؤولياتها الإعلامية. ظهرت خلالها القنوات التلفزيونية الأرضية، وتم تطوير البث الإذاعي، وبدأ الإعلام المصري يأخذ مكانة ريادية في المنطقة العربية. كما تأسس اتحاد الإذاعة والتلفزيون الذي أصبح فيما بعد العمود الفقري للإعلام الحكومي المصري.

3. الإعلام في عهد الانفتاح والسادات (1974–1981): مع سياسة الانفتاح سُمح بمساحات من حرية التعبير، وظهرت أصوات صحفية معارضة، وإن ظل الإعلام الرسمي هو الأقوى تأثيراً.

شارك الإعلام في تهيئة الرأي العام لاتفاقية السلام ونقل صورة الدولة الحديثة إلى الخارج.

4. الإعلام في عصر مبارك (1981–2011): شهد طفرة في القنوات الفضائية، وبدأ الإعلام الخاص يفرض نفسه.مع الوقت تراجع تأثير الإعلام الرسمي بسبب ضعف المحتوى رغم احتفاظه بالهيبة المؤسسية.

تأسست قناة النيل للأخبار وعدد من الشبكات المتخصصة.

5. الإعلام بعد 2011 •• فوضى الانفتاح وخطر الشائعات: يعاني الإعلام من الفوضى بعد ثورة يناير، وأصبح ساحة لتصفية الحسابات والضغط السياسي، وظهرت كيانات إعلامية مدعومة خارجياً تعمل ضد استقرار الدولة.

6. إعادة الهيكلة في عهد الجمهورية الجديدة: أُنشئت الهيئة الوطنية للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة لإدارة الإعلام المملوك للدولة بعيداً عن البيروقراطية الحكومية.

وجّهت الدولة بإعادة تأهيل البنية التحتية والمحتوى الإعلامي، ودشّنت منصات رقمية أكثر احترافية.

أكّد الرئيس السيسي أن مصر بحاجة إلى إعلام وطني واعٍ يُعزّز الانتماء ويحمي العقول من الاستقطاب، واعتبر الإعلام خط دفاع موازياً للقوات المسلحة والشرطة في معركة الوعي.

 الإعلام المصري بين الإيجابيات والتحديات:

الإيجابيات:

1. ريادة تاريخية عربية وأفريقية في الإذاعة والتلفزيون والدراما.

2. كفاءات إعلامية رفيعة أسست لمدارس مهنية متميزة.

3. قدرة عالية على التأثير في المحيط العربي ثقافياً وفنياً وسياسياً.

4. إنتاج وثائقيات وطنية مهمة تُسهم في حفظ الذاكرة الجمعية.

5. إرادة سياسية واضحة لتطوير الإعلام كمرفق وطني استراتيجي.

التحديات والسلبيات:

1. ضعف التدريب المستمر لبعض الكوادر الإعلامية.

2. غياب الاستراتيجية الموحدة للرسالة الإعلامية في بعض الملفات.

3. محدودية المحتوى الموجّه للشباب بلغتهم المعاصرة.

4. التأثر السلبي بموجات الإعلام الموجّه الخارجي.

5. ضعف المنافسة في الإنتاج الإعلامي العالمي من حيث الجودة والإبداع.

الإعلام الجديد وتحديات الحرب المعرفية:

الرئيس عبد الفتاح السيسي حذّر مراراً من خطورة حروب الجيلين الرابع والخامس، واعتبر أن “المعركة الآن معركة وعي قبل أن تكون معركة سلاح”، وهو ما يضع الإعلام في صدارة جبهة الدفاع الوطني.

ولذلك، يجب أن يتحول الإعلام من مجرد ناقل للخبر إلى: صانع للمعرفة، وحارس للهوية، ومروّج للقيم، ووسيط بين الدولة والمجتمع.

ولن يتحقق هذا إلا بتطوير:

1. المنصات الرقمية الوطنية.

2. إنتاج محتوى مرئي ذكي ينافس عالمياً.

3. تكامل الإعلام الرسمي مع الإعلام الجديد والمؤثرين الوطنيين.

التوصيات المقترحة للنهوض بالإعلام:

1. إطلاق استراتيجية وطنية للإعلام مرتبطة بالمشروع القومي للوعي.

2. تحديث التشريعات الإعلامية لضمان حرية التعبير المسؤولة والمهنية العالية.

3. دعم الإعلام المحلي والإقليمي ليُعبّر عن واقع المحافظات.

4. تفعيل الشراكة بين الإعلام والمؤسسات التعليمية والدينية والثقافية.

5. تحفيز الإبداع الإعلامي بين الشباب عبر مسابقات ومنح ورعاية رسمية.

6. إنشاء مدينة إعلام رقمية متكاملة تُنافس في السوق العربي والأفريقي.

7. تعزيز محتوى الإعلام الخارجي لنقل صورة مصر الحضارية للعالم.

الإعلام المصري •• منبر الوعي وضمير الأمة:

إن الإعلام ليس مجرد وسيلة اتصال، ولا مجرد أداة للترفيه أو تغطية الأحداث، بل هو الضمير الجمعي للأمة، وميزان وعيها، ومحرك ضميرها الوطني.

وحين نتحدث عن الإعلام في مصر، فإننا نتحدث عن أقدم تجربة إعلامية نظامية في المنطقة، وعن أول دولة عربية تُطلق إذاعة وطنية وقناة تلفزيونية رسمية، وعن بلدٍ كان ولا يزال “مدرسة كبرى” خرّجت القامات الإعلامية التي أثّرت في محيطها العربي والدولي.

وفي عصر ما بعد الحقيقة وحروب الجيل الخامس والتزييف الممنهج للوعي، أصبح الإعلام أداة حاسمة: إما أن تُستخدم في التنوير أو تتحوّل – لا قدر الله – إلى أداة تضليل.

ومن هذا المنطلق، فإن الرؤية الوطنية الواعية التي تقودها القيادة السياسية المصرية، ممثلة في الرئيس عبد الفتاح السيسي، قد وضعت الإعلام في مكانه الصحيح:

ليس كواجهة فقط، بل كمكوّن أساسي من بنية الأمن القومي وركيزة من ركائز “الجمهورية الجديدة” ودعامة أساسية في إدارة الوعي ومقاومة الفوضى ودعم البناء.

ولعل من أبرز ما يُحسب لهذه القيادة هو أنها لم تسعَ إلى تقييد الإعلام، بل إلى تقويته وتنقيته وإعادة تأهيله ليواكب متغيرات العصر. ومن هنا جاءت توجيهات الرئيس السيسي المتكررة بضرورة أن يكون الإعلام المصري معبّراً عن الوطن لا عن المصلحة، مرآة للحقائق لا بوقاً للادعاءات، وأن يتحدث بلغة الناس ويواجه التحديات لا أن يكررها.

واليوم، الإعلام المصري مطالب بأدوار مضاعفة:

١. أن يكون منصة للوعي لا منبراً للارتباك.

٢. أن يحترف التحقيق والتوثيق والمعلومة الدقيقة لا التهويل أو الإثارة.

٣. أن يضع قضايا الوطن الكبرى فوق أي مصالح أو حسابات.

٤. أن ينقل نبض الناس للحكومة، ويشرح قرارات الدولة للناس دون تحيّز.

٥. أن يربط الشباب بتاريخهم وهويتهم، وأن يقدم لهم نموذجاً محترماً في الأداء والانضباط والشفافية.

٦. أن يُساند الدولة في معركتها من أجل دعم القضية الفلسطينية، ومواجهة الإرهاب، وتعزيز التنمية، والحفاظ على وحدة النسيج الوطني.

وإذا كنا نؤمن بأن المعركة القادمة ليست معركة أسلحة ومعدات قتال، بل معركة أفكار، فإن الإعلام هو النسق الأول في القتال، وهو الدرع الأول للعقل المصري والعربي.

كلمة إلى الإعلاميين والمؤسسات الإعلامية:

أنتم حراس الوعي •• فلا تخذلوه.

أنتم أمناء الكلمة •• فلا تبيعوها.

أنتم مرآة هذا الوطن •• فكونوا صادقين ومستنيرين.

الإعلام رسالة لا مهنة، مسؤولية لا سلطة، قَسَم لا مكاسب.

فلا تتركوا شاشاتكم ومواقعكم وأقلامكم رهينةً لمن لا يعرف قيمة مصر ولا يعترف بعقل هذا الشعب.

توجيه استراتيجي:

نقترح، بناءً على ما ورد في هذا المقال، أن تقوم الدولة المصرية ممثلة في الهيئات المعنية بالإعلام بما يلي:

1. إعداد ميثاق وطني إعلامي جديد يُرسّخ المعايير المهنية والأخلاقية الملزمة للمؤسسات والأفراد.

2. إدراج الإعلام ضمن المنظومة التربوية والتعليمية من خلال وحدات متخصصة في المدارس والجامعات.

3. إعادة الاعتبار لبرامج الوعي القومي في وسائل الإعلام الرسمية والخاصة.

4. تعزيز حضور مصر في الإعلام الخارجي بلغات مختلفة عبر إنتاج وثائقيات وأفلام وقنوات دولية.

5. مراجعة شاملة للمحتوى الإعلامي بما يضمن الاتساق مع القيم الوطنية والدستورية.

في النهاية، إن الوعي إعلامٌ ينتمي لا ينحني، والإعلام ليس امتيازاً بل واجب، وليس ترفاً بل سلاح، وليس سلطة رابعة بل ضمير أمة.

ولأن مصر هي “قلب الأمة العربية، وحضن الإنسانية القديمة، وعقل العالم المتزن”، فإن إعلامها يجب أن يكون على قدر تاريخها، ومسؤولية حاضرها، وطموح مستقبلها.

إن معركة الأوطان تُحسم بالعقول لا بالسلاح فقط، وبالكلمة لا بالرأي المضلل، وبالإعلام لا بالإشاعة.

وإننا نؤكد أن الإعلام المصري يملك كل المقومات ليكون النموذج، إذا ما تحرك بإرادة وطنية، وقيادة واعية، واستراتيجية مدروسة، واستلهم من شعبه القوة، ومن تاريخه الثقة، ومن مستقبله.

لواء أحمد زغلول

اللواء أحمد زغلول مهران، مساعد مدير المخابرات الحربية الأسبق، وعضو الهيئة الاستشارية العليا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية. كما أنه خبير متخصص في الشؤون العسكرية والأمنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى