الأب السند والرمز والقدوة في معركة الحياة والوطن

الأب.. ملحمة صامتة لا يسمعها إلا من ينصت بقلبه، هو  ذلك الجبل الذي لا يهتز وإن عصفت به رياح الحياة، هو المقاتل الصامت الذي يبتسم ليرى أسرته بخير وهو يخفي في قلبه آلاف الجراح.

هو الأب، ذاك الحاضر رغم الغياب، الذي ضحّى بسكينته ونعيمه وأحلامه ليصنع لنا واقعًا آمنًا ومستقبلًا مشرقًا في زمنٍ امتلأ بالتحديات.

ووسط ساحات الكفاح الوطني، غاب كثير من الآباء عن بيوتهم، لا تقصيرًا في الواجب الأسري، بل انشغالًا بواجبٍ أسمى هو واجب الوطن.

دور الأب في بناء المجتمع حجر الأساس ومصدر الإلهام:

لا تقوم أمة إلا بأُسَر قوية، ولا تُبنى أسرة إلا على كاهل أبٍ مسؤول يحتضن أحلامها ويذود عنها بدمه وروحه.

الأب ليس فقط من يكدّ ويعمل، بل هو قدوة في الصبر، ومُعلّم في الأخلاق، وقائد في الميدانين (البيت والوطن).

وقد أثنى الإسلام على دور الأب وعِظَم مكانته؛ ففي القرآن الكريم نرى كيف خاطب سيدنا يعقوب أبناءه بالحكمة والموعظة: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132].

وفي السنة النبوية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الرجل راعٍ في بيته وهو مسؤول عن رعيته” [رواه البخاري ومسلم]. فهو الراعي الحقيقي الذي يسهر لينام الجميع، ويتعب ليهنأ الجميع، ويتألم بصمت كي لا يشعر الآخرون بوجعه.

حين يُنادي الوطن.. يكون الأب أول المُلبّين:

هناك آباء لم يعرفوا دفء السرير، ولا راحة المساء، ولا حكايات ما قبل النوم مع أطفالهم، لأن نداء الوطن كان أقوى.

كانوا هناك، على الصخور والصحارى والبحار وفي السماء وفي مواقع الشرف، يتحدّون الموت بصدورهم كي نحيا نحن بكرامة.

لم تكن تضحياتهم مجرد أداءٍ وظيفي، بل كانت رسالة خالدة من الوفاء والانتماء. كانوا يُضحّون بوقتهم، وبشبابهم، وبأعمارهم، وبأحلامهم ليبقى الوطن مرفوع الرأس، شامخ الراية. وهؤلاء الآباء لم يخسروا شيئًا، بل كسبوا الخلود في ذاكرة الوطن وأبنائه.

رسالة للأبناء.. لا تنسوا من كان سبب الأمان:

لكل ابنٍ وابنةٍ، تذكّروا دومًا أن أباكم الذي ربما غاب عن بعض لحظات طفولتكم لم يكن غائبًا باختياره، بل كان في معركة البقاء من أجلكم ومن أجل الوطن.

وحين يشتعل الشيب في رأسه، وتنحني قامته بفعل السنين، لا تبخلوا عليه بكلمة طيبة ولا نظرة حنان. بَرّوا آباءكم في كبرهم، فهم الأبطال الحقيقيون الذين لا تُنصفهم الكلمات. يقول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا…} [الإسراء: 23]. وليس هناك إحسان أعظم من ردّ الجميل لمن أفنى عمره في سبيلكم.

وصية للمجتمع.. كُفّوا عن الإنصاف المُتأخر وأعطوا للأب حقه وهو بيننا:

نحتاج إلى ثقافةٍ مجتمعية تُعيد للأب مكانته، وتُعلّم الأجيال أن الأب ليس ماكينة مال ولا مجرد عنوان على بطاقة الأسرة.

الأب هو منبع الكرامة ومصدر الأمن، وجدار الصدّ الأول في وجه نوائب الدهر. يجب أن تُدرّس التضحيات الأبوية في المدارس، وتُروى قصصهم في الإعلام، ويُحتفى بعطائهم في كل محفل.

لحظة اعتراف لا بد منها.. دموع الجندي لا تسقط عبثًا:

وأنا أكتب هذه الكلمات، لم أتمالك نفسي وبكيت. نعم، بكيت وأنا أستعيد مشاهد العمر، تلك اللحظات التي غاب فيها الضحك من أجل أن تضحكوا، وزاد فيها الجوع ليشبع الوطن.

لم تكن دموعي ضعفًا، بل هي دموع جندي لا يزال يحمل الوطن بين أضلعه، ويحمل أبناءه على ظهره.

دموع أبٍ مرّ على قلبه الكثير، لكنه ظل واقفًا كالنخيل، لا ينحني، ولا يشتكي، ولا ينتظر شيئًا إلا أن يكون الجميع بخير. إنها لحظة مصارحة، لا بين القلم والورق، بل بين القلب والذاكرة، وبين الجندي والإنسان، وبين الأب الذي أعطى كل شيء ولم يسأل شيئًا.

دموع في عيون الرجال لا يراها إلا الوطن:

كل دمعةٍ خبأها الأب، كل تنهيدةٍ كتمها، كل وجعٍ مرّ به بصمت، هي جزء من قصة الوطن.

وإن كان الوطن بخير اليوم، فلأن هناك من كان يدفع ضريبته من راحته وحياته وسعادته.

أيها الأب……. يا من كنت الجندي في الخندق، والعامل في المصنع، والمزارع في الحقل، والمدافع عن ترابك وأهلك،

تقديرك في القلب وإن غفلت العيون:

يا أبناء الوطن، اجعلوا لأبيكم مكانًا لا يزول في قلوبكم وفي أفعالكم وفي دعائكم،

فهو أول من آمن بكم، وأول من ضحّى لأجلكم دون أن يطلب شيئًا في المقابل.

تحية حب ووفاء لكل أبٍ لم يخذل وطنه ولا أسرته.

لواء أحمد زغلول

اللواء أحمد زغلول مهران، مساعد مدير المخابرات الحربية الأسبق، وعضو الهيئة الاستشارية العليا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية، وهو نائب رئيس حزب المؤتمر رئيس الهيئه العليا للحزب. كما أنه خبير متخصص في الشؤون العسكرية والأمنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى