من الجذور نبدأ.. وبالسلام نبني وطنًا أقوى

إن جذوري الممتدة من صعيد مصر، وتحديدًا من عائلة تنتمي إلى قبيلة الأشراف التي تعود بنسبها الشريف إلى آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، تُمثل بالنسبة لي شرفًا وواجبًا ومسؤولية. فقد نشأت على قيم مترسخة في أبناء الجنوب: الكرامة، والوفاء، والشهامة، والنخوة، وصون العرض والكلمة. وهي قيم لا تُختصر في الجغرافيا، بل تنبع من العمق الحضاري والثقافي لأبناء الصعيد. لقد آمنت دائمًا أن الانتماء لا يجب أن يبقى شعورًا فرديًا، بل يتحول إلى فعل جماعي ومشروع وطني يعالج التحديات التاريخية التي تعيق التقدم. وفي مقدمة تلك التحديات يأتي الثأر الموروث الذي أرهق مجتمعنا وأعاق تنميته، وآن الأوان لمواجهته مواجهة عقلانية وجادة.

الصعيد ذاكرة الأمة وعقلها النابض:

الصعيد ليس فقط شريانًا للزراعة ومصدرًا للجندية والرجولة، بل هو مخزون مصر الثقافي والتاريخي والإنساني. أنجبت هذه الأرض الطيبة رموزًا صنعت الوعي وحرّكت الضمير:

الزعيم جمال عبد الناصر، ابن بني مر، صانع الكرامة الوطنية ومؤسس دولة العدالة الاجتماعية.

مكرم باشا عبيد، صوت الوحدة الوطنية والضمير النيابي الحر.

ممتاز نصار، الذي صدح في البرلمان مدافعًا عن الفقراء والمهمشين.

عباس محمود العقاد، عميد الأدب العربي وصوت العقل والفكر المنهجي.

الدكتور مصطفى محمود، الذي نقل الفكر العلمي إلى وجدان الناس ببساطة وعمق.

الشيخ محمد متولي الشعراوي، الذي خاطب القلوب والعقول بلغة القرآن والإنسان.

كلهم خرجوا من أرض واحدة، وتكلموا بلهجتها، وأضاءوا طريق الأمة في أشد اللحظات ضبابية.

مبادرة “لا للثأر” من الرؤية إلى التأثير:

في أكتوبر 2019، انطلقت مبادرة “لا للثأر معًا للتسامح والسلام” كتحرك مجتمعي تطوعي هدفه الأساسي إعادة ترميم النسيج المجتمعي في الصعيد، والتصدي لأحد أخطر الموروثات التي تحصد الأرواح وتبدد الطاقات وتزعزع الاستقرار.

خلال ست سنوات، سعت المبادرة لتحقيق أهدافها من خلال:

تسوية نزاعات ثأرية بين عائلات وقبائل عبر مجالس صلح منظمة.

تنظيم مؤتمرات توعوية بمشاركة القيادات الدينية والأمنية والأهلية.

تمكين المرأة والشباب ليكونوا سفراء للتسامح داخل مجتمعاتهم.

إنتاج مواد توعوية وندوات حوارية لنشر ثقافة اللاعنف والعفو.

خلق حوار مستمر بين الدولة والمجتمع بشأن إنهاء الخصومات والنزاعات التاريخية.

حق عرب •• الإعلام شريك في بناء السلام:

لم تكن المبادرة لتصل إلى هذا النجاح لولا الدعم الإعلامي الحقيقي الذي مثّله برنامج “حق عرب” بقيادة الإعلامي القدير محسن داوود، صاحب البصمة الميدانية في إصلاح ذات البين وإنهاء مئات النزاعات على أرض الواقع.

لقد لعب البرنامج دورًا محوريًا في:

توثيق مجالس الصلح في كل قرى مصر.

تقديم النماذج الناجحة لعائلات اختارت طريق العفو لا الدم.

تحفيز العائلات الأخرى على الاقتداء بهذه النماذج المشرفة.

كسر حاجز الصمت حول ظاهرة الثأر وطرح حلول عقلانية قابلة للتنفيذ.

الإعلام، عبر “حق عرب”، لم يكن مجرد ناقل للحدث، بل محركًا للتغيير ومرآة حقيقية للوعي الشعبي الصعيدي، وعلى مستوى جغرافية وطننا الحبيب من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه.

من مبادرة إلى مشروع وطني •• ما الذي نريده الآن؟

إن ما نحتاجه اليوم ليس فقط الاحتفال بما تحقق، بل توسيع نطاق المبادرة وتحويلها إلى مشروع وطني دائم يُدمج في منظومة الدولة التعليمية والثقافية والتنموية.

التوصيات:

1. تضمين مفاهيم التسامح واللاعنف في المناهج الدراسية منذ المرحلة الابتدائية حتى الجامعة.

2. إطلاق برامج توعية في المدارس والجامعات والمساجد والكنائس تشرح خطورة الثأر وتُعلي من قيمة التسامح.

3. إعداد معلم ومُرشد ديني مؤهل قادر على تفكيك خطاب العنف وبناء لغة جديدة قائمة على العقل والحكمة.

4. إنشاء مراكز مصالحة مجتمعية في كل محافظة بالشراكة مع المجتمع المدني والأجهزة التنفيذية.

5. إنتاج أعمال درامية وسينمائية تستعرض قصصًا حقيقية لعائلات اختارت العفو وأثر ذلك على مستقبل أبنائها.

6. تدريب كوادر شبابية ونسائية كوسطاء مجتمعيين يعملون على وأد النزاعات قبل اشتعالها.

7. إطلاق يوم وطني للتسامح والمصالحة يُقام سنويًا ويُكرَّم فيه العافون والشخصيات المجتمعية التي ساهمت في حل النزاعات.

8. دعم مشاريع اقتصادية وتعليمية في المناطق الأكثر تضررًا من الثأر باعتبار التنمية سلاحًا فاعلًا ضد الجهل والعنف.

المثلث الذهبي فرصة الصعيد للتنمية والسلام:

يقف المثلث الذهبي (قنا – سفاجا – القصير) على أعتاب تحوّل استراتيجي ليكون قاطرة تنمية جديدة للصعيد، بما يملكه من:

ثروات معدنية هائلة.

موانئ استراتيجية على البحر الأحمر.

بنية تحتية واعدة لمشروعات صناعية وسياحية.

موقع جغرافي يربط بين الداخل المصري والعالم العربي والأفريقي.

لكن لا يمكن لأي مشروع اقتصادي أن يزدهر دون استقرار اجتماعي، ولا يمكن لمستثمر أن يعمل في بيئة يسودها القلق والخوف. ولهذا فإن السلم المجتمعي هو البنية التحتية الأهم لأي مشروع تنمية.

من أجل مجتمع جديد •• نغلق صفحة الدم ونفتح كتاب الوعي:

الثأر ليس مجرد خلاف، بل إرث ثقيل من الفقد والعداء والكراهية. إنه مدرسة قديمة لم تُخرّج إلا الوجع والألم، ويجب علينا أن نهدم جدرانها ونبني مكانها مدارس للوعي ومراكز للتسامح ومسارات للأمل.

المدرسة والجامعة والمنزل، والمسجد والمسرح والمزرعة والإعلام، كلها أدوات لبناء عقل جديد لا يرى في الانتقام بطولة ولا في العفو ضعفًا، بل يرى في التسامح انتصارًا وطنيًا.

في النهاية، هيّا بنا نغلق كتاب الدم ولنكتب في دفاتر المستقبل أننا جيل أنهى الثأر ودفنه في تراب العقل، ورفع مكانه راية السلام. أننا أبناء الصعيد الذين نعرف الثأر ونعرف كيف ننتصر عليه:

لا بالرصاص •• بل بالكلمة.

لا بالانتقام •• بل بالحكمة.

لا بالخوف •• بل بالقانون.

تحيا مصر ويحيا صعيدها وتحيا كل ربوعها، أملًا في مجتمع متماسك متسامح، وبناء حقيقي، ووعي نابض، ونهضة ناجزة، وسلام بإرادة صادقة.

لواء أحمد زغلول

اللواء أحمد زغلول مهران، مساعد مدير المخابرات الحربية الأسبق، وعضو الهيئة الاستشارية العليا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية، وهو نائب رئيس حزب المؤتمر رئيس الهيئه العليا للحزب. كما أنه خبير متخصص في الشؤون العسكرية والأمنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى