سد النهضة والفيضانات المبرمجة.. خطر مائي يهدد مصر والسودان في غياب الاتفاق الملزم

تشهد منطقة حوض النيل هذه الأيام حالة من التوتر الشديد بفعل التطورات المتسارعة حول سد النهضة الإثيوبي، فبينما تواصل إثيوبيا تنفيذ خطوات أحادية الجانب في تشغيل السد وفتح بواباته دون تنسيق مع دولتي المصب (مصر والسودان)، يواجه السودان فيضانات مدمرة، ويستعد المصريون لاحتمال استقبال موجات مياه غير منضبطة قد تضر بالأمن المائي والزراعي. هذه التصرفات التي تُوصف بأنها “فيضان مبرمج”، تثير تساؤلات عميقة حول النوايا الإثيوبية ومستقبل العلاقات بين دول الحوض، وتفرض على مصر والسودان وضع استراتيجية شاملة لمواجهة الخطر القادم.

خلفية عن السد المسمى بسد النهضة:

سد النهضة الإثيوبي هو أكبر مشروع مائي في إفريقيا تم إنشاؤه حتى الآن. بُني على النيل الأزرق قرب الحدود مع السودان، وتسعى إثيوبيا من خلاله لتوليد الطاقة وتحقيق طفرة اقتصادية. إلا أن غياب اتفاق قانوني شامل وملزم بين أديس أبابا من جهة، والقاهرة والخرطوم من جهة أخرى، جعل السد بؤرة توتر دائمة منذ وضع حجر الأساس. ورغم جهود وساطات عديدة من الاتحاد الإفريقي ودول إقليمية وغربية، لا تزال إثيوبيا تصر على سياسة الأمر الواقع وتستمر في تعبئة وتشغيل السد دون توافق، ما يعتبره السودان ومصر تهديداً مباشراً لأمنهما المائي والاقتصادي والإنساني.

ما يحدث الآن: فيضان متعمد وغير منسق وأضرار كارثية:

تزامناً مع موسم الأمطار، تشير التقارير إلى أن إثيوبيا بدأت تصريف كميات ضخمة من المياه من بحيرة السد دون إخطار مسبق أو تنسيق مع السودان أو مصر. وتفيد مصادر سودانية بأن التصريف بلغ مستويات غير معتادة، ما أدى إلى ارتفاع مفاجئ في منسوب النيل الأزرق وغمر أراضٍ زراعية ومنازل في ولايات سودانية قريبة من النهر مثل ولاية سنار والجزيرة. وتزداد المخاوف من أن هذه التصرفات ليست عشوائية، بل مدروسة ومقصودة بهدف إفراغ بحيرة السد بسرعة أو اختبار رد الفعل الفني والسياسي للدول المتضررة. هذا ما دعا بعض الخبراء إلى وصف ما يحدث بالفيضان الصناعي المبرمج المتعمد، وليس مجرد ظاهرة طبيعية موسمية.

في مصر، ورغم أن السد العالي لديه قدرة استيعابية كبيرة (بحيرة ناصر)، إلا أن الاستعدادات على قدم وساق لمواجهة موجة مياه محتملة قد تؤثر على نظم الري والملاحة وتفرض عبئاً على البنية التحتية.

الأضرار المتوقعة على السودان ومصر:

١- السودان: تلقت السودان الصدمة الأولى من التصريف المفاجئ للمياه بسبب قربه الجغرافي ومحدودية قدرات سدوده مثل سد الروصيرص على استيعاب الكميات الفائضة. الأضرار تشمل غرق آلاف الأفدنة من الأراضي الزراعية، تدمير منازل، تهجير قسري للسكان، وانقطاع شبكات المياه والكهرباء، كما تؤثر المياه الراكدة على الصحة العامة بانتشار الأمراض.

٢- مصر: رغم البنية التحتية المتقدمة نسبياً، فإن تلقي كميات ضخمة من المياه غير المخططة يربك خطط توزيع المياه، وقد يضطر السد العالي لتصريف كميات كبيرة نحو بحيرة ناصر أو منخفضات أخرى. وهذا يؤثر على مخزون المياه الاستراتيجي ويضع ضغطاً على منظومة الري، ويزيد من احتمال غرق مناطق منخفضة.

التصور الاستراتيجي المصري والسوداني لمواجهة التهديد

تتطلب الأزمة الحالية تحركاً عاجلاً على عدة محاور متزامنة:

قانونياً: يجب تحريك دعوى دولية ضد التصرفات الإثيوبية سواء أمام محكمة العدل الدولية أو مجلس الأمن، بوصفها خرقاً للقانون الدولي وتجاهلاً لمبدأ عدم الإضرار بدول الجوار.

فنياً وهندسياً: تحديث نماذج التنبؤ بالفيضانات وتعزيز المراقبة اللحظية لمناسيب المياه، مع الاستعداد لتفريغ السد العالي إن لزم الأمر، وتحديث المصارف الزراعية لمواجهة أي تدفق غير طبيعي.

دبلوماسياً: تكثيف الاتصالات مع الدول الإفريقية والعربية والدولية لإدانة الخطوات الأحادية من إثيوبيا، وتعزيز الضغط الدولي للوصول إلى اتفاق ملزم بشأن تشغيل السد.

إعلامياً: كشف الحقائق بالأدلة عبر وسائل الإعلام المحلية والدولية، ونشر تقارير مدعمة بالصور وبيانات الأقمار الصناعية توضح الأضرار التي لحقت بالسودان والمخاطر التي تهدد مصر.

ميدانياً وأمنياً: استعدادات الطوارئ على الأرض، تجهيز مراكز إيواء ودعم لوجستي في المناطق المتضررة، وتشكيل فرق مشتركة للتعامل مع الكوارث في السودان ومصر.

تقييم شامل للإيجابيات والسلبيات في كل مسار:

المسار القانوني والدولي: أحد أقوى أوراق الضغط المصرية، ويمنح شرعية دولية للمطالب، لكنه يحتاج إلى وقت طويل ويتطلب أدلة قوية وإقناعاً دبلوماسياً مكثفاً، وقد تواجهه مناورات مضادة من إثيوبيا وبعض الدول المتعاطفة معها.

المسار السياسي والدبلوماسي: يمكن أن يحقق نتائج قوية على المدى المتوسط إذا توافر الدعم العربي والإفريقي، خاصة من دول حوض النيل. إلا أن ضعف الموقف الموحد أحياناً أو تباين المصالح بين الدول قد يحدّ من فعاليته.

المسار الإعلامي: يُعد أداة ضغط فعالة خاصة إذا تم استخدام تقارير دولية وشهادات خبراء، لكن التصعيد الإعلامي قد يؤدي إلى تجاذب سياسي أو تشويه للمواقف إذا لم يُدار بحرفية ومهنية.

المسار الأمني والميداني: ضروري لحماية المواطنين وتقليل الخسائر البشرية والمادية، لكنه يعتمد على الجاهزية والتنسيق بين الجهات الحكومية والعسكرية، وقد يُثقل كاهل الموارد في حال تكرار الفيضانات أو استمرار التصرفات الإثيوبية الأحادية.

توصيات عاجلة:

1. رفع الملف فوراً إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة مع تقديم أدلة موثقة على فتح المياه دون تنسيق.

2. تشكيل لجنة أزمة مشتركة بين مصر والسودان لتبادل المعلومات الفنية واتخاذ إجراءات ميدانية موحدة.

3. توجيه حملة إعلامية دولية لإبراز الأضرار التي لحقت بالسودان وخطر التصرفات الأحادية على السلم الإقليمي.

4. تعزيز الاستعداد الفني في السد العالي ومصارف الدلتا لتفادي أي غمر مفاجئ.

5. الدفع باتجاه اتفاق قانوني ملزم لتشغيل وملء السد برعاية دولية مع فرض عقوبات محتملة على الانتهاكات.

في النهاية، لم يعد الصمت خياراً، ولم تعد المجاملات الدبلوماسية تجدي نفعاً، فالماء الذي تنفرد إثيوبيا بالتحكم فيه هو شريان حياة لأكثر من 150 مليون إنسان في مصر والسودان، وليس ملفاً تفاوضياً يُدار على هوى طرف واحد من الأطراف المشاركة في هذا الشريان الحيوي.

إن ما يحدث الآن من فتح غير منسق لمياه سد النهضة ليس عملاً سيادياً مشروعاً، بل اعتداءً ممنهجاً على الحقوق التاريخية والإنسانية لدولتي المصب، ويجب أن يُواجه بردّ حاسم، وعقل بارد، ويد لا ترتجف عند اتخاذ القرار.

المعادلة أصبحت واضحة: إما اتفاق ملزم يحفظ الأمن المائي للجميع، أو تصعيد قانوني وسياسي يعيد الحق لأصحابه. إن أمننا المائي لا يقبل التفاوض تحت الضغط، ولا يرضخ للأمر الواقع، ولن نسمح أن تُكتب مأساة نهر النيل بمداد الأحادية والصمت.

إثيوبيا تقوم بتصرفات أحادية تهدد السودان ومصر بفيضانات مدمرة من خلال فتح مفاجئ لمياه سد النهضة.

السودان يتعرض لأضرار مباشرة ومتصاعدة، ومصر تواجه خطراً استراتيجياً على مخزونها المائي وخططها الزراعية.

لا بد من تحرك قانوني وفني ودبلوماسي عاجل يوقف هذه التصرفات ويُعيد التفاوض لمساره العادل.

الفيضان المبرمج جريمة مائية تُدار باسم التنمية، ويجب فضحها بكل الوسائل.

مصر والسودان أمام اختبار تاريخي: إما أن يُكتب مستقبل النيل بأيديهما أو يُفرض عليهما بمنطق الاستقواء.

لواء أحمد زغلول

اللواء أحمد زغلول مهران، مساعد مدير المخابرات الحربية الأسبق، وعضو الهيئة الاستشارية العليا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية، وهو نائب رئيس حزب المؤتمر رئيس الهيئه العليا للحزب. كما أنه خبير متخصص في الشؤون العسكرية والأمنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى