الهجوم على الدوحة.. سيادة منتهكة ورسائل لإعادة تشكيل أمن المنطقة

الدوحة تحت النار والسيادة العربية في مرمى التهديد.

لم يكن الهجوم الصاروخي الذي استهدف منشأة داخل العاصمة القطرية الدوحة مجرد واقعة أمنية معزولة، بل كان تطورًا خطيرًا يعكس مرحلة جديدة من التعامل العسكري والاستخباراتي في المنطقة، حيث باتت العواصم العربية نفسها أهدافًا مباشرة في صراعات إقليمية ودولية.

ما جرى في قطر يمثل سابقة خطيرة في تاريخ العلاقات الدولية الحديثة في الشرق الأوسط، فهو انتهاك فجّ لسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة، وعضو نشط في المنظومة الخليجية والعربية والإسلامية، تلعب دورًا محوريًا في الوساطة والنزاعات الحساسة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

تفاصيل العملية.. كيف تم كسر الخط الأحمر؟

بحسب مصادر أمنية ودبلوماسية، تم تنفيذ الهجوم عبر طائرة مسيّرة مسلحة، استهدفت مبنًى قالت إسرائيل إنه يؤوي قيادات سياسية تابعة لحركة حماس. الضربة نُفذت بدقة عسكرية عالية، داخل المجال الجوي لدولة ذات سيادة، في وقت بالغ الحساسية الإقليمية، خصوصًا مع تعثّر مفاوضات الهدنة وتبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس بوساطة قطرية ومصرية.

أسفر الهجوم عن مقتل عنصر أمن قطري، إضافة إلى إصابات في محيط المنشأة المستهدفة. ولم تصدر تل أبيب أي بيان رسمي، لكنها لم تنكر أيضًا مسؤوليتها، ما يجعل الصمت أبلغ من الاعتراف.

الأمن العربي أمام اختبار الوجود والكرامة:

1. رسالة صريحة: لا حصانة لأي عاصمة، إذا كانت عواصم عربية مستقرة مثل الدوحة لم تعد بمنأى عن الاستهداف، فإن هذا يعني أن الخطوط الحمراء الجيوسياسية قد أُعيد رسمها دون موافقة أصحابها، وأن أمن الدول العربية بات يُدار بأدوات الهيمنة لا القانون الدولي.

2. تهديد استباقي للحياد والسيادة: العملية تؤشر إلى اتجاه خطير، وهو تجريم الدور الوسيط والمحايد، وتجفيف الفضاء السياسي الآمن الذي تمثله بعض الدول الخليجية والعربية في النزاعات الإقليمية.

قطر من الوساطة إلى الاتهام بالاحتضان:

1. استهداف للرمزية الدبلوماسية لقطر: منذ سنوات، تبنت قطر سياسة الوسيط الفعّال، وتحوّلت إلى منصة تفاوض رئيسية بين إسرائيل وحماس، وكذلك في ملفات إيران، طالبان، والسودان.
الهجوم لا يستهدف مبنًى في الدوحة فقط، بل يستهدف دورًا قطريًا مستقلًا أثبت فاعليته في ساحات متوترة.

2. الرد القطري: ضبط النفس مع الحفاظ على السيادة: حتى اللحظة، جاء الرد القطري متزنًا جامعًا بين التهدئة والحزم السياسي، عبر التنسيق مع الحلفاء الإقليميين، وعلى رأسهم مصر، لحشد موقف عربي وإسلامي واسع.

مصر في قلب المعادلة بين الغضب والقيادة:

1. موقف مصري ثابت من حيث المبدأ: أدانت الهجوم بأشد العبارات، واعتبرته انتهاكًا خطيرًا لسيادة دولة عربية شقيقة يهدد أمن واستقرار المنطقة برمتها.
هذا الموقف ليس جديدًا، بل امتداد لطبيعة السياسة المصرية القائمة على احترام سيادة الدول، ورفض التدخل الخارجي.

2. تحرك مصري استراتيجي لقيادة رد عربي إسلامي موحد: الضغط لخروج الاجتماع العاجل للقمة الإسلامية العربية في الدوحة بقرارات ملزمة.

هذا بالإضافة إلى تنسيق المواقف مع قطر والإمارات والسعودية والكويت والأردن. كذلك الدفع في مجلس الأمن لمساءلة الجهة المنفذة. والعمل على إحياء مبدأ الردع الإقليمي المشترك من خلال مبادرات أمنية وعسكرية جادة.

المشهد الدولي.. ارتباك غربي وتردد مؤسسي:

رغم خطورة الحادث، اتسمت مواقف القوى الدولية الكبرى، خصوصًا الولايات المتحدة وأوروبا، بالتردد والغموض، حيث لم تصدر إدانة صريحة من أي دولة غربية باستثناء بعض التعبيرات عن القلق.
ما يُعيد للأذهان سياسات المعايير المزدوجة التي لطالما أضرت بمصداقية النظام الدولي.

فمجلس الأمن لم يُمرر بيان الإدانة العربي المقترح بسبب تحفظات أمريكية. أما في الجمعية العامة فجاء الموقف باهتًا، وهو ما يعكس الشلل الدولي أمام الانتهاكات التي تطال العرب.

الدور الأمريكي.. اعتذارات بلا مضمون ومواقف متناقضة:

حاولت واشنطن احتواء الموقف بإصدار تصريحات اعتذار، أعربت فيها عن الأسف العميق للحادث، وتقديرها للدور القطري في التهدئة الإقليمية.
لكن في الوقت نفسه، رفضت الإدارة الأمريكية إدانة صريحة للهجوم، وامتنعت عن تأييد أي تحقيق دولي مستقل، ما يعكس نفاقًا دبلوماسيًا واضحًا وموقفًا يفرّغ القانون الدولي من محتواه.

الولايات المتحدة، التي تتشدق دائمًا بحماية السيادة وحكم القانون، تظهر في كل أزمة عربية عاجزة عن اتخاذ موقف أخلاقي حازم إذا تعارض مع تحالفاتها أو حساباتها السياسية.

سيناريوهات التصعيد.. ماذا لو تكررت الضربة؟

تكرار الهجمات على عواصم عربية أخرى يُحتمل في حال غياب رد جماعي رادع، حيث قد يتم استهداف دول مؤثرة إقليميًا مثل مصر والسعودية.

انهيار الثقة في المنظمات الدولية، مما يؤسس لنظام عالمي غير عادل.

فرص التحرك العربي.. من الأزمة إلى إعادة الهيبة:

رغم التحدي، فإن هذا الحادث يُشكل لحظة نادرة لإعادة توحيد الرؤية الاستراتيجية العربية، وذلك من خلال:

– تفعيل الدفاع العربي المشترك بصورة عملية.

– إعادة صياغة قواعد الاشتباك الدبلوماسي عربيًا ودوليًا.

– استثمار الغضب الشعبي في بناء رأي عام عربي موحد.

– إعادة الاعتبار للوساطة العربية المستقلة كقوة ناعمة لا يمكن تصفيتها بالصواريخ.

التوصيات الاستراتيجية.. خريطة طريق للخروج من الصدمة:

1. عقد قمة عربية طارئة بجدول أعمال واضح ومخرجات تنفيذية عقب انعقاد القمة العربية الإسلامية المخطط لها يوم 15 سبتمبر 2025.

2. إرسال مذكرة قانونية إلى مجلس الأمن والجمعية العامة باسم الدول العربية.

3. تشكيل تحالف دبلوماسي عربي-إسلامي للضغط السياسي والإعلامي.

4. تفعيل دور مصر كقائد طبيعي للمواجهة الدبلوماسية وداعم لقطر في المحافل الدولية.

5. التحرك أمام محكمة العدل الدولية لمحاكمة المسؤولين عن انتهاك السيادة القطرية.

6. إنشاء مظلة دفاعية سيبرانية عربية لمواجهة الحروب غير التقليدية والاختراقات السيادية.

ما بعد الدوحة ليس كما قبلها:

ما حدث في قطر ليس مجرد حادث أمني؛ إنه لحظة فاصلة في تاريخ الإقليم، تُنذر بتحول عميق في قواعد اللعبة الجيوسياسية، وتؤسس لمرحلة من الاحتمالات المفتوحة على التصعيد أو الاستنهاض.

وإذا كانت إسرائيل قد اختارت إرسال صاروخ بدلًا من الرسالة، فإن الرد يجب أن يكون رسالة عربية موحدة وقوية، تُفهم بوضوح أن السيادة ليست ورقة تفاوض، ولا تُستباح دون حساب.

المطلوب اليوم ليس فقط الرد على الهجوم، بل إعادة بناء فلسفة الأمن العربي، وتثبيت قواعد الاحترام المتبادل داخل النظام الدولي.
حادثة استهداف منشأة داخل العاصمة القطرية الدوحة تُعد تطورًا نوعيًا بالغ الخطورة، لا من حيث طبيعة العملية العسكرية فحسب، بل من حيث ما تحمله من دلالات استراتيجية تتجاوز حدود الجغرافيا والميدان، لتطال مفاهيم السيادة الوطنية، ومبادئ القانون الدولي، وتوازنات الردع الإقليمي.

لقد شكّل هذا الهجوم اختراقًا واضحًا للمحظورات الأمنية والدبلوماسية، ورسالة مفتوحة بأن العواصم العربية، بما فيها تلك التي تحظى بدرجة عالية من الاستقرار والشرعية الدولية، لم تعد بمنأى عن التهديد المباشر. ومن ثمّ، فإن ما بعد الدوحة لا يمكن أن يكون امتدادًا تلقائيًا لما قبلها، بل هو لحظة فاصلة تستدعي مقاربة استراتيجية شاملة، على مستوى السياسات والمنظومة الأمنية والدور الإقليمي العربي ككل.

لواء أحمد زغلول

اللواء أحمد زغلول مهران، مساعد مدير المخابرات الحربية الأسبق، وعضو الهيئة الاستشارية العليا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية، وهو نائب رئيس حزب المؤتمر رئيس الهيئه العليا للحزب. كما أنه خبير متخصص في الشؤون العسكرية والأمنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى