أهداف متشابكة: ما دلالات التحركات المكثفة لوزير خارجية تركيا في المنطقة؟

اتجه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، إلى زيارة العاصمة السورية دمشق في 7 أغسطس الجاري للتباحث حول كيفية تعزيز العلاقات الثنائية بين الطرفين وما يصاحبه من تكثيف التعاون في مختلف المجالات، إضافة إلى النظر في التطورات الإقليمية والدولية وما يواجه دول الشرق الأوسط من أزمات. وألحق وزير الخارجية التركي تلك الزيارة بأخرى إلى القاهرة للقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي، ووزير الخارجية د. بدر عبد العاطي، استهدفت السعي نحو تعزيز العلاقات التركية المصرية بهدف الوصول لدرجات أوسع من التعاون، وتعزيز الروابط الاقتصادية بين البلدين، والتباحث حول الملفات الإقليمية الشائكة بالمنطقة مثل الأحداث الجارية بقطاع غزة، والأزمات السورية والليبية والسودانية.

ولا يمكن النظر إلى تلك الزيارات إلا في ضوء التوترات الإقليمية الناتجة عن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما صاحبها من انتهاك لسيادة كل من لبنان وسوريا واليمن وإيران، وما يمكن أن يؤثر بدوره على المشروع التركي بالمنطقة الذي يتشابك في الفترة الأخيرة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي في أكثر من قضية، لاسيما بعد حالة الفراغ التي خلفها انهيار محور المقاومة، وتحجيم المشروع الإيراني بالمنطقة نسبيًا.

وتأسيسًا على ما سبق؛ يتطرق التحليل التالي إلى دوافع التحرك التركي المكثف، سعيًا للتعرف على أهداف تلك الزيارات.

تحرك تحت ضغط الأزمات

تأتي التحركات التركية المُكثفة في الآونة الأخيرة في ظل وجود مجموعة من الأزمات المُعقدة بالمنطقة، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:

(*) الأزمة السورية: بدأ الهجوم الواسع الذي أطلقته هيئة تحرير الشام المدعومة من تركيا ضد النظام السوري بقيادة بشار الأسد في 27 نوفمبر 2024، بمحافظة حلب، في عملية عُرفت باسم “ردع العدوان”، والتي انتهت بتمكن الفصائل المسلحة من السيطرة على حلب ثم محافظات الوسط مما أدى بدوره إلى تعزيز وتيرة العمليات العسكرية المُوجهة ضد الجيش من جانب، وتخلي العديد من قيادات النظام السوري عن المناصب من جانب آخر. وتوالت انتصارات الفصائل المسلحة التي تمكنت من السيطرة على المدن السورية واحدة تلو الأخرى حتى الوصول إلى محاصرة دمشق ودخولها فيما دون مقاومة تُذكر من الجيش السوري الذي واجه انهيارًا سريعًا.

وواجه المجتمع السوري تحديات كبيرة مع سقوط نظام بشار الأسد، نتيجة لما تعانيه الدولة من تفكك داخلي ناتج عن وجود كثير من الكيانات المسلحة والمتطرفة غير الخاضعة لأي نوع من الرقابة، إضافة إلى التدخل المباشر للعديد من القوى الدولية، الذي استهدف دعم أطراف الأزمة بغرض استغلال الموارد الاقتصادية للدولة، وتحقيق نفوذ سياسي على الأراضي السورية. ومن جانب آخر، عانت مؤسسات الدولة السورية من عدم وجود كوادر قادرة على ملء الفراغ الناتجة عن انهيار كافة مؤسسات الدولة والأمنية منها بوجه خاص، مما خلق بدوره حالة من الترقب حول أحقية هيئة تحرير الشام تحت قيادة أحمد الشرع في أن تحل محل النظام السوري الذي تم إسقاطه.

وظهرت هيئة تحرير الشام،المدعومة من تركيا وعلى رأسها احمد الشرع، كبديل منظم قادر على ملء ذلك الفراغ الناتج عن انهيار مؤسسات الدولة السورية، والذي تبلور في وصول احمد الشرع إلى كرسي الرئاسة في 29 يناير 2025. وعلى الرغم من محاولة الرئيس السوري الجديد مغازلة كافة الدول على المستويين الإقليمي والدولي، إلا أنه لم يسلم من الانتهاكات الإسرائيلية الغاشمة لسيادة بلاده، والذي ظهر بشكل واضح من خلال قصف المواقع العسكرية بسوريا، وما نتج عنه من انكشاف أمني واسع النطاق استغلته إسرائيل نحو توسيع المساحة المُسيطر عليها داخل الأراضي السورية من خلال السيطرة على جبل الشيخ وأجزاء إضافية من الجنوب السوري خلف المنطقة العازلة، إضافة إلى ضرب مواقع حساسة بالعاصمة السورية دمشق نتيجة للأزمة التي وقعت في الجنوب السوري بين الدروز والبدو في 13 يوليو 2025، وما صاحبها من تحفيز لكافة الطوائف للخروج من حالة الانصياع للنظام السوري الجديد مع ضمان الدعم الإسرائيلي لأي من تلك المحاولات.

وبناءًا على اعتبار وجود حدود مشتركة بين كل من تركيا وسوريا، يمكن النظر إلى تضارب مصالح الدولة التركية الراغبة في منع أي محاولة استقلال، أو خروج عن سيادة الدولة السورية من أي طائفة بالداخل السوري، لا سيما قوات سوريا الديموقراطية الموجودة على الحدود الملاصقة لتركيا، وبين إسرائيل الذي يستهدف تفتيت وحدة الأراضي السورية من خلال دعم الطوائف المختلفة للحصول على الاستقلال بهدف زيادة نفوذ إسرائيل بالإقليم، وتوسيع المساحة المُسيطر عليها من خلال مشروع “ممر داوود”.

(*) التوسع الإسرائيلي: كان لهجمات السابع من أكتوبر بالغ الأثر على استراتيجية دولة الاحتلال المُتبعة منذ وصول بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الوزراء في العام 2009، وذلك لما نتج عنها من تحول واضح في العقيدة الإسرائيلية من التعامل كقوة محافظة على الوضع القائم بالمنطقة، إلى دولة تمتلك نزعة تغييرية تستهدف الفتك بكافة التهديدات التي قد تمثل خطرًا عليها فيما بعد. وظهر ذلك بشكل واضح في ضوء التوسع الإسرائيلي بالمنطقة بشكل غير مسبوق من خلال الهجمات المُكثفة على ميلشيا “حزب الله”، وما صاحب ذلك من انتهاك لسيادة الأراضي اللبنانية، علاوة على الضربات المباشرة المُوجهة للأراضي السورية قبل وبعد سقوط حكم بشار الأسد، وجماعة “أنصار الله” (الحوثيين) باليمن.

واتجهت إسرائيل فيما بعد إلى توجيه ضربات عسكرية قاصمة تستهدف شل مناطق حيوية بالداخل الإيراني، لا سيما في ظل الخلاف حول أحقية طهران في تخصيب اليورانيوم والترويج لتسريع مساعيها لامتلاك سلاح نووي. ويمكن النظر إلى الضربات الإسرائيلية من حيث مدى تطور طبيعة الأهداف إلى أنها كانت إشارة واضحة بأن إسرائيل باتت تمتلك فيما بعد هجمات السابع من أكتوبر رؤية قائمة على الفتك بأي تهديد بغض النظر عن طبيعته في ضوء أطماع اليمين الديني ورؤاه حول توسيع الصراع وبناء إسرائيل الكبرى، مما يرسل إشارات واضحة للجانب التركي أنه في ظل الاشتباك مع إسرائيل في عديد من الملفات قد تمثل خطرًا جديًا باستهداف مصالحها ومنها القومي.

(*) الأزمة الإنسانية بغزة: يعاني سكان قطاع غزة في الآونة الأخيرة من أزمة غذائية حادة، نتجت عن إعاقة جيش الاحتلال وصول المساعدات لأهالي القطاع من خلال المعابر. ووصلت عدد حالات الوفاة نتيجة للمجاعة التي يعاني منها أهالي القطاع لحوالي 227 شخص، إضافة إلى معاناة الأطفال بشكل واضح من سوء التغذية الحاد بنسبة تتخطى أكثر من 66 آلف طفل. ولم تتوقف الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق المواطن الفلسطيني عند هذا الحد، وإنما استمرت لتتضمن اغتيال عدد من الصحفيين المنوط بهم نقل الأحداث من غزة إلى وسائل الإعلام المختلفة خاصة قبيل حملة مخططة لاحتلال مدينة غزة.

ويأتي ذلك الانتهاك الصارخ لحقوق المواطنين بغزة في ظل سعي القيادة الإسرائيلية التوجه نحو توسيع العمليات بأراضي القطاع، بهدف اجتياحه بريًا بشكل كامل، وما يصاحب ذلك من تهجير للسكان عبر الحدود بهدف ضم كل القطاع تحت السيادة الإسرائيلية تمهيدًا لاستيطانه. ويأتي ذلك في ظل رفض دولي واسع للانتهاكات الصارخة لحقوق المواطنين بغزة في الحصول على أدنى متطلبات الحياة وتعثر مفاوضات وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل.

أهداف متعددة  

على الجانب الآخر تستهدف تلك التحركات تحقيق مجموعة من الأهداف لصالح الدولة التركية، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:

(&) تحجيم أكراد سوريا: دائمًا ما ترتبط تحركات الدولة التركية على المستويين الإقليمي والدولي بهدف منع تقسيم سوريا من خلال خلق كيانات مستقلة تستهدف إقامة حكم ذاتي للأكراد بقيادة حزب الاتحاد الوطني الذي تعده تركيا امتدادًا لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيًا لديها. وتوجهت الدولة التركية نحو تعزيز نفوذ أحمد الشرع وهيئة تحرير الشام بالداخل السوري، من خلال تقديم كافة أنواع الدعم التي ساعدت في بسط السيطرة على أغلب الأراضي السورية. ومن جانب آخر، يمكن الإشارة إلى التوجه التركي الدائم نحو تأكيد أهمية وجود سوريا كدولة موحدة بلا أي كيانات مستقلة مثلما أشار الرئيس رجب طيب أردوغان، ووزير خارجيته هاكان فيدان من قبل في عدة مناسبات.

ونتيجة لتغلغل النفوذ الإسرائيلي بالداخل السوري، والذي ظهر بشكل كبير في الآونة الأخيرة من خلال الدعم الإسرائيلي الكبير للدروز بمحافظة السويداء جنوب سوريا بهدف تحفيزهم على الاستقلال عن الدولة السورية مع توفير الحماية الإسرائيلية اللازمة لذلك، اتجهت تركيا إلى التأكيد الدائم على ضرورة المحافظة على سوريا مُوحدة تحت حكم الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، وما يتضمنه ذلك من إعاقة توغل إسرائيل بالأراضي السورية، إضافة إلى التهديد بالتدخل المباشر إن حاولت “قسد” الاستقلال عن الدولة السورية أو حتى الحصول على الحكم الذاتي.

(&) الحد من النفوذ الإسرائيلي المُتزايد: تمتلك الدولة التركية عدة أوراق يمكن الاعتماد عليها بهدف تحجيم التمدد الإسرائيلي بغزة، ومنع تنفيذ خطة احتلال القطاع بشكل كامل. وتأتي زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى الدولة المصرية كدليل مباشر على التقارب الأخير بين الطرفين، نتيجة لوجود مُهدد مشترك لأمن كلتا الدولتين واستقرار المنطقة برمتها. وبالتالي استخدمت مصر وتركيا العلاقات الثنائية كوسيلة للتنسيق المتبادل فيما يخص كيفية اتخاذ كافة الخطوات الفعالة لمنع اجتياح القطاع بشكل كامل. إضافة إلى سعي تركيا استغلال التقارب بينها وبين الولايات المتحدة، والذي تمت الإشارة إليه أكثرمن مرة في تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان كوسيلة ضغط على الحكومة الإسرائيلية بهدف الوصول إلى تسوية تستهدف منع تفاقم الأزمة الإنسانية بغزة، والانسحاب الكامل من أراضي القطاع.

ومن جانب آخر، يمكن النظر إلى العلاقات الاقتصادية الوطيدة بين تركيا وإسرائيل كأحد المنافذ التي يمكن الاعتماد عليها لتعزيز التفاهم بين الطرفين فيما يخص الأزمات الإقليمية المختلفة، لا سيما الأزمة السورية، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وبالتالي، يمكن النظر إلى دائرة العلاقات الدبلوماسية المتشعبة التي تتمتع بها تركيا كوسيلة فعالة يمكن الاعتماد عليها بغرض تحجيم إسرائيل في الأزمات الإقليمية، مع الوضع في الاعتبار ضرورة عدم انتهاك السيادة الوطنية لأي من دول المنطقة، إضافة إلى الحث على إيجاد حلول فعالة للأزمة الإنسانية بغزة، وضرورة إيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية.

(&) حشد الجبهة الداخلية: يواجه الداخل التركي العديد من الأزمات الاقتصادية والسياسية التي نتج عنها تصاعد موجات الاحتجاج وما صاحبها من اعتقالات لمعارضي الحكومة التركية. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال القضية الفلسطينية واحدة من الركائز الأساسية التي يجب أن تُوضع في معادلة الشارع التركي، الرافض بشكل واضح لما يجري من حرب الإبادة في غزة. ويمكن الإشارة لخسارة الحزب الحاكم بتركيا (حزب العدالة والتنمية) للانتخابات البلدية لصالح أحزاب المعارضة كنقطة مفصلية في مدى اهتمام الحزب الحاكم بالقضية الفلسطينية في الآونة الأخيرة، حيث أدرك حزب العدالة والتنمية تحت قيادة أردوغان ضرورة اتخاذ مواقف أكثر حزمًا تستهدف تهدئة الرأي العام وهو ما ظهر في تصريحات أردوغان التي يمكن اعتبارها دعائية في كثير من الأحيان.

وعلى الرغم مما يواجهه النظام الحالي من أزمات، إلا أنه قادر على الاعتماد على تصدير صورة إسرائيل كعدو للشعب التركي يجب التكاتف بغرض تحجيمه، ووقف الانتهاكات الدائمة لسيادة الكثير من دول الشرق الأوسط، مع الوضع في الاعتبار أن الدولة التركية يمكن أن تكون العدو القادم، لا سيما بعد استهداف الأراضي الإيرانية بشكل مباشر.

(&) ترجيح كفة المشروع التركي: كان لانهيار المشروع الإيراني، أو بحد أدنى تراجعه أثر كبير على عودة المشروع التركي إلى الواجهة من جديد جنبًا إلى جانب مع المشروع الصهيوني، الذي يستهدف التوسع إقليميًا على حساب الدول الأخرى. ويُمكن النظر إلى أحداث السابع من أكتوبر كنقطة تحول أساسية في رؤية الإدارة التركية لكيفية تنفيذ المشروع التركي بشكل واقعي في ظل تغير رؤى الحكومة الإسرائيلية لضرورة تحقيق حلم إسرائيل الكبرى. وبالنظر إلى رغبة الجانب التركي من جانب في ضرورة التوغل في المناطق التي كانت تابعة للدولة العثمانية من قبل مثل سوريا والعراق ولبنان، يرى الجانب الإسرائيلي هو الآخر ضرورة تحقيق مشروع إسرائيل الكبرى على حساب المشروع التركي بعد سقوط بشار الأسد.

وبينما تتجه إسرائيل إلى إحداث تغيير عنيف يستهدف التوسع السريع على حساب دول المشرق العربي، تتجه الدولة التركية في الفترة الأخيرة نحو إعادة ترميم العلاقات التي تدهورت طوال الفترة الماضية مع دول عدة بالمنطقة، لا سيما الدولة المصرية التي كانت عائقًا رئيسيًا أمام المشروع التركي بالمنطقة. إضافة إلى ذلك، تحاول تركيا الإسراع باستغلال مساحات الفراغ الناتجة عن الانسحاب الإيراني وانهيار محور المقاومة مُزاحمة إسرائيل التي تسعى هي الأخرى لتحقيق الهدف ذاته. ويُمكن النظر إلى زيارة وزير الخارجية التركي لمصر، كمحاولة تستهدف تحجيم نطاق توسع إسرائيل من خلال توسيع دائرة التفاهمات بين الجانبين التركي والمصري المتوافقان حول الرفض التام لما ترتكبه إسرائيل من انتهاكات صارخة لسيادة دول الإقليم، مما يؤدي بدوره إلى خلق مساحة أكبر لتغلغل النفوذ التركي، في ظل عدم الرضا الإقليمي أو الدولي عن الانتهاكات الإسرائيلية التي نتج عنها الإخلال بأمن المنطقة ككل.

وختامًا، يمكن النظر إلى التحركات التركية المكثفة في الفترة الأخيرة كمحاولة تستهدف اللعب على خط التوازنات الدولية من خلال خلق تحالفات تستهدف منع تهديد الأمن القومي التركي، وما يصاحب ذلك من إيقاف تغلغل إسرائيل بالمنطقة، والذي يؤدي بدوره إلى المساهمة في إعادة التموضع التركي إقليميًا من خلال توظيف الأزمات الراهنة كورقة رابحة تستهدف تحقيق أعلى المكاسب لصالح المشروع التركي على حساب المشروع الإسرائيلي القائم على رفض وجود أي قوى أخرى بالمنطقة.

عبدالرحمن سعدالدين

عبدالرحمن سعد الدين، باحث في وحدة دراسات العالم. الباحث حاصل على بكالوريوس العلوم السياسية من جامعة الإسكندرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى