تداعيات انسحاب دول الساحل من المنظمة الدولية للفرانكفونية

فوزية صبري- باحث مشارك
في خطوة غير مسبوقة تحمل دلالات سياسية وثقافية عميقة، شهدت منطقة الساحل الأفريقي انسحاب جماعي لدول النيجر ومالي وبوركينا فاسو من منظمة الدول الناطقة بالفرنسية (الفرانكفونية) في مارس الماضي.[1] ويأتي هذا القرار في ظل التحولات الجذرية التي تشهدها منطقة الساحل الإفريقي، وجاء هذا القرار وفقا للمراقبين ليعبر عن رغبة هذه الدول في التخلص من التبعية التاريخية لباريس وإعادة تشكيل علاقاتها على أسس أكثر استقلالية.
تجدر الإشارة إلى أن عام 1970 شهد تأسيس المنظمة الدولية للفرانكفونية (OIF) في نيامي (عاصمة النيجر)[2] التي يتمثل هدفها الرئيسي في الترويج للغة الفرنسية وتعزيزها، وتضم المنظمة حاليًا أكثر من 88 دولة عبر العالم تمثل الدول الإفريقية النسبة الأكبر من أعضاءها، كما أن اللغة الفرنسية تعد اللغة الرسمية لـ 33 دولة حول العالم.[3] وعليه، قد يمثل الانسحاب الجماعي لثلاثة دول من منطقة الساحل الإفريقي خطوة جادة نحو انسحاب دول إفريقية أخري من المنظمة؛ مما يؤدي إلى احتمال تراجع النفود الفرنسي في إفريقيا.
واتصالًا يوجد في القارة الإفريقية نحو44% من الناطقين بالفرنسية حول العالم. لذلك سعت دول الساحل الإفريقي إلى زيادة عزلة فرنسا ثقافيًا من خلال قيام مالي في عام 2023 بتقليل الاعتماد على اللغة الفرنسية، واعتبارها لغة عمل فقط وجعل اللغات الوطنية لغات رسمية للبلاد.[4] بالإضافة إلى ذلك قامت النيجر بتغيير أسماء الشوارع والمواقع التاريخية المسماة بأسماء فرنسية إلى إفريقية ووطنية في أواخر عام 2024.[5]
سياق جيوسياسي:
يأتي قرار انسحاب دول الساحل من المنظمة في سياق التحولات المتسارعة التي تشهدها دول هذه المنطقة، وعلى رأسها النيجر ومالي وبوركينا فاسو، والتي شهدت خلال السنوات الـ4 الماضية سلسلة من الانقلابات العسكرية التي أعادت تشكيل المشهد السياسي في المنطقة، حيث سعت القيادات العسكرية الجديدة إلى اكتساب شرعيتها من شعارات استعاده السيادة الوطنية والخروج من مظلة التبعية للاستعمار الفرنسي، مما أدي إلى انتشار المشاعر المناهضة لفرنسا وعليه انسحبت باريس عسكريًا من تلك الدول.[6]
كما رأت الأنظمة العسكرية الجديدة ضرورة الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس) وقد تم الخروج رسميًا في 20 يناير الماضي؛ ويأتي ذلك في أعقاب تدهور العلاقات بين الأكواس والدول الثلاث بعد سلسلة الانقلابات العسكرية المتتالية، هذا بالإضافة إلى تعليق عضوية هذه الدول في الإيكواس، وفرض عقوبات اقتصادية عليها. جدير بالذكر أن مجموعة الإيكواس منحت دول الساحل المنسحبة (مالي- بوركينا فاسو- النيجر) مهلة تمتد حتى شهر يوليو2025 لإعادة النظر في قرارها؛[7] مما يعكس رغبة المنظمة في الحفاظ على استقرار العلاقات الإقليمية، وفتح إمكانية استئناف التعاون في المستقبل.
واستكمالًا لتحركات الانسحاب من الإيكواس، سعت مجموعة دول الساحل إنشاء الدول الثلاث تحالف مشترك تم تصميم علم وجواز سفر خاص به بديل عن جواز الإيكواس، كما تم تشكيل وحدة عسكرية تتكون من 5000 جندي لمواجهة خطر الإرهاب في الدول الثلاث، بالإضافة إلى إقامة نظام فيدرالي بينهما يكفل تحقيق التعاون في مختلف المجالات.[8] وعلاوة على ذلك تراجع النفوذ الغربي بشكل عام والفرنسي بشكل خاص في الساحل الإفريقي في مقابل توسع النفوذ الروسي والصيني اللذين لا يمتلكان تاريخ استعماري مع دول إفريقيا، حيث وقعت روسيا العديد من اتفاقيات التعاون في المجالات الأمنية والعسكرية مع دول الساحل الإفريقي، بالإضافة إلى المساعدات الروسية للدول الإفريقية، وتتبني الصين نهج مقارب لروسيا فهي أكبر مستثمر أجنبي في العمق الإفريقي، وأكبر شريك تجاري لإفريقيا بشكل عام ولمنطقة الساحل بشكل خاص.[9] وعليه، نستنج أن القرار الجماعي بالانسحاب من الفرانكفونية، يعكس رغبة الدول الإفريقية، وبالتحديد دول الساحل في التخلص من مظلة التبعية للنفوذ الغربي.
انعكاسات محتملة:
يمثل الانسحاب الثلاثي لدول الساحل الإفريقي من منظمة الفرانكفونية سلاحًا ذا حدين؛ فمن جهة يعد خطوة إيجابية نحو تعزيز الاستقلال الثقافي والتخلص من مظلة التبعية التاريخية لباريس، ومن جهة أخرى قد يفضي هذا القرار إلى توقف الدعم الفرنسي للعديد من القطاعات الحيوية وعلى رأسها التعليم. حيث أن فرنسا بالتنسيق مع منظمة الفرنكوفونية، تؤدي دورًا محوريًا في نشر اللغة والثقافة الفرنسية في إفريقيا، ويشكل التعليم إحدى أولوياتها الخارجية. يذكر أن المنظمة خصصت في عام 2018 مساعدات بقيمة 206 ملايين يورو للبلدان الـ 19 ذات الأولوية بالنسبة للمساعدات الإنمائية الرسمية الفرنسية، وقد حصلت منها دول الساحل وحدها على 53 مليون يورو، أي ما يُعادل أكثر من ربع التمويل، وهو ما يبرز الأهمية الاستراتيجية التي توليها باريس للمنطقة.[10] وانطلاقًا من ذلك فإن الانسحاب من المنظمة لا يعبر فقط عن قطيعة رمزية مع الإرث الثقافي الفرنسي، بل يحمل أيضًا انعكاسات مادية مباشرة تتعلق بالتخلي عن مساعدات تنموية كانت تشكل دعمًا أساسيًا للمؤسسات التعليمية والبرامج اللغوية؛ مما يضع هذه الدول أمام تحديات إعادة بناء سياساتها الثقافية والتعليمية على أسس جديدة.
وبناءً على ما سبق، يعد هذا الانسحاب بمثابة تقويض لوحدة منظمة الفرانكفونية، حيث قد يحفز الدول الإفريقية الأخرى خصوصًا تلك التي تشترك في ظروف استعمارية مشابهة على إعادة تقييم موقفها من الانضمام إلى المنظمة. من جهة أخرى أضاف هذا الانسحاب، بعدًا شرعيًا للأنظمة الحاكمة الحالية في الدول الثلاث، مما قد يؤدي إلى عزلة دبلوماسية مع باريس والدول الغربية الداعمة للفرانكفونية. وعلاوة على ذلك يعد هذا الانسحاب بمثابة خطوة نحو التخلص من التبعية الغربية بشكل عام، ومن التبعية الفرنسية بشكل خاص. ومع ذلك لا يضمن أن يكون هذا التحرك بمثابة تحرر كامل؛ حيث قد يؤدي ذلك إلى الوقوع تحت نفوذ روسيا والصين في ظل تنامي تأثيرهما في المنطقة في السنوات الأخيرة.
في النهاية، يمكن القول إن انسحاب دول الساحل من المنظمة الدولية الفرانكفونية، يمثل لحظة مفصلية في العلاقة بين الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية وباريس، ويعكس ديناميكيات جديدة في التحرر من الإرث الاستعماري، لكنه في الوقت نفسه يضع أمام الدول الثلاث تحديات معقدة تتطلب رؤية استراتيجية طويلة المدى لبناء استقلال فعلي لا يقتصر على الرمزية فقط، بل يشمل إعادة هيكلة العلاقات الثقافية، التعليمية، والتحالفات الدولية.
___________________________________
[1] صغير الحيدري، كيف يؤثر الانسحاب الافريقي من المنظمة الفرنكفونية في فرنسا، اندنبنت عربية، نشر في 25/3/2025، شوهد في 1 /4/2025، متاح على الربط التالي: https://is.gd/48oOlG
[2] الهيئة العامة للاستعلامات، مصر والمنظمة الدولية الفرانكفونية، نشر في 17/3/2023، شوهد في 1/4/2025، متاح على الرابط التالي: https://is.gd/9M2oUY
[3] الشرق الأوسط، القمة الفرنكفونية في فرنسا تواجه التحديات العالمية، نشر في 3/10/2024، شوهد في 1/4/2025، متاح على الربط التالي:
[4] صغير الحيدري، مرجع سبق ذكره.
[5] أفروربسيرتش، نشر في 16/10/2024، شوهد في 2/4/2025، متاح على الرابط التالي: https://is.gd/W9VEIp
[6] فرانس24، فرنسا تسحب قواتها من ساحل العاج والسنغال تؤكد انتهاء الوجود العسكري على أراضيها، نشر في 1/1/2025، شوهد في 2/4/2025، متاح على الرابط التالي: https://is.gd/cSAq8O
[7] قراءات إفريقية، ماذا بعد إعلان تحالف دول الساحل عن انسحابها من إيكواس؟، شوهد في 3/4/2025، متاح على الرابط التالي: https://is.gd/PjZdOM
[8] وحدة الدراسات الإفريقية، ما بعد الإيكواس: مستقبل تحالف دول الساحل الإفريقي، مركز الإمارات لسياسات، مارس2025، ص4،1.
[9] هدير أحمد حسانين، تراجع النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي ودلالات انسحاب مالي وبوركينا فاسو من G5، مركز ايجيبشن انتربرايز، فبراير2024، ص 12،11،10،6.
[10] Diplomatie ,education and professional training ,accessed on 4/4/2025, available at: https://is.gd/lfkz9N