السؤال المُحير: ماذا لو انهارت الولايات المتحدة الأمريكية؟

يتطلب طرح سيناريو ماذا سوف يحدث لو انهارت الولايات المتحدة الأمريكية، طرح سؤال آخر بالتوازي، هو كيف يحدث هذا الانهيار، هل نتيجة حرب أهلية أم انهيار بسبب مواجهات عسكرية، أم نتيجة انهيار مجتمعي عالمي ناتج عن حرب نووية، أو جائحة عالمية مميتة على غرار الموت الأسود أو ثوران بركان يلوستون العملاق، أم اضمحلال للهيبة والحلم الأمريكي، ومن ثم يكون ضياع النفوذ للإمبراطورية الأمريكية وليس ضياع للدولة؟. وهل يمكن القياس تاريخيا على سقوط روما مثلا؟ فقد كانت روما دولة محورية. وإذا درسنا سقوط روما فربما نستطيع أن نكوّن فكرة جيدة عن ظاهرة الانهيار وأسبابه وتداعياته. فقد كان الانهيار الاقتصادي (التجارة والتبادل التجاري)، وانهيار الصناعة، وفشل البنية الأساسية؛ وكانت التأثيرات المتتالية للسقوط مستمرة لمئات السنين. وبشكل عام، فإن انهيار الولايات المتحدة نتيجة انهيار مجتمعي عالمي سيعيد الناس تنظيم أنفسهم على أسس قبلية و”القوة ستصنع الحق”. مثلما يحدث في الدول الفاشلة مثل هايتي وأفغانستان والسودان أو أي عدد آخر من الدول. ستتنافس العصابات وأمراء الحرب والأفراد الأقوياء على السلطة. بالتالي، سينظم الناس أنفسهم حول هؤلاء الأفراد أو المجموعات ويتنازلون عن حريتهم في مقابل البقاء وبعض تدابير الحماية. قال ويليام فوكنر “الماضي لا يموت أبدًا، حتى أنه ليس الماضي”.[1] ولعل تداعيات سيناريو الانهيار المجتمعي العالمي جراء حرب نووية كبرى، هي التداعيات الأكثر تأكيدًا في مجال التحليل الاستراتيجي.
أفول نجم الولايات المتحدة:
يشهد مجال الدراسات المستقبلية المعاصر عمليات شد وجذب بين تيارين رئيسيين بخصوص مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية في ظل تخافت قوتها وكونها القطب الأوحد في النظام العالمي القادم في ظل تنامي الصين على نحو كبير مع عودة بشكل مغاير لروسيا الاتحادية، ومحاولات كل من روسيا والصين في دعم تجمع البريكس والبريكس بلس حتى يمكن منافسة الولايات المتحدة وتقليص نفوذها العالمي. فالمتابع الجيد للدراسات المستقبلية لمعرفة هيكل وشكل النظام العالمي الجديد في الحقب القليلة القادمة، يرى أن الرؤية المؤيدة لأفول نجم الولايات المتحدة الامريكية، هي الرؤية الأكثر زخمًا، وهو ما يفسر بزوغ الصين بنحو مغاير تمامًا من خلال طرحها لنماذج جديدة، يمكن من خلالها أن تؤهل نفسها لقيادة العالم المستقبلي أو على الأقل المشاركة في تلك القيادة. وتفسير ما سبقأ يمكن التطرق إلى معادلات التواريح التالية، هي:
(*) في عام 1987 ، شهدت أدبيات العلاقات الدولية كتابًا هامًا تحت اسم صعود وهبوط القوى العظمي في عام 1987 للكاتب بول كنيدي، أي قبل انهيار الاتحاد السوفييتي. ويعد هذا الكتاب في غاية الأهمية لمعرفة ديناميات الصعود والهبوط للقوة العظمى. ووفقا لرؤية كيندي فإن الولايات المتحدة ستواجه مشكلة “التمدد الزائد” والذي يعني أن نفقات التمدد ستصبح أكبر من مكاسبه مما سيدفع الدولة اإى ” النكوص أو الرجوع” ومن ثم ترك المجال للقوى الصاعدة لتملأ الفراغ، والتي تتمثل في الصين محددًا فترة ما بعد عام 2000 كبداية لهذا التصور الذي سانده علماء آخرون مثل الروسي Dmitry Orlov وعالم اللغويات الأمريكي تشومسكي وآخرون.
(*) في عام 1993، أشار العالم Gerald Celente إلى الرؤية السياسية المستقبلية للولايات المتحدة والتي جاءت تحت اسم “تحجيم أمريكا “. حيث ركز جيرالد على ثلاثة ظواهر كبرى هي: اتساع قاعدة العداء للولايات المتحدة الأمريكية في العالم، استمرار التراجع في المكانة الاقتصادية والثقافية، ثم تفاقم مشكلات المهاجرين.
(*) في عام 1997، تنبأ Thomas W. Chittum “برؤية مستقبلية متشائمة للولايات المتحدة الأمريكية، حيث ذكر توماس أن الولايات المتحدة” سوف تتعرض للبلقنة في إشارة إلى حالة التفكك التي شهدتها منطقة البلقان من خلال اشتعال حرب أهلية جديدة، وهو ما عاد العالم الروسي ايجور بانيان في عام 1998 لتأكيده ببدء تفكك الولايات المتحدة إلى ستة أجزاء، وحدد لذلك عام 2010، وتعززت رؤيته في عام 2008 مع أزمة الرهن العقاري وتداعياتها في الولايات المتحدة فعاد لنشر دراسة ثانية عام 2009 تأكيدا لرأيه.
(*) في عام 2004 ظهرت دراسة للعالم يوهان غالتنك Johan Galtung) ) تحت اسم الانخفاض والانحدار القادم للإمبراطورية الأمريكية، حيث اعتمد يوهان في دراسته على تحليل تداعيات 14 تناقضا في الهيكل البنيوي للولايات المتحدة الأمريكية، لكنه أوضح أنه يتحدث عن تراجع الإمبراطورية الأمريكية لا ” الجمهورية الأمريكية“، أي أن التراجع سيكون في امتداد الإمبراطورية ونفوذها الدولي، وليس في القوة الداخلية للجمهورية الأمريكية.
(*) في عام 2011 ظهر كتاب انتحار القوة العظمى يقول “برتريك بوتشنان” الذي عمل مستشارا لثلاثة رؤساء أمريكيين أن الولايات المتحدة آيلة للتفكك مركزًا على التحولات القيمية والتباطؤ الاقتصادي وتوجهات النخب الجديدة. كما انضم علماء الانثروبولوجيا للتيار التحليلي السياسي والعلاقات الدولية، حيث ظهرت دراسة “بيتر تورشين” وهو أحد علماء الانثروبولوجي، الذي بنى نظريته على النموذج التاريخي المتكرر والمتمثل في عرض مراحل النمو والاستقرار في الحضارات والإمبراطوريات القديمة ثم مراحل الاضطراب والتراجع الاقتصادي التي تليها، وقام بتطبيق هذا النموذج على الولايات المتحدة ولقد استخلص بيتر تورشين ما يلي: الأول، هو أن الولايات المتحدة الأمريكية على اعتاب المرحلة الثانية طبقا للمعدل الزمني الذي وضعه في كتابه عصور الفوضى، والذي يشير إلى أن معدل فترات التماسك اطول من معدلات فترات التفكك. الثاني، قارن بيتر بين الوضع الحالي في الولايات المتحدة بالمرحلة التي سبقت الثورة الفرنسية او المرحلة التي سبقت عام 1630 في بريطانيا. والثالث، اعتمد بيتر في تحليله للنموذج الامريكي على تفاعل ثلاثة أبعاد مركزية تقود لعدم الاستقرار ولكل منها متغيراته الفرعية وهي على النحو التالي: 1- الدولة: ومتغيراتها تتمثل في: الحجم، الدخل، النفقات الديون، الشرعية. 2- السكان: ومتغيراته هي العدد- التركيب العمري- التحضر (سكان المدن)، الدخل الفردي، التفاؤل الاجتماعي. 3- النخبة: ومتغيراته هي العدد- البنية- الثروة- النزعة الاستهلاكية- قيم التعاون- التنافس الداخلي.
مؤشرات دالة:
ثمة مؤشرات تشاؤمية بالمجتمع الأمريكي، أهمها أنه يوجد الآن نحو ثمانية وخمسين تنظيمًا أو هيئة أو جمعية تدعو للانفصال تتوزع في اغلب الولايات المتحدة، كما أن معدل 21% من الأمريكيين يريدون انفصال ولاياتهم وتأسيس جمهوريات منفصلة، وتصل النسبة في بعض الولايات إلى 34% وتأتي كاليفورنيا التي تعاني من حرائق مدمرة على راس تلك الولايات. ويشير استطلاع حديث لمعهد جالوب في نهاية 2018 إلى انخفاض المؤيدين لقيادة أمريكية للعالم من 48% عام 2016 إلى 30% عام 2018، وفي استطلاعات معهد بيو(pew) المعروف عام 2019 كشفت النتائج عن عدة توجهات هي أن 60% يرون أن أهمية أمريكيا في العالم تتراجع، و73% يرون أن الفروق الطبقية تتزايد داخل المجتمع الأمريكي، بينما 65% يرون أن الاستقطاب السياسي في المجتمع الأمريكي يتزايد، في حين أن 48% من الأمريكيين يرون أن القادة الحاليين ليسوا على مستوى المسئولية.
كما أن هناك ثمة مؤشرات، تدل على تدني الأداء بالمجتمع الأمريكي، تعد الولايات المتحدة هي صاحبة أعلى معدل جريمة في العالم. كذلك، وفقا لمؤشر جيني للدخل فإن دخل أعلى 1% من العائلات الأمريكية يعادل 5 ضعف دخل الـ 99% الباقين، وذلك وفقا لإحصائيات Economic Policy Institute. كذلك تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية، هي صاحبة أعلى دين في العالم، حيث يشير معهد التمويل الدولي إلى أن مديونية تصل لنحو 70 مليار في حين أن الأرقام الرسمية الأمريكية تشير إلى أنها نحو 22-30تريليون دولار. وأيضا، تعاني الولايات المتحدة الأمريكية من العجز التجاري، الذي تجاوز 621 مليار عام 2018 (ومنها 419 مليار مع الصين)، وعجز الموازنة العامة. بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة، ستعاني من خلل سكاني وفق العرق واللون، حيث سيكون هناك 66 مليون من ذوات اللون الأسود عام 2040، و130 مليون من ذوي الخلفية الاسبانية. ويصاحب ذلك خلل في التمثيل بالمؤسسات الرسمية الحكومية والمركزية. فذوي البشرة السوداء سيشكلون نحو 12% من السكان بينما في الرئاسة 2%، والكاثوليك 24% وفي الرئاسة 2.2% ايضا. ناهيك عن تزايد موجات اليمين المتطرف بالداخل الأمريكي.[2] ووجود أزمة هوية وفق ما طرحه صمويل هيننتجتون في كتابه who we are؟.
بعد أن كان هذا طرح انحدار أو انهيار الولايات المتحدة الأمريكية مقتصرًا على كتّاب يساريين يعزفون النغمة المكررة ذاتها عن “أزمة الرأسمالية”، فإن مفكرين غربيين (غير أميركيين خصوصا) طرحوا هذه الاحتمالية سابقًا، باعتبارها حتمية تاريخية، أو نمطًا متكرّرًا (pattern) في حياة الدول والإمبراطوريات، وهو ما طرحه أيضا الأسكتلندي نيل فيرغسون (Neil Ferguson)، صاحب كتاب “الحضارة: الغرب والآخرون” (Civilization: The West and the Rest)، والنرويجي يوهان جولنتج (Johan Galtung) مؤسّس معهد أوسلو لدراسات السلام، وهو المفكر الوحيد الذي تنبأ عام 1980 بانهيار الاتحاد السوفييتي خلال عشر سنوات، لأسبابٍ داخليةٍ اقتصاديةٍ واجتماعية، وتوقع عام 2000 انهيار الولايات المتحدة خلال 25 عاما وهو العام الذي يتصادف أن يأتي مع حكم ترامب الذي يعد بحكم القضاء الأمريكي مجرما وتصادف أيضا مع حرائق في ولاية من أهم وأكبر ولايات أمريكا. كما يوضح الاستطلاع الذي أجراه مركز السياسة في جامعة فيرجينيا (University of Virginia Center for Politics) في 2023، والذي بين أن 52% من الجمهوريين يفضلون العيش في دولة خاصة بهم، في حين يرى 41% من الديمقراطيين أن من الأفضل تقسيم البلاد.
وعلى ما سبق، يكون السؤال المهم الذي يسترعي الانتباه هنا، هو عن التداعيات المحتملة لانهيار الولايات المتحدة، بعد أن صار الحديث عنه مقبولًا في الأوساط الأكاديمية والفكرية الأمريكية والغربية. وبذلك فإن الأمة الامريكية التي كانت ذات يوم تعرف بتفاؤلها الذي لا يمكن كبته تبدو الآن مهووسة بالانحدار. وتبدو قائمة الشكاوى الأمريكية بلا نهاية: فالأجور الحقيقية في انخفاض. ونمو الإنتاجية في انخفاض. والشركات غير قادرة على المنافسة في الأسواق العالمية. والوظائف المكتبية لم تعد آمنة. والبنية الأساسية للبلاد تنهار. والعجز في الموازنة الفيدرالية في ارتفاع. والنظام الصحي يتدهور. والمدن غير آمنة. والمدارس فاشلة. والفجوة بين الأغنياء والفقراء تتسع. والواقع أن هذا الانشغال بالانحدار منتشر إلى الحد الذي أدى إلى ولادة مدرسة فكرية خاصة بها. ولنسمها “الانحدار” ــ الفكرة القائلة بأن هناك خطأ جوهريا في الاقتصاد الأمريكي، وما لم يتم إصلاحه فلن تتمكن الولايات المتحدة من المنافسة بفعالية في الأسواق العالمية ولن توفر مستوى معيشي كافيا لمواطنيها، مما يؤثر على انتشارها العسكري بالخارج ونفوذها العالمي[3].
انهيار النموذج الملهم:
لطالما كانت الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، النموذج الملهم والحلم لكافة دول ومواطني تلك الدول في انحاء العالم. بل أن أحد أسباب القضاء على الاتحاد السوفيتي وتفككه، كان النموذج الملهم للولايات المتحدة الأمريكية والثقافة والسينما والجامعات والمراكز العلمية والبحثية الأمريكية. وعلى الرغم من استخدام الولايات المتحدة للسلاح النووي في إبادة جزء من الشعب الياباني وحرب فيتنام، وما تم الاقتراف فيها من خروقات بحق المواطنين الفيتامينين، إلا أن النموذج الأمريكي استطاع أن يتصدى ويستمر إلى أن تم محاصرته وانحداره بشكل كبير نسبيا خلال حرب العراق وما حدث في سجون بوكا وأبو غريب من انتهاكات جسيمة بحق المواطنين العراقيين. فضلا عن تورط الولايات المتحدة عبر أجهزتها الأمنية في احتضان وتخمير تيارات إرهابية بدء من القاعدة في أفغانستان حتى داعش في العراق، وما انبثق عنهم من تيارات إرهابية متفرقة. ثم الوصول إلى حرب غزة ووجود دعم كامل من جانب الولايات المتحدة على إبادة الفلسطينيين في غزة، وبعض مخيمات الضفة الغربية وانكشاف الوجه الحقيقي للنموذج الأمريكي الذي يطبق النموذج الملهم وحقوق الإنسان من خلال عدة معايير وليس بمعيار واحد على الجميع مما نال كثيرا من النموذج الأمريكي الملهم.
وعلى صعيد الهيبة الأمريكية التي تحقق الردع الاستباقي، فإن مفهوم الردع وفق المدرسة الكلاسيكية، هو أن يتم ترهيب المردوع أو المستهدف من عملية الردع، بحيث لا يستطيع من الأساس القيام بأي عمل عسكري استباقي أو لاحق لخوفه من رد الطرف الأقوى، وهو الأمر الذي لم تعد الولايات المتحدة تتمتع به. إن المثال التطبيقي في هذا السياق، هو جماعة أنصار الله في اليمن والتي لم يستطع النموذج الأمريكي أن يطبق عليها مفهوم الردع الكلاسيكي. لذلك، فإن العاملين في هذا المجال يلجؤون إلى تفسير سلوك أنصار الله، بأنهم يقومون بعمل انتحاري في نوع يمكن أن نطلق عليه “التكاسل التحليلي”. في حين أنه بنظرة أكبر تفحصصًا يتضح أن السبب الرئيسي هو انهيار الهيبة للنموذج وان نظرية الردع الكلاسيكي لم تعد صالحة للتطبيق في النظام المعاصر. وربما يرجع ذلك الى مراكز البحوث الامريكية او غيرها والتي تتحاشى اظهار اهتزاز نظرية الردع الكلاسيكية لان ذلك قد يعني التأثير على المشتريات من السلاح الأمريكي. وبات الردع يرتبط بأمور أخرى غير القوة العسكرية المباشرة. وعلى صعيد آخر، فإن الثقافة والسينما الأمريكية تقلص دورها لصالح السينما الهندية وباتت الدراما الكورية والتركية والهندية وغيرها تأكل من الكعكة الأمريكية. أضف لذلك المشكلات المتعلقة بالملكية الفكرية التي كانت أزمة كبرى في هوليوود والتي أثرت على العاملين في صناعة السينما، ومن المؤكد أن الحرائق التي طالت أجزاء كبيرة من مدينة الفنون في لوس انجلوس سوف تؤثر بشكل كبير على صناعة السينما الأمريكية في العالم.
إن النموذج الأمريكي الذي كان يطرح نفسه على الصعيد العالمي، بأنه ملهما وأنه يدافع عن حقوق الانسان والأقليات والمرأة والطفل، وهو ما اثبتت حرب غزة، ومن قبلها العراق بأن المزاعم الأمريكية ليست حقيقية على الأقل فيما يتعلق بالآخر. فإن هذا النموذج في الانتخابات الأخيرة لم يستطع أن يفرز في الانتخابات الرئاسية، إلا ترشيح بايدن المتهالك أو ترامب المدان بنص القانون والقضاء الأمريكي. فالحقيقة، إن النسخة الأكثر شيوعاً من نظرية الانحدار موجودة في الأدبيات الضخمة التي تتناول موضوع “القدرة التنافسية”. ويختلف ما يعنيه المؤلفون المختلفون بهذا المصطلح، ولكن النهج الأساسي واحد. فأولاً، يقارن أصحاب نظرية الانحدار الأداء الاقتصادي الأمريكي بأداء المنافسين الرئيسيين للبلاد. ويجدون أن الأداء الاقتصادي الأمريكي يفتقر إلى الجودة، ويحثون الولايات المتحدة على أن تصبح أكثر شبهاً بمنافسيها.
وللحصول على بعض الأمثلة النموذجية لهذا النوع من التحليل، يوجد تقريرين صدرا عن مجتمع السياسات العامة في واشنطن: “الاقتصادات المتنافسة: أمريكا وأوروبا ومنطقة حوض المحيط الهادئ”، وهو تقرير صادر عن مكتب تقييم التكنولوجيا، و”بناء أمريكا التنافسية”، وهو أول تقرير سنوي يصدره مجلس سياسات القدرة التنافسية. ويزعم محللو منظمة التجارة العالمية أن المقياس الرئيسي للقدرة التنافسية هو قدرة الدولة، في ظل ظروف السوق العادلة، على “إنتاج السلع والخدمات التي تلبي اختبار الأسواق الدولية، مع الحفاظ على الدخل الحقيقي لمواطنيها أو توسيعه في الوقت نفسه”. ووفقاً لتقرير “الاقتصادات المتنافسة”، فإن الولايات المتحدة تفشل في كلا الأمرين. فقد انخفضت حصتها من صادرات التصنيع العالمية في العقود الأخيرة، في حين ارتفعت حصتها من الواردات. وهي تفشل في اختبار مستويات المعيشة لأن الأجور الحقيقية لعمال الإنتاج الصناعي انخفضت منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين. وفي حين تساهم الحواجز التجارية اليابانية في العجز التجاري الأميركي مع تلك الدولة، فإن مؤلفي التقرير يزعمون بقوة أن “التجارة غير العادلة” لا يمكن تحميلها اللوم بالكامل عن الاتجاهات التي يصفونها.
ويعترف تقرير “الاقتصادات المتنافسة” بأن بعض التراجع في حصة الولايات المتحدة في الأسواق الدولية كان حتمياً، نظراً لأن الولايات المتحدة بدأت السباق الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية باعتبارها أغنى دولة في العالم. ولكن التقرير لا يركز كثيراً على هذه الحقيقة الأساسية في التاريخ. إن أوروبا واليابان كانتا ملزمتين باللحاق بالركب، الأمر الذي أدى في هذه العملية إلى تقويض الهيمنة الاقتصادية الامريكية. والواقع أن الولايات المتحدة أنفقت قدراً كبيراً من السنوات الثلاثين الماضية في التأكد من أن هذه العملية على وجه التحديد قد حدثت. وكانت أهداف السياسة الامريكية، كما أعلنت بوضوح، تتلخص في محاربة الشيوعية من خلال زرع بذور نجاح الرأسمالية وتوسيع التجارة ــ وهي الأهداف التي من المفترض أن تعود بالنفع على الولايات المتحدة. والآن بعد أن نجحت هذه السياسات، يرغب أصحاب نظرية الانحدار في استخدام مقياس مختلف تماماً لإعلان فشلها. وتجدر الإشارة إلى إن تحليل نظرية الانحدار، يتجاهل حقيقة مفادها أن الولايات المتحدة كانت تستعيد بهدوء حصة السوق من منافسيها الصناعيين الرئيسيين في السنوات الماضية. ومن ناحية أخرى، لا تشكل أجور عمال التصنيع مقياساً قوياً لمستويات المعيشة الوطنية. ومثل العديد من أصحاب نظرية الانحدار، يخلط تحليل نظرية الانحدار في الخارج بين التفاوت المتزايد والرخاء المتراجع: فقد ارتفع نصيب الفرد الحقيقي في الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين.
ويتلازم مع الرأي السابق، راي مناقض، فهناك من يرى أنه من غير المرجح، أن ينهار الاقتصاد الأمريكي. وانه عند الضرورة، تستطيع الحكومة الفيدرالية أن تتحرك بسرعة لتجنب الانهيار التام. على سبيل المثال، يستطيع بنك الاحتياطي الفيدرالي أن يستخدم أدواته النقدية الانكماشية لترويض التضخم المفرط، أو أن يعمل مع وزارة الخزانة لتوفير السيولة، كما حدث أثناء الأزمة المالية في عام 2008 وجائحة كوفيد-19. وتؤمن مؤسسة التأمين على الودائع الفيدرالية البنوك، لذا فإن احتمالات انهيار البنوك على غرار ما حدث في ثلاثينيات القرن العشرين ضئيلة. ويستطيع الرئيس أن يطلق احتياطيات النفط الاستراتيجية للتعويض عن حظر النفط. ويمكن لوزارة الأمن الداخلي أن تعالج التهديد السيبراني. ويمكن للجيش الأميركي أن يستجيب لهجوم إرهابي، أو توقف النقل، أو أعمال شغب واضطرابات مدنية. بعبارة أخرى، تمتلك الحكومة الفيدرالية العديد من الأدوات والموارد لمنع الانهيار الاقتصادي.
وعليه، انهيار الاقتصاد الامريكي، سيؤدي الى فقد القدرة على الوصول إلى الائتمان. وستغلق البنوك أبوابها. إن الطلب على الغذاء والغاز وغير ذلك من الضروريات سوف يفوق العرض. وإذا أثر الانهيار على الحكومات المحلية والمرافق العامة، فقد لا تتوفر المياه والكهرباء. وإن الانهيار الاقتصادي في الولايات المتحدة من شأنه أن يخلق حالة من الذعر العالمي. وسوف ينخفض الطلب على الدولار وسندات الخزانة الأميركية. وسوف ترتفع أسعار الفائدة إلى عنان السماء. وسوف يسارع المستثمرون إلى العملات الأخرى، مثل اليوان أو اليورو أو حتى الذهب. ولن يؤدي هذا إلى التضخم فحسب، بل إلى التضخم المفرط، حيث يفقد الدولار قيمته أمام العملات الأخرى.
ولفهم كيف ستبدو الحياة أثناء الانهيار الاقتصادي، فنتذكر الكساد الأعظم. فقد انهارت سوق الأسهم وبحلول عام 1932، أصبح واحد من كل أربعة أميركيين عاطلاً عن العمل. وانخفضت أجور أولئك الذين ما زالوا يعملون بشكل حاد ــ حيث انخفضت أجور التصنيع بنسبة 32% من عام 1929 إلى عام 1932. وانخفض الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي إلى النصف تقريباً. وانتقل آلاف المزارعين وغيرهم من العمال العاطلين عن العمل إلى كاليفورنيا وأماكن أخرى بحثاً عن عمل. وغادر مليونان ونصف المليون شخص ولايات الغرب الأوسط التي كانت تشهد عواصف الغبار. ولم ينتعش مؤشر داو جونز الصناعي إلى مستواه قبل الانهيار إلا في عام [4]1954.
لماذا القلق بشأن الانحدار الامريكي؟
من خلال ظاهرة القياس، فإن الواقع الاقتصادي للولايات المتحدة الذي يشهد انحدار مقارنة بقوى أخرى في العالم وعلى راسها الصين والهند. ويمكن الاستدلال به لوجود نوعا من الانحدار النسبي. فعلى سبيل المثال، إن البريطانيين، في نهاية المطاف للإمبراطورية البريطانية، لم يكتسبوا سمعة السخرية من أنفسهم، إلا بعد أن ترسخت جذور الانحدار الاقتصادي النسبي الذي أصاب بلادهم. ولكن هناك تفسير آخر أكثر تعقيداً ولكنه أكثر دقة. فقد لا يكون الانحدار نتيجة للانحدار الفعلي بقدر ما هو استجابة للتغير الاقتصادي والاجتماعي السريع. والواقع أن التغيير مزعج دوماً، وكثيراً ما يُنظَر إليه على نحو سلبي، وذلك للسبب البسيط المتمثل في أن الخاسرين يميلون إلى التعبير عن آرائهم أكثر من الفائزين. ولكن الشروط المتغيرة للمنافسة العالمية تمثل أيضاً أزمة خاصة بالنسبة لمؤسسات المجتمع الامريكي ـ
إن الكتب والتقارير التي تسلط الضوء على المناقشة الدائرة حول الانحدار. وبعضها عبارة عن نصوص كلاسيكية تستعرض نقاط الضعف المفترضة في الاقتصاد والمجتمع الامريكي عموماً. وبعضها الآخر يشكك في فكرة الانحدار الاقتصادي الأمريكي ذاتها ويقدم وجهة نظر أكثر تفاؤلاً بشأن الاقتصاد وآفاقه. ولكن أياً منها لا يدرك تمام الإدراك التحديات الحقيقية التي تواجه المجتمع الامريكي في تعامله مع الحقائق الاقتصادية والاجتماعية الجديدة. وإذا نظرنا إلى هذه النصوص مجتمعة، فإنها تشير إلى أنه في حين أن شعبية الكتابات التي تنادي بانحدار الولايات المتحدة تقول شيئاً مهماً عن امريكا المعاصرة، فإنها لا تعكس بالضبط ما يعتقده أغلب المؤلفين الذين ينتمون إلى هذا التيار. ويفشل هؤلاء المؤلفون في إدراك الأهمية الحقيقية للمناقشة حول انحدار الولايات المتحدة.[5]
لقد كانت الولايات المتحدة في أوائل عام 2024، في وضع سياسي يبدو الانهيار فيه أقرب إلى حرب شبه أهلية. ودعا الساسة المنتخبون في تكساس إلى تحدي السلطات الفيدرالية بمساعدة عسكرية، بدعم من حكام 25 ولاية أخرى. ولكن على النقيض من الحرب الأهلية الأمريكية الأولى في ستينيات القرن التاسع عشر، لا توجد أي علامة على إنشاء جيوش كبيرة للولايات لمعارضة الجيش الأمريكي، والولايات نفسها منقسمة داخلياً إلى الحد الذي قد يجعل الحرب التالية “حرباً داخل الولايات” بقدر ما هي “حرباً بين الولايات“. ولا يقترح أحد في الهيئة التشريعية في تكساس تمويل الإدارة العسكرية في تكساس إلى المستوى الذي قد يشكل فيه أكثر من معارضة رمزية للقوات الفيدرالية. لذلك من المرجح أن تتخذ المعارضة العنيفة للولايات المتحدة شكل “عنف عشوائي” او عنف مستقل – وذلك في شكل تفجيرات وإطلاق نار عشوائي. يبدو من المشكوك فيه ما إذا كانت هذه الهجمات يمكن أن تصبح مركزة بما يكفي لاستهداف المباني الفيدرالية والتجمعات السياسية.
ويخلص علماء الانهيار مثل “بيتر تورشين” إلى أن المجتمعات الحديثة في جميع أنحاء العالم أصبحت مثقلة بالنخب التي ليس لديها ما هو أفضل للقيام به من إثارة المشاكل، وسوف تتضخم فعاليتها من خلال نماذج لغة الذكاء الاصطناعي التي ستؤدي إلى بطالة كبيرة. وخلص آخرون، مثل جوزيف تاينتر، إلى أن الانهيار هو نتيجة للتعقيد المفرط في حد ذاته. وقد يتوقعون أن الذكاء الاصطناعي سيجعل من الممكن رفع التعقيد المستدام إلى مستوى جديد، وأن الانهيار بسبب عدم الكفاءة البنيوية أكثر بعدا وتأثيرا. فباستثناء التدخل الإلهي في الامور على النحو الذي تصوره “إسحاق أسيموف” في قصته القصيرة “الصراع الحتمي”، لا يمكن للذكاء الاصطناعي حماية الحكومات البطيئة التغير والعاجزة عن العمل من صراعاتها الداخلية الحزبية. وقد زعم في العديد من الأماكن أن خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي التي تختار المحتوى الجذاب من أجل تعظيم عائدات الإعلانات تزيد من الغضب والتحزب نتيجة لذلك، على الرغم من حظر شروط الخدمة وجهود الاعتدال للحد من الخطاب العنيف. ولعل هذا ما يفسر لجوء الولايات المتحدة الى حظر استخدام التيك توك داخل الأراضي الأمريكية.
تداعيات محتملة للانهيار المحتمل:
أن التأثير العالمي لانهيار الولايات المتحدة سوف يمتد إلى خمسة مجالات: النشاط الاقتصادي العام، والنشاط الاجتماعي والثقافي، والجغرافيا السياسية، والتنمية التكنولوجية، والاستقرار البيئي، يمكن توضيحهمم كالتالي:
1- النشاط الاقتصادي العام: إن خسارة الولايات المتحدة كقوة اقتصادية من شأنها أن تلحق ضرراً بالغاً بالاقتصاد العالمي، ولكن ليس بشكل خطير. فالولايات المتحدة هي أكبر اقتصاد على هذا الكوكب، وخسارة الولايات المتحدة سوف تكون خسارة كبيرة. وسوف تتضرر كندا والمكسيك، أكبر شريكين تجاريين للولايات المتحدة، بشكل بالغ وربما تسقطان في حالة ركود. وسوف تفقد الصين أكبر عميل لها في مجال التصدير، وسوف يخنق تقدمها نحو وضع الدولة المتقدمة. وقد لا تتأثر مناطق أخرى بشكل كبير. وسوف يؤدي عدم استقرار الدولار كعملة احتياطية عالمية إلى خلق مشاكل كبرى في المجتمع المالي العالمي[6].
إن من بين السمات المهمة الأخرى للاقتصاد الأمريكي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، هي التوزيع الواسع نسبياً لثمار الهيمنة الاقتصادية العالمية في الداخل. ويبدو أن هذا المزيج بين النمو الاقتصادي السهل والمساواة الاجتماعية الواسعة النطاق كان مصمماً خصيصاً لتحقيق وعد الحلم الأمريكي. ولكن التغيرات الاقتصادية ذاتها التي أدت إلى زيادة المساواة بين الدول الصناعية كانت أيضاً سبباً في زيادة التفاوت الاجتماعي داخل المجتمع الأمريكي. والواقع أن قدراً كبيراً من القلق بشأن الانحدار الاقتصادي الأمريكي هو في واقع الأمر قلق بشأن العواقب الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على تزايد التفاوت الاجتماعي.
2- العواقب الاجتماعية: إن التحدي الحقيقي الذي يواجه المجتمع الأمريكي لا يتلخص في عكس اتجاه الانحدار الاقتصادي؛ بل يتلخص في معالجة العواقب الاجتماعية المترتبة على الاقتصاد الجديد. إن نهاية الهيمنة الاقتصادية الأمريكية وصعود التفاوت الاجتماعي يشكلان تحدياً فريداً من نوعه: كيف نعيد اختراع التزام أمريكا المزدوج بالفرص الاقتصادية والمساواة الاجتماعية في بيئة اقتصادية جديدة جذرياً. ومن عجيب المفارقات أن الانشغال الشديد بالانحدار قد يمنع المجتمع الأمريكي ذاته من مواصلة العمل. ويقدم كتاب “بناء امريكا التنافسية” تحليل أكثر تعقيداً من نفس الأطروحة الانحدارية. فهو يبدأ بإضافة عدد من التحذيرات إلى تعريف وكالة الطاقة الأمريكية للقدرة التنافسية. فلا ينبغي للاقتصاد الأمريكي أن يجتاز اختبار الأسواق العالمية وأن يحقق مستويات معيشية أعلى فحسب. بل لابد وأن يتم تمويل النمو الاقتصادي محلياً، وأن يكون مستداماً على المدى الطويل، وأن يكون كافياً “لزيادة دخول جميع الأميركيين[7]“.
3- على المستوى الجيوسياسي: قد تضطر أوروبا إلى الدفاع عن نفسها ضد التهديدات المختلفة. وسوف يستمر الشرق الأوسط في نفس الفوضى من الجهادية الإسلامية الداخلية التي كانت عليه منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية. وسوف يصبح وجود إسرائيل أكثر خطورة. وسوف تفقد إمبراطوريات أوبك أعظم منافس لها بفرض استمرار الأوبك نفسها. وسوف تصبح هيمنة الصين في الشرق الأقصى غير قابلة للشك في النهاية. ومن المؤكد تقريبا أنها سوف تغزو تايوان، وقد تبدأ في مراقبة عدوها القديم اليابان. ولن يكون للقوة الناعمة الصينية على أفريقيا وأميركا الجنوبية أي منافسين.
إن الهجمات على تايوان سوف تشكل انتكاسة تكنولوجية كبرى، لأن أشباه الموصلات الأكثر قوة تصنع هناك من قبل شركة TSMCومع ذلك فإن المصدر الوحيد لمكونات الطباعة الحجرية لأشباه الموصلات الأكثر تقدما هو ASML، وهي شركة هولندية، والتي تقع خارج نطاق الصين. وحتى مع عدم تأثر سلاسل التوريد الخاصة بها إلى حد كبير، فإن البناء التفاعلي لمصانع أشباه الموصلات المتقدمة لا يزال يستغرق سنوات. كذلك البرمجيات التي تستخدم القوة الحسابية لتلك الأجهزة شبه الموصلة، قد تفقد زخمها الإبداعي الذي ينشأ في وادي السليكون، على الرغم من أن الكثير من الترميز لتلك التطبيقات يتم في الخارج في دول مثل الهند. إن تكنولوجيا الطاقة الكهربائية المتقدمة ستكون قادرة بسهولة على سد الفجوة الناجمة عن فقدان الولايات المتحدة. تنتج شركات أوروبية مثل سيمنز معدات نقل الطاقة لا مثيل لها. وهي وشركة فيستاس الدنماركية تنتجان توربينات الرياح أكثر من أي شركة أخرى.
عندما يتعلق الأمر بالنقل، لم تعد الولايات المتحدة هي القائد بلا منازع في التكنولوجيا، بل إنها مجرد مشارك في سباق متقارب. تظل الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي وضعت البشر على سطح القمر، ولكن هناك الآن خمس دول قامت بهبوط سلس بواسطة مسبارات غير مأهولة. التقت المركبات الفضائية اليابانية بالكويكبات وأعادت عينات إلى الأرض. وضع الاتحاد السوفييتي مركبات هبوط على كوكب الزهرة منذ فترة طويلة، بينما يواصل مسبار أوروبي إرسال صور من المريخ. وبفضل صواريخ سبيس إكس القابلة لإعادة الاستخدام، لا تزال الولايات المتحدة تحتل الصدارة في كمية البضائع التي يتم نقلها إلى المدار، ولكن هناك عدد كبير من الشركات الأخرى، ومعظمها أمريكية بالتأكيد، تتسابق لتطبيق إعادة الاستخدام.
استكمالا لما سبق، يمكن القول إن الولايات المتحدة ستفقد صدارتها في تكنولوجيا الطيران. حيث وعاني شركة بوينج من أزمة ضمان الجودة، في حين تعاني شركة إيرباص من تراكم تراكمي منذ تسع سنوات. والولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تمتلك قاذفات شبحية طويلة المدى، ولكن الشبحية تحولت إلى كابوس صيانة جعل من مقاتلة الشبح إف-22 آخر مقاتلة من نوعها. وقد أثبتت الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط مرة أخرى أن “الكمية لها جودة خاصة بها”، الأمر الذي يمنح الطائرات بدون طيار الرخيصة من دول مثل تركيا وإيران، والتي يمكن إلقاؤها في المعركة دون تردد، ميزة واضحة على المركبات غير المأهولة المتطورة والتي تعتبر ثمينة للغاية بسبب أنظمة الشراء الرخيصة التي لا يمكن استخدامها إلا نادراً.
كذلك الولايات المتحدة ليست حتى في المنافسة على الصدارة في تكنولوجيا السكك الحديدية المتقدمة. فالسكك الحديدية عالية السرعة منتشرة في أوروبا والصين واليابان، حيث تكمل الصين واليابان أنظمة ماجليف بسرعة تكاد تعادل سرعة الطائرات، في حين تكافح الولايات المتحدة للحفاظ على خطها الوحيد الذي يتجاوز 100 ميل في الساعة. لطالما كانت تكنولوجيا السيارات والشاحنات منافسة عالمية. لقد أنتجت تويوتا ومازدا محركات احتراق داخلي تتجاوز في تطورها أي شيء تقدمه الشركات الأمريكية لسنوات. تظل Waymo الشركة الوحيدة التي توفر سيارات ذاتية القيادة بالكامل للاستخدام العام، في حين تعد مرسيدس حاليًا الشركة الوحيدة التي توفر سيارات خاصة مرخصة للعمل بشكل مستقل تمامًا على طرق مقيدة. تجاوزت BYD الصينية مؤخرًا شركة Tesla كأعلى منتج من حيث الحجم للسيارات الكهربائية، بينما تظل فولكس فاجن وتويوتا من القادة بلا منازع في حجم سيارات الاحتراق الداخلي..
4- التداعيات الثقافية على مستوى العالم: لن تتأثر الثقافة العالمية بشكل كبير. وسوف يفتقد العالم أفلام هوليوود الضخمة وإصدارات ألعاب الفيديو الجديدة، ولكن بوليوود الهندية قد تسد الفجوة. لقد كانت الثقافة الرفيعة المستوى للموسيقى السيمفونية والفنون الجميلة والأزياء خاضعة لسيطرة أوروبا على الدوام، وسوف تظل او تعود لذلك. وسوف تكون موسيقى البوب الكورية تحكم الموسيقى الشعبية على مستوى العالم. وعليه، قد يؤدي الانهيار الأمريكي على الصعيد الثقافي إلى نهضة ببساطة لأنه مع رحيل الولايات المتحدة كقوة ثقافية، ستكون الثقافات المحلية والوطنية قادرة على ملء الفراغ بالأفلام والبرامج التلفزيونية ووسائل الإعلام العامة، وبعض ذلك سوف يجد نفسه على المسرح الدولي. على سبيل المثال، أنه بدلاً من أن تكون أمريكا مركزًا لجميع وسائل الإعلام في الغرب، لدينا على الأقل وسائل الإعلام المتحركة من اليابان، وأفلام الحركة الحية من المملكة المتحدة، والخيال العلمي من كندا (انتقل The Expanse وStar Trek بالفعل إلى هناك، والمسلسلات من أستراليا ومسلسلات Murder Mysteries من دول الشمال الأوروبي.
ختاما، يمكن القول ان هناك مؤشرات عديدة تشير إلى تناقص القوة والهيمنة الأمريكية على الصعيد العالمي، وأن هذه المؤشرات تم رصدها من عدة عقود. ومع ذلك وحتى باستخدام معايير أصحاب نظرية الانحدار، فليس من الواضح أن الولايات المتحدة فقدت قدرتها التنافسية أو التواجد العسكري الذي قد يصل لنحو ثمانمائة قاعدة عسكرية بالخارج. وإذا أخذنا قطاع التصنيع على سبيل المثال. فقد تحسن أداء شركات التصنيع الأميركية بشكل ملحوظ منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين، عندما ارتفعت صرخة القدرة التنافسية لأول مرة. وتتصدر الشركات الأمريكية العالم في العديد من القطاعات، بما في ذلك التكنولوجيا الحيوية، وبرامج الكمبيوتر، والفضاء الجوي. ولقد أسفرت الاستجابة للتحذيرات المبكرة بشأن القدرة التنافسية عن نتائج ملموسة في صناعات متنوعة مثل صناعة الصلب. وحتى البيانات الاقتصادية تقدم استنتاجاً أكثر توازناً من ذلك الذي توصل إليه أصحاب نظرية الانحدار. فمن السابق لأوانه أن نفترض، استناداً إلى مقاييس اقتصادية صارمة، أن الولايات المتحدة في حالة انحدار اقتصادي. خاصة وأن العالم الآن يعد كتلة واحدة من خلال سلاسل الامداد والتموين ويعمل من خلال نظرية الأواني المستطرقة، ومن ثم فإن ما يحدث في الولايات المتحدة، يؤثر في الساحة الإقليمية والدولية، وقد لا يكون منحصرا على الولايات المتحدة فقط.
وبينما كانت البيانات المصممة لإثبات الانحدار الاقتصادي الأمريكي متباينة، إلا أن هناك مع ذلك ارتباطاً فكرياً بين القدرة التنافسية العالمية والانحدار. وهذا هو التقاطع الذي استكشفه الخبير الاقتصادي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا “ليستر ثورو” في كتابه “وجهاً لوجه”. ويطرح “ثورو” فرضين مترابطين. أولاً، تعمل التغيرات في المنافسة العالمية على جلب الولايات المتحدة إلى مواجهة أكثر مباشرة مع منافسيها الاقتصاديين الرئيسيين مقارنة بما كانت عليه الحال في الماضي. وثانياً، تضع القواعد الجديدة للمنافسة العالمية الرأسمالية “الأنجلوساكسونية” في وضع غير مؤات بشكل واضح.
ويشير”ثورو” إلى أن المنافسة العالمية كانت في الأساس منافسة “متخصصة”، وهي لعبة اقتصادية يقدم فيها كل لاعب شيئاً مختلفاً، ونتيجة لهذا يفوز الجميع. وكما يقول ثورو: “كانت الولايات المتحدة تصدر منتجات زراعية لا تستطيع زراعتها، ومواد خام لا تملكها، ومنتجات عالية التقنية، مثل الطائرات النفاثة المدنية، التي لا تستطيع تصنيعها.[8]
وأخيرا، فإن الأميركيين هم من الشعوب القليلة في العالم الذين يتصورون أنفسهم يحملون رسالة عالمية. والواقع أن المنافسة الناجحة من جانب الدول الأخرى تهدد هذا الشعور بالتفرد والمصير الوطني. والواقع أن صعود المساواة في الخارج لا يدفع الأميركيين إلى إجراء تعديلات مؤلمة على هويتهم في العالم فحسب؛ بل ويفرض عليهم أيضاً النظر إلى حالة الأمور في وطنهم. وهذا بدوره يؤدي إلى المزيد من الانزعاج والمزيد من الذخيرة التي يستخدمها أصحاب نظرية الانحدار. ونظل في النهاية بين امرين: الانحدار ام الاستمرار. ولا شك ان الحتمية التاريخية تؤكد الانهيار ولكنها لا تعطي وقت معين وان الإشارات الى ذلك ليست يقينية بعد. كما ان الاستمرار يكتنفه تحديات كثيرة ليظل النظام العالمي فوضيا ومتباينا ومتناقضا وان تكاتفت الجهود لتنظيمه.
________________________________________________
[1] -https://www.quora.com/How-would-life-be-like-in-the-USA-after-a-complete-collapse-of-the-government-What-actions-would-people-take-and-what-would-be-the-reasons-behind-them
[2] -د.مصطفى عيد إبراهيم، تحديات الداخل الأمريكي،مركز رع للدراساتhttps://rcssegypt.com/19297
[3] -https://rcssegypt.com/19437
[4] -https://www.thebalancemoney.com/u-s-economy-collapse-what-will-happen-how-to-prepare-3305690
[5] – https://hbr.org/1992/07/is-america-in-decline
[6] -https://medium.com/@GMcKCypress/what-would-world-civilization-look-like-if-the-us-collapses-39137238d0f3
[7] – https://hbr.org/1992/07/is-america-in-decline
[8] – https://hbr.org/1992/07/is-america-in-decline