هل دخل الاقتصاد الأمريكي مرحلة الركود الفعلي؟
تعددت التصريحات التى صدرت مؤخراً عن أداء الاقتصاد الأمريكي، لتشير إلى حدوث حالة من الركود الاقتصادي التى يعانى منها ذلك الاقتصاد الأكبر على مستوى العالم، ويعرف الركود التضخمي بأنه تباطؤ في معدلات النمو الاقتصادي مصحوبًا بارتفاع معدلات التضخم- أى نمو سلبي في الناتج المحلي الإجمالي خلال ربعين متتاليين من العام(مدة 6 شهور). وتزداد بذلك المخاوف بشأن العدوى التى ستصيب معظم اقتصادات العالم نتيجة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، ومن قبلها جائحة كورونا.
كما أن التوقعات الحالية تشير إلى أن الاقتصاد الأمريكي سيستمر فى الركود في النصف الأول من العام المقبل؛ وبالتالي من الممكن أن تؤدي سياسة التشديد النقدية إلى تسريع حدوث مخاطر الركود بحلول نهاية العام الجاري. وعلى الرغم من خروج المسئولين الأمريكيين بدءًا من “جانيت يلين” وزيرة الخزانة وحتى الرئيس الأمريكي “جو بايدن” شخصيًا لنفي حتمية وقوع الاقتصاد في براثن الركود، إلا أن الشكوك تتزايد حيال قدرة الاقتصاد على مواصلة النمو.
ومن هذا المنطلق، نستعرض أهم تصريحات المؤسسات والصحف العالمية بشأن الركود الأمريكى، كذلك أهم المؤشرات الدالة عليه، لنستكشف طبيعة الحالة التى يمر بها الاقتصاد الأمريكى، وما إذا كان يعانى الانكماش المؤقت أم الركود الذى قد يطول نسبياً.
تصريحات دولية بشأن الركود الأمريكي:
رصدت صحيفة ” واشنطن بوست ” الأمريكية، في تقرير لها العديد من المؤشرات الدالة على حالة الركود الاقتصادي الأمريكي، حيث ارتفعت معدلات خسائر الوظائف، وتراجعت الأجور، وانخفض مستوى الإنفاق الاستهلاكي بوجه عام. كما توقع ” دويتشه بنك” حدوث ركود اقتصادي واستمراره حتى مطلع 2023، مؤكدا على أن الاقتصاد الأمريكي قد يسجل انكماشا بنحو 0.5% خلال العام المقبل، في حين توقع وصول معدل البطالة إلى ذروته ليقترب من 5.5% بحلول 2024.
كما قلص صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكي في تقييم سنوي للسياسات الاقتصادية الأمريكية، ويتوقع نمو إجمالي الناتج المحلي الأمريكي بنسبة 2.9 % بنهاية عام 2022، مقابل أقرب توقع له ونسبته 3.7 % في أبريل الماضى 2022. وبالنسبة لعام 2023، خفض صندوق النقد الدولي توقعه لنمو الاقتصاد الأمريكي إلى 1.7 % بدلاً من 2.3 %. كما حذر خبراء الاقتصاد لدى ” جولدمان ساكس” – وهى المؤسسة الأمريكية للخدمات المالية الاستثمارية – من احتمال ركود الاقتصاد الأمريكي بشكل أكبر بنهاية العام الجارى 2022. كما خفضوا توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد الأمريكي، حيث ترى أن هناك احتمالا بنسبة 30% لدخول ركود خلال العام المقبل، مقارنة بحوالي 15% سابقا. كما أعلن البنك العالمى الشهير (جيه بي مورغان) تراجع نسبة النمو من 2.4% في النصف الثاني من العام الحالي إلى 1% في النصف الأخير من 2023، والذي سيشهد تباطؤ وتيرة رفع أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي، مثلما كان يُتوقَّع.
مؤشرات دالة:
أظهرت مؤشرات رسمية أن أكبر اقتصاد في العالم انكمش بما يفوق التوقعات ليسجل تراجعا بنحو 1.6% خلال الربع الأول من العام الجاري 2022، واستمر فى الهبوط بنسبة 1% فى الربع الثانى من العام ذاته، مع التوقعات باستمرار التراجع. وذلك بعد أن سجل سابقا نموا قويا بلغ 6.9% لعام 2021، يأتي ذلك بعد أن شهدت الولايات المتحدة الأمريكية خلال مايو من العام ذاته أعلى مستويات التضخم لم تشهدها منذ حوالي 41 عاما، ليصل إلى مستوى 8.6%. وهو ما دفع بنك الاحتياطي الفيدرالي لرفع سعر الفائدة عدة مرات كمحاولة لاستيعاب هذا التضخم. وإن كانت تلك السياسات النقدية المتشددة وتنفيذ أكبر زيادة في أسعار الفائدة منذ عام 1994 كانت سببا فيما يسمى بـ ” الهبوط غير الناعم “، بمعنى أنه أثر سلباً على معدل النمو الاقتصادى، وعمليات الإنتاج والتشغيل. هذا بالإضافة عن تراجع الأحوال الميعشية، ففي أحدث مسح للأوضاع المالية للعائلات أجراه مكتب الإحصاء الأمريكي؛ أبلغ أكثر من ثلث المشاركين في الاستطلاع عن معاناتهم من صعوبات إزاء سداد فواتيرهم، وهو معدل قريب من أسوأ البيانات التي شهدتها فترة ذروة تفشي وباء كورونا في 2020 .ومع ارتفاع الأسعار لوحظ تراجع إقبال الأمريكيين على الشراء خاصة السلع التي ليست من الضروريات. كما أظهرت مبيعات التجزئة إشارات طفيفة على الضعف. وهى الانعكاسات السلبية التى سبق واعترف بها رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي للمرة الأولى في 17 مايو 2022، بأنَّ توجه البنك المركزي نحو سياسة نقدية أكثر تشدداً ربما يسفر عن زيادة معدلات البطالة، ومعدلات التضخم.
وعلى الرغم من أن الأرقام الرسمية تفيد بأن معدل البطالة نحو3.6% فى الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن الواقع يشير إلى تزايد ملحوظ فى أعداد العاطلين بعد قيام العديد من الشركات بتريح عمالتها، وتراجع فرص العمل المتاحة أمام المواطنين. إذ كشفت بيانات وزارة العمل الأمريكية ارتفاع عدد طلبات إعانات البطالة من 4 ألاف طلب أسبوعيا إلى 235 ألف طلب .
كما تراجع سوق الأسهم بالبورصة الأمريكية، في ظل توقُّعات أرباح للشركات منخفضة إلى حد كبير مما عزز من مخاوف تراجع النمو. كما أعلن معظم أرباب الشركات الصغيرة الذين شملهم استطلاع للاتحاد الوطني للأعمال المستقلة في شهر أبريل الماضي لعام2022، عن تدهور ظروف شركاتهم واحتمالية استمرار التراجع في الشهور الـ6 القادمة، وهي التوقُّعات الأشد تشاؤماً خلال 48 سنة. حيث أكد الثلث منهم، إنَّ معدلات التضخم كانت بمثابة أكبر صعوبات لهم، وهي الأعلى منذ 1980.
ولم تتوقف المؤشرات السلبية على عام 2022 فقط، بل امتدت إلى العام المقبل 2023، خاصةً إذا أدت زيادة أسعار الفائدة في بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى القضاء على الطلب من المستهلكين والشركات أو إذا فشلت استراتيجيته في تخفيف التضخم. فتشير التوقعات لعام 2023 إلى أن الناتج المحلي الإجمالي سينمو بنسبة 2.3٪. والبعض الآخر أكثر تشاؤما. ويتوقع الاقتصاديون في ” دويتشه بنك” هبوطًا صعبًا للاقتصاد العام المقبل، كما أضاف أن الولايات المتحدة ستدخل على الأرجح في “ركود معتدل” بحلول نهاية عام 2023 بفعل رفع الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة.
تأسيساً على ما سبق، يمكن القول بأن التنبؤ بالركود يكون بناء على إشارات هامة، فحين يرتفع التضخم بشكل مستمر، وتصل البطالة إلى معدلات مرتفعة نسبيا، فان تلك مؤشرات تدل على أن الاقتصاد الأمريكي يعانى حالة من الإنهاك وأنه سيشهد ركودًا إذا استمر الوضع حتى نهاية العام الحالي 2022، وأصبح من المتوقع أن يعانى الاقتصاد الأكبر فى العالم من الركود النمطي، وهذا النوع هو الأكثر شيوعًا في تاريخ الأزمات الاقتصادية، فى ظل انخفاض حاد في الصادرات الأمريكية؛ وإعادة تخزين البضائع بشكل أبطأ في المخازن والمستودعات؛ وخفض الإنفاق من قبل الحكومات الفيدرالية وحكومات الولايات والحكومات المحلية، وارتفع معدلات التضخم والبطالة .أما النوع الثاني من الركود وهو الأخطر فهو ما يطلق عليه ” ركود الميزانية “، والذي يحدث حين تنشأ فقاعة ديون، مما يؤدي إلى إنفاق الأسر والمستهلكين قدرًا كبيرًا من دخلهم لسداد الديون، وعادة ما يؤدي هذا الركود إلى دورة من التباطؤ الاقتصادي وبطالة ضخمة وهو ما لم يصل إليه الاقتصاد الأمريكي بعد.
وتاريخيًا، نرى أن الوضع حاليًا يشبه ما واجهه الاقتصاد الأمريكي في أوائل الثمانينيات حين شن الاحتياطي الفيدرالي هجومًا كاسحًا على التضخم بقيادة “بول فولكر” رئيس البنك في ذلك الحين، مما أدى إلى ركود كبير، بينما يتوقع البعض تراجعًا مماثلًا لما أعقب أزمة الطاقة في السبعينيات، إذ يجمعهما الارتفاع في أسعار النفط والأغذية كما هو حاليا. لكن محاولات التشبيه هذه تنطوي على بعض الاختلافات، فالتضخم لا يحظى بالرسوخ نفسه الذي شهده في بداية عهد “فولكر”، كما أن الاقتصاد يواجه الآن عوامل معاكسة أكثر تعقيدًا، بالإضافة إلى أن الطبيعة غير المعتادة للتراجع الاقتصادي الكبير المدفوع بجائحة كورونا، ومحاولات التعافي في عام 2021، يحدان من الارتباط بالأحداث السابقة.